ريتا التحقت بخدمة عائلة الدوق بيلتون عندما كانت في نفس عمر ماري تقريبًا.
كانت عائلة ريتا فقيرة من الأصل، وزادت حالتها سوءًا عندما أُصيب والدها، الذي كان العائل الأساسي، بمرض أقعده. أصبحت الأيام تمر على ريتا وعائلتها وهم يتخطون يوماً دون طعام وآخر بالكاد يجدون ما يسد الرمق.
والدتها كانت امرأة مجتهدة تعمل بلا كلل ليلًا ونهارًا، ولكن ما تجنيه بالكاد يكفي لتوفير ثمن أدوية والدها، وكان إطعام الأسرة المكونة من ستة أفراد بشكل كافٍ حلمًا بعيد المنال. أما أشقاؤها الصغار، فكانوا يشتكون من الجوع يوميًا بصوت يقطع القلب.
“لا يمكن أن نستمر هكذا!”
في أحد الأيام، وبعد أن أمضت العائلة ثلاثة أيام بلا طعام، قررت ريتا، وهي الكبرى، أن تخرج للعمل بنفسها. غادرت المنزل مصممة على إيجاد طريقة لجلب المال.
لكن الحماسة التي ملأت قلبها لم تكن كافية، فإيجاد عمل لطفلة صغيرة بمفردها لم يكن سهلاً على الإطلاق. قوبلت بالرفض عشرات المرات.
“تبحثين عن عمل؟ هنا لا يوجد عمل لطفلة صغيرة مثلك.” “يا للهول، ماذا يمكن لهذه اليدين الصغيرتين أن تفعلا؟ عودي إلى المنزل!” “تحركي! لا ترغمي الناس على تضييع وقتهم عليك!”
كانت الردود القاسية من الكبار تزيد من ألمها ويأسها. فهل عليها أن تعود للمنزل وتنتظر الموت جوعًا مع إخوتها الصغار؟ شعرت بالإحباط التام.
لكن الأمل لاح في الأفق عندما وجدت أخيرًا من يقبل بها: قصر عائلة بيلتون.
في البداية، رفضوا توظيفها بحجة أنها لا تحمل أي توصيات. لكن بالصدفة، سمعت إيفون، إحدى سكان القصر، قصتها المؤلمة. وبكرمها، قررت إيفون أن تمنحها فرصة للعمل.
ليس هذا فحسب، بل عندما علمت إيفون أن أشقاء ريتا يعانون من الجوع، طلبت من كبير الخدم أن يُعطيها راتبها مقدمًا. ورافقت كلماتها اللطيفة تلك المبادرة، حيث ربتت على رأس ريتا قائلة: “لا بد أنك مررت بالكثير.”
كانت كلماتها بسيطة، لكنها غمرت قلب ريتا المنهك بالدفء والراحة.
“شكراً جزيلاً! شكراً لكم من أعماق قلبي!”
انحنت ريتا عشرات المرات تعبيرًا عن امتنانها. ومنذ ذلك الحين، قررت أن تعمل بجد لتعبر عن امتنانها لإيفون.
خشيت أن تُسبب لها الإحراج إن لم تؤدِّ عملها بشكل جيد بسبب صغر سنها. لذلك، كانت تستيقظ أبكر من الجميع وتنام بعدهم. ولم تتردد في أداء أصعب وأثقل المهام التي كان الجميع يهرب منها.
بعد حوالي أسبوع من عملها في القصر، التقت ريتا لأول مرة بأنجيلا، ابنة العائلة الصغيرة.
بينما كانت ريتا جاثية على ركبتيها تنظف الأرضية بحرص، لاحظت فستانًا فخمًا يقترب منها. كان لونه أصفر لامعًا، مع حذاء أرجواني بارز من تحته يبدو وكأنه لم يلمس الأرض من قبل. رفعت ريتا رأسها ببطء، كمن ينظر إلى السماء.
أمامها كانت تقف فتاة في عمرها تقريبًا، تحدق بها ببرود. كانت جمال الفتاة مذهلًا لدرجة أن أنفاس ريتا توقفت للحظة. كانت الفتاة تبدو وكأنها وُلدت لتسيطر، حتى الطريقة التي نظرت بها من فوق كانت كجزء من تلك الأناقة المطلقة.
“لم أرَ وجهك من قبل. من تكونين؟”
كانت ريتا مذهولة من جمال الفتاة لدرجة أنها ظلت تحدق بها دون إجابة. لكن نبرة صوتها الواضحة أيقظتها من شرودها، فقفزت واقفة بسرعة. ولشدة ارتباكها، كادت تتعثر بفستانها وتسقط لولا أنها تماسكت في اللحظة الأخيرة.
“مرحباً، اسمي ريتا. بدأت العمل في هذا القصر منذ أسبوع.”
انحنت ريتا برفق بحيث ظهر تواضعها، ثم جمعت يديها معاً باحترام ونظرت إلى الفتاة.
