✼  ҉  ✼  ҉  ✼ 
 
 
عِنْدَمَا تَخَرَّجَ راينر مِنْ الْأَكَادِيمِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، كَانَ لَدَيْهِ بَعْضُ الْمُمْتَلَكَاتِ. أَعْتَقَدُ أَنَّنِي قَرَأْتُ فِي صَحِيفَةٍ أَنَّهُ رَفَعَ دَعْوَى قَضَائِيَّةً ضِدَّ أَعْمَامِهِ وَفَازَ بِهَا، وَحَصَلَ عَلَى مَتَاجِرَ صَغِيرَةٍ، لَكِنْ لَا أَتَذَكَّرُ الْتَّفَاصِيلَ لِأَنَّنِي قَرَأْتُهَا عِنْدَمَا كُنْتُ صَغِيرَةً جِدًّا.
 
بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ إِنَّهُ اسْتَثْمَرَ كُلَّ أَمْوَالِهِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا لِشِرَاءِ جَمِيعِ صِبْغَاتِ ‘توشان’ مِنْ الْقَارَّةِ الْأُخْرَى. كَانَتْ صِبْغَاتُ ‘توشان’ أَرْخَصَ مِنَ الصِّبْغَاتِ الْمُسْتَخْدَمَةِ سَابِقًا، وَلَكِنَّ قُدْرَتَهَا عَلَى الْصِّبَاغَةِ كَانَتْ لَا تُقَارَن.
 
عِنْدَمَا عَادَ راينر مِنْ خِدْمَتِهِ فِي لِيوهو وَإِمْبِرَاطُورِيَّةِ كان، أَدْرَكَ الْنَّاسُ قِيمَةَ صِبْغَاتِ ‘توشان’، وَكَانَتْ جَمِيعُ مَخْزُونَاتِ ‘توشان’ بِالْفِعْلِ فِي يَدِهِ. بَاعَ الْصِّبْغَةَ بِالْسِّعْرِ الَّذِي أَرَادَهُ وَجَمَعَ الْثَّرْوَةَ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى جُمْهُورِيَّةِ نوتافيا وَاسْتَثْمَرَ الْأَمْوَالَ الَّتِي جَنَاهَا مِنْ احْتِكَارِ الْصِّبْغَةِ فِي شَرِكَةٍ مَسَاهَمَةٍ أُسِّسَتْ هُنَاكَ لِلْحُصُولِ عَلَى أَسْهُمٍ.
 
عِنْدَمَا فكرتُ فِي الْأَمْرِ، كَانَ هَذَا تَصَرُّفًا خَطِرًا.
 
لِحُسْنِ الْحَظِّ، نَجَحَتْ الشَّرِكَةُ الْمَسَاهَمَةُ فِي نوتافيا فِي الْتِّجَارَةِ وَجَنَتْ لـراينر ثَرْوَةً، وَإِلَّا لَكَانَ أَفْلَس.
 
كَانَ مَسَارُ حَيَاةِ راينر مِنْ سِنِّ الْتَّاسِعَةِ عَشْرَة، حَيْثُ تَخَرَّجَ مِنْ الْأَكَادِيمِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، حَتَّى الْآنَ عِنْدَمَا أَصْبَحَ فِي الْسِّادِسَةِ وَالْعِشْرِينَ، مُعَقَّدًا وَمَلِيئًا بِالْأَحْدَاثِ كَمَا كَانَ مَسَارُ تَنَقُّلِهِ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْقَارَّةِ، حَتَّى بِمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ الْخُطُوطِ الْعَرِيضَةِ.
 
وَلَكِنَّ الْفَتْرَةَ الَّتِي كَانَتْ إلكه أَكْثَرَ فُضُولًا بِشَأْنِهَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً. سِنُّهُ الْسَّادِسَةَ عَشْرَةَ.
 
كَانَ ذَلِكَ مُنْذُ عَشْرِ سَنَوَاتٍ كَامِلَةٍ. تَفَكَّرَتْ إلكه فِي مَا إِذَا كَانَتْ سَتَجِدُ صَحِيفَةً مُنْذُ عَشْرِ سَنَوَاتٍ فِي مَكْتَبَةِ جَامِعَةِ كولش.
 
بَيْنَمَا كَانَتْ تُفَكِّرُ فِي راينر وَتَشْغَلُ بِهِ كُلَّ أَفْكَارِهَا، أَصْبَحَ الْطَّبَقُ الَّذِي كَانَ يُقَدِّمُ الْإِفْطَارَ فَارِغًا.
 