لم ترد الفتاة، لكنها أيضاً لم تتجاهل تحية ريتا تماماً. وقفت صامتة، ولكن عينيها كانتا مركّزتين على ريتا بعمق. كانت نظراتها مشرقة لدرجة أن ريتا شعرت برغبة في تغطية عينيها لتخفيف تأثير تلك الإشراقة.
وفجأة، سُمع صوت خطوات خفيفة واقتربت الفتاة خطوة واحدة، مما جعل ريتا تشتم عطراً فاخراً يتسلل إلى أنفها ويمنحها شعوراً بالانتعاش.
“هل تعرفين من أنا؟”
كان سؤالها المباغت مفاجئاً لريتا.
“أنتِ… الآنسة أنجيلا، أليس كذلك؟”
ترددت ريتا في الإجابة، خائفة من أن تكون مخطئة. ولكن ردت الفتاة بابتسامة خفيفة على شفتيها.
“إذًا كنتِ تعرفين.”
كانت كلماتها أشبه بحديث مع النفس، لكنها دخلت مباشرة إلى أذن ريتا.
في الحقيقة، ريتا لم تكن تعرف ملامحها جيداً. لكنها خمّنت أن هذه الفتاة الفخمة، التي في مثل عمرها تقريباً، لا يمكن أن تكون سوى أنجيلا بيلتون، ابنة هذا القصر العريقة.
وبما أن تخمينها كان صحيحاً، لم تجد داعياً لتصحيح الموقف، فأجابت بكل بساطة: “نعم، الآنسة أنجيلا.” وعندها ازدادت الابتسامة على وجه الفتاة.
أشارت الخادمة برأسها نحو القلادة. عندها شدّت ريتا قبضتها على القلادة تلقائيًا، كما لو أنها تخاف أن تُنتزع منها، إذ اعتادت في حيّها الفقير أن تكون السرقة أمرًا شائعًا. لكن الخادمة لم تبدُ مهتمة بالقلادة على الإطلاق، بل تابعت حديثها ببرود:
“من الأفضل أن تعيديها.”
حدقت ريتا إليها بعينين متسعتين، وكأنها لا تفهم شيئًا. وعندما رأت الخادمة هذا الرد، اقتربت منها بحذر وهمست:
“أنت جديدة هنا ولا تعرفين شيئًا، لذا دعيني أوضح لك. الآنسة أنجيلا تُعرف في هذا القصر بأنها الشيطان نفسه. إذا غضبت، فإنها لا تفكر مرتين قبل استخدام السوط لمعاقبة أي شخص. ماذا لو أنك احتفظتِ بهذه القلادة ثم أنكرت لاحقًا أنها أعطتك إياها؟ إنها قادرة تمامًا على اختلاق أي مشكلة بسبب ذلك. لذا، إذا كنت لا تريدين أن تُقطَع يدك، أعيدي القلادة فورًا. وبالمناسبة، حاولي أن لا تتنفسي أمامها. إذا استطعتِ التظاهر بالموت عندما تكونين بالقرب منها، فافعلي ذلك.”
أنهت الخادمة كلامها بنبرة جادة، وكأنها تحذر ريتا من الخطر المحدق. ثم عادت إلى عملها وكأن شيئًا لم يكن.
في ذلك اليوم، كان ذهن ريتا مشتتًا تمامًا، بالكاد استطاعت التركيز على عملها. بدت أنجيلا كفتاة نبيلة ذات طبع متقلب، لكن أن تُوصف بالشيطان؟ بدا الأمر مبالغًا فيه.
غير أن ريتا لم تحتج وقتًا طويلًا لتدرك أن الخادمة لم تكن تمزح. في اليوم التالي، وبينما كانت تمر في ردهة القصر، شاهدت أنجيلا تضرب “إيفون”، إحدى الخادمات، على وجهها.
لم تعد ريتا تتذكر السبب وراء هذا التصرف، ربما لم يكن هناك سبب حقيقي. بدت أنجيلا وكأنها تفعل ما يحلو لها، وتختلق الأسباب كما تشاء.
نظرت ريتا إلى العلامة الحمراء الواضحة على وجه إيفون، وشعرت بخوف عارم من القلادة الموجودة في جيبها. خلال ذلك اليوم، لم تستطع التركيز على شيء، كانت تشعر بضغط هائل يكاد يخنقها. وأخيرًا، قررت أن تعيد القلادة إلى أنجيلا.
دخلت إلى غرفة أنجيلا، وقلبها يرتجف من التوتر، وقالت بصوت خافت بينما تنحني بعمق: “لقد جئت لأعيد لك هذه القلادة، سيدتي. أنا آسفة.”
كانت ريتا بالكاد تتنفس، متبعة نصيحة الخادمة بمحاولة التظاهر بالموت، حتى لا تثير غضب الآنسة.
لكن الرد جاء بصوت حاد ومفاجئ: “وما الذي يجعلكِ تعتذرين؟”
كانت نبرة أنجيلا هذه المرة مختلفة تمامًا، مليئة بالحدة والبرود، على عكس صوتها المرح عندما سمحت لريتـا بالدخول قبل قليل.