أَكَلَتِ الْإِفْطَارَ وَتَكَاسَلَتْ عَلَى سَرِيرِ راينر لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ.
 
“هَلْ أَذْهَبُ فِي نُزْهَةٍ قَلِيلًا؟”.
 
تَمْتَمَتْ إلكه وَهِيَ تَنْظُرُ مِنْ الْنَّافِذَةِ الْمُشْرِقَةِ، وَنَهَضَتْ بِبُطْءٍ.
 
كَانَ الْقَصْرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ جَمِيعُ الْخَدَمِ هَادِئًا مِثْلَ غُرْفَةِ الْنَّوْمِ. فَقَطْ صَوْتُ الْسُّلَّمِ الْقَدِيمِ وَهُوَ يُحْدِثُ صَرِيرًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَنْزِلُ فِيهِ عَلَى الْطَّابِقِ الْأَرْضِيِّ كَانَ يُزْعِجُ الْهُدُوءَ.
 
حَاوَلَتْ أَنْ تَجِدَ الْخَادِمَ فِي الْطَّابِقِ الْأَرْضِيِّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ. كَانَتْ سَتُقَرِّرُ أَنْ تُصَفِّرَ عَلَى الْجَرَسِ فِي الْطَّابِقِ الْأَرْضِيِّ، لَكِنَّ إلكه تَوَقَّفَتْ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ الْخَادِمِ الْمَشْغُولِ وَحْدَهُ وَفَتَحَتِ الْبَابَ الْأَمَامِيَّ وَخَرَجَتْ.
 
لَمْ تَسْتَطِعْ أَشِعَّةُ الْشَّمْسِ الْدَّافِئَةُ أَنْ تُخْفِيَ طَاقَةَ الْقَصْرِ الْسَّلْبِيَّةِ بِالْكَامِلِ. اسْتَقْبَلَهَا الْفَضَاءُ الْخَارِجِيُّ الَّذِي كَانَ مُجَرَّدًا مِنَ الْحَيَاةِ بِشَكْلٍ كَامِلٍ لِيُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ حَدِيقَةٍ.
 
نَظَرَتْ إلكه حَوْلَ الْقَصْرِ، الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَيُّ جَانِبٍ خَاصٍّ سِوَى الْغَابَةِ الْكثِيفَةِ الَّتِي بَدَتْ كَأَنَّهَا مَكَانُ صَيْدٍ، وَاعْتَقَدَتْ أَنَّ هَذَا الْمَنْزِلَ يُشْبِهُ راينر كَثِيرًا. الْجَمِيعُ يَرَاهُ فَاخِرًا، وَحَتَّى هِيَ فِي الْسَّابِقِ، وَلَكِنَّهَا تَرَاهُ الْآنَ يُشْبِهُ قَفْرَ هَذَا الْقَصْرِ بِشَكْلٍ مَا.
 
بَيْنَمَا كَانَتْ إلكه تَتَجَوَّلُ بِدُونِ هَدَفٍ، لَاحَظَتْ مَبْنًى قَدِيمًا وَصَغِيرًا خَلْفَ الْقَصْرِ. لَمْ يَبْدُ الْمَبْنَى مِنْ الْطَّابِقِ الْوَاحِدِ وَكَأَنَّهُ مَكَانُ إِقَامَةِ لِلْخَدَمِ، فَقَدْ كَانَ صَغِيرًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَانَ بِحَجْمِ غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ تَقْرِيبًا.
 
اقْتَرَبَتْ إلكه وَوَضَعَتْ وَجْهَهَا عَلَى الْنَّافِذَةِ، لَكِنْ كَانَتْ مَحْجُوبَةً بِسِتَارَةٍ دَاكِنَةٍ.
 
أَمْسَكَتْ بِمَقْبَضِ الْبَابِ الْقَدِيمِ الَّذِي كَانَ مُعَلَّقًا وَقَدْ فُتِحَ الْقُفْلُ، وَدَارَتْهُ بِحَذَرٍ وَفَتَحَتْ الْبَابَ، وَظَهَرَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقَّعًا.
 
أَمَامَ الْبَابِ مُبَاشَرَةً، ظَهَرَ سُلَّمٌ يُؤَدِّي إِلَى الْأَسْفَلِ. بَدَا الْأَمْرُ وَكَأَنَّهُ مَبْنًى مُتَمَرْكِزٌ فِي قَبْوٍ.
 
كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي لَا تَدْخُلُهُ أَشِعَّةُ الْشَّمْسِ مُظْلِمًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتَهُ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ. فَقَطْ كُرْسِيٌّ وَاحِدٌ كَانَ مُلْقًى أَسْفَلَ الْدَّرَجِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ بِصُعُوبَةٍ.
 
عِنْدَمَا خَطَتْ خَطْوَةً إِلَى الْأَمَامِ بِعُيُونٍ عَابِسَةٍ، وَخَزَتْ أَنْفَهَا رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَكَرِيهَةٌ، وَفِي تِلْكَ الْلَّحْظَةِ، سَمِعَتْ صَوْتَ خَيْلٍ مِنْ مَكَانٍ مَا.
 
بِصَرَفِ الْنَّظَرِ عَنْ حَقِيقَةِ أَنَّ شَخْصًا مَا كَانَ قَادِمًا، عِنْدَمَا شَمَّتْ تِلْكَ الْرَّائِحَةَ، شَعَرَتْ بِشُعُورٍ قَوِيٍّ بِأَنَّهُ مَكَانٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَدْخُلَهُ.
 
تَرَاجَعَتْ إلكه بِدُونِ وَعْيٍ مِنْهَا خَوْفًا مِنْ الْرَّائِحَةِ الْشَّؤُومِ وَالْظَّلَامِ الْدَّامِسِ، وَفُوجِئَتْ بِالْصَّلَابَةِ الَّتِي شَعَرَتْ بِهَا خَلْفَهَا مُبَاشَرَةً وَكَادَتْ أَنْ تَسْقُطَ. الْتَقَطَهَا ذِرَاعُ الْرَّجُلِ الْوَاقِفِ خَلْفَهَا بِقُوَّةٍ وَسَحَبَهَا إِلَى الْخَارِجِ.
 
لِلَحْظَةٍ، بَدَا وَجْهُ راينر، الَّذِي كَانَ يَقِفُ وَخَلْفَهُ ضَوْءُ الْشَّمْسِ، مُظْلِمًا.
 
“قُلْتِ إِنَّكِ سَتَظَلِّينَ هَادِئَةً”.
 
لَهْجَتُهُ لَمْ تَكُنْ مُخْتَلِفَةً عَنِ الْمُعْتَادِ، لَكِنَّ صَوْتَهُ الْهَادِئَ الَّذِي لَمْ يَحْتَوِ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مُخِيفًا بِشَكْلٍ مَا.
 
“مِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ لَا تَدْخُلِي هَذَا الْمَكَانَ، آنِسَة إيبرهاردت”.
 
بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهَا بِالْكَامِلِ، أَغْلَقَ راينر الْبَابَ، وَأَخْرَجَ مِفْتَاحًا مِنْ جَيْبِهِ، وَأَغْلَقَ الْقُفْلَ.
 
“آَه، أَنَا آسِفَة. كُنْتُ فِي نُزْهَة…”.
 
“حَسَنًا، لَيْسَ عَلَيْكِ أَنْ تَعْتَذِرِي لِي، بَلْ أَقُولُ هَذَا لِصَالِحِكِ”.
 
أَجَابَ راينر بِصَوْتٍ أَكْثَرَ حَدَّةً قَلِيلًا، وَوَضَعَ ذِرَاعَهُ عَلَى ظَهْرِهَا وَقَادَهَا نَحْوَ الْقَصْر.
 
عَلَى الْرَّغْمِ مِنْ لَهْجَةِ راينر الْلَّامُبَالِيَةِ، شَعَرَتْ بِظِلِّ الْقَبْوِ يَنْبَعِثُ مِنْهُ.
 
“لَا أَنَا لَسْتُ مُتَفَاجِئًا. لَمْ أَعْتَقِدْ أَبَدًا أَنَّكِ سَتَكُونِينَ هَادِئَةً”.
 
كَانَ رَأْيُهُ فِي إلكه غَيْرَ عَادِلٍ إِلَى حَدٍّ مَا، حَيْثُ لَمْ تُسَبِّبْ مَشَاكِلَ كَبِيرَةً.
 
“…هَكَذَا تَظُنُّ بِي؟ امْرَأَةٌ تُثِيرُ الْمَشَاكِلَ سِرًّا؟”.
 