“أ… أعتذر… حقًا.”
كررت ريتا اعتذارها بصوت مرتجف، وهي تحاول قمع خوفها. لكن ملامح أنجيلا ازدادت قسوة وحدّة.
“هذا ليس جوابًا على سؤالي. ما الذي يجعلك تعتذرين؟”
“آه… يعني… أقصد…”
تلعثمت ريتا وهي تتجنب النظر إليها مباشرة، تحاول يائسةً العثور على كلمات لا تُثير غضب تلك الفتاة النبيلة التي تبدو كسكين حاد على وشك أن ينغرس في قلبها. لكن، بينما كانت في حيرتها وصمتها، حدث ما لم تتوقعه.
صفعة!
انتزعت أنجيلا القلادة من يد ريتا بعنف، وقبل أن تدرك ما حدث، رمتها خارج النافذة بلا تردد. لقد حدث الأمر في غمضة عين.
“لا يمكنني أن أقبل ما لوثته يد خادمة. هذا هو المكان المناسب لها.”
كانت كلمات أنجيلا لاذعة كالسياط، جعلت ريتا تنكمش في مكانها، كتفها يرتجف وشفتيها ترتعشان. كررت في داخلها كأنها تعويذة: تظاهري بالموت… تظاهري بالموت… تظاهري بالموت.
لكن رغبتها في إنهاء هذا الموقف بأقل خسائر لم تتحقق. أنجيلا لم تكتفِ بإذلالها بهذا الشكل، بل وجهت أمرًا إلى إحدى الخادمات القريبة:
“أخبري رئيسة الخدم ألا يتم تقديم الطعام لهذه الفتاة لمدة يومين.”
“ماذا؟! لكن… سيدتي، هذا قاسٍ جدًا!”
“أنتِ أيضًا، ستكونين مشمولة بالعقوبة.”
أصاب الذهول الخادمة التي كانت تحاول الدفاع عن ريتا، لكنها لم تنبس بكلمة أخرى بعد تهديد أنجيلا. أما ريتا، فقد انطلقت في رجاء ودموع: “أنا المخطئة! أرجوكِ، سيدتي، أنا وحدي من يجب أن يُعاقب.”
لكن توسلاتها لم تُجدِ. فبدلًا من أن يُخفف العقاب، ازداد ليصبح ثلاثة أيام بلا طعام.
أدركت ريتا أنه كلما تكلمت أكثر، كلما زادت الأمور سوءًا. لذلك، لم تجد خيارًا سوى الصمت الكامل.
لاحقًا، اعتذرت ريتا للخادمة التي شملتها العقوبة بسببها، وكانت تبكي وهي تقول: “أنا آسفة… لم يكن عليكِ أن تتورطي بسببي.”
لكن الخادمة، رغم ألمها، طبطبت على كتف ريتا وقالت بابتسامة باهتة: “أنتِ على الأقل ما زلتِ حيّة. هذا وحده إنجاز في حضرة أنجيلا.”
ثم أضافت بنبرة مليئة بالنصح: “حاولي تجنب أنجيلا قدر الإمكان. أن لا تقع عيناها عليكِ هو السبيل الوحيد لتنجين في هذا القصر.”
هزّت ريتا رأسها موافقة، وقد عقدت العزم على الالتزام بهذه النصيحة.
ومنذ ذلك اليوم، لم تشارك ريتا أي جلسة خفية تتحدث فيها الخادمات عن أنجيلا بسخرية وتجريح. بل ظلت بعيدة، وحتى بعد مرور أكثر من عشر سنوات، لم تغيّر موقفها.
لكن الآن، وهي تنظر إلى الماضي، شعرت بأن هناك شيئًا غريبًا. كانت طفولتها مليئة بالأحداث الصادمة، فلم تسنح لها الفرصة للتفكير مليًا في ما حدث. لكن، ألم تكن أنجيلا لطيفة نوعًا ما في أول لقاء بينهما؟
تذكرت وجه أنجيلا الجميل وكيف ابتسمت ابتسامة خجولة في ذلك اليوم. لم ترَ تلك الابتسامة بعدها أبدًا. كانت دائمًا تلتقي بالسخرية والازدراء، لكن تلك اللحظة كانت استثناءً.
أين حدث الخطأ؟ تساءلت ريتا. لماذا شعرت بالحاجة إلى الاعتذار بينما لم تطلب أنجيلا منها إعادة القلادة؟ ماذا لو احتفظت بها؟ هل كان مصيرها سيتغير؟
ولكن، في اليوم التالي، عندما رأت أنجيلا تأمر بتجديد كل ممتلكات “ماري”، ابتداءً من خزانة ملابسها إلى سريرها وطاولة زينتها، شعرت ريتا بالضياع.
كان هناك شعور عميق بالخلل. وكأن شيئًا ما لم يكن في مكانه الصحيح.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "018"