“لَمْ أَقُلْ إِنَّنِي لَا أُحِبُّ ذَلِكَ”.
 
أَخَذَتِ الْإِجَابَةُ غَيْرُ الْمُتَوَقَّعَةِ وَالْضَّحْكَةُ الْقَصِيرَةُ اهْتِمَامَ إلكه عَلَى الْفَوْرِ مِنْ الْظِّلِّ الَّذِي كَانَ يَتَلَقَّاهُ خَلْفَهُ إِلَى الْضَّوْءِ الَّذِي كَانَ يُضِيءُ وَجْهَه.
 
“لَقَدْ أَصْبَحْتُ أَتَوَقَّعُ ذَلِكَ الْآنَ”.
 
فَتَحَ راينر الْبَابَ الْأَمَامِيَّ بِنَفْسِهِ، رُبَّمَا لِأَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَدَمُ فِي الْقَصْر.
 
عِنْدَمَا فَتَحَ الْبَابَ، كَانَ الْخَادِمُ غونتر، الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُرَئِيًّا فِي وَقْتٍ سَابِقٍ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِوَجْهٍ حَائِرٍ.
 
“أَيُّهَا الْكونت، فِي غُرْفَةِ الْاِسْتِقْبَالِ فِي الْطَّابِقِ الْأَرْضِيِّ…”.
 
قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ الْخَادِمُ جُمْلَتَهُ، صَدَرَ صَرِيرٌ مُزْعِجٌ وَمُخِيفٌ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْقَصْرِ.
 
فِي الْلَّحْظَةِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي فُتِحَ بَابُ غُرْفَةِ الْاِسْتِقْبَالِ، رَفَعَ راينر ذِرَاعَهُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى ظَهْرِ إلكه بِشَكْلٍ طَبِيعِيٍّ.
 
“النِّسَاءُ الْلَّاتِي يَأْتِينَ إِلَى هَذَا الْقَصْرِ لَا يَسْتَمِعْنَ إِلَى الْكَلَام”.
 
مَعَ تَمْتَمَتِهِ لِنَفْسِهِ.
 
بَدَا راينر هَادِئًا عَلَى الرَّغْمِ مِنْ صَدْمَةِ بيرجيت الَّتِي اتَّسَعَتْ عَيْنَاهَا بِشَكْلٍ كَبِيرٍ عِنْدَمَا رَأَتْ راينر وَإلكه، وَلَمْ تَسْتَطِعِ الِاقْتِرَاب.
 
“لَقَدْ طَلَبْتُ مِنْكِ أَنْ تُخْبِرِينِي مُسْبَقًا، أمّي”.
 
كَانَ صَوْتُهَا وَهِيَ تُنَادِي ابْنَهَا يَرْتَجِفُ. وَعَيْنَاهَا تَنْظُرَانِ إِلَى إلكه فَقَطْ، وَلَيْسَ إِلَى ابْنِهَا.
 
“كَمَا تَرَيْنَ، لَدَيَّ مَوْعِدٌ مُسْبَق”.
 
عَلَى الْرَّغْمِ مِنْ أَنَّ عَيْنَيْ بيرجيت الَّتِي نَظَرَتْ إِلَى راينر وَإلكه بِالْتَّبَادُلِ بَعْدَ سَمَاعِ كَلَامِهِ، كَانَتْ مَلِيئَةً بِالْشَّكِّ، إِلَّا أَنَّ راينر لَمْ يَكُنْ مُهْتَمًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ. اخْتَارَتْ إلكه أَنْ تَصْمُتَ.
 
“مَوْعِدٌ…؟ أَنْتَ، مَعَ الْآَنِسَة إيبرهاردت؟”.
 
“جَاءَتِ الْآَنِسَةُ إيبرهاردت لِتَنْقُلَ طَلَبًا مِنَ الرَّاهِبَةِ أنايس. عَلَى كُلِّ حَالٍ، عَلَيَّ أَنْ أَذْهَبَ مَعَهَا إِلَى فيتر”.
 
كَذَبَ راينر دُونَ أَنْ يَرْمِشَ. لِتُجَارِيَهُ، ابْتَسَمَتْ إلكه بِهُدُوءٍ لـبيرجيت.
 
“مَرْحَبًا بِكِ، أَيَّتُهَا الْسَّيِّدَةُ أولدن”.
 
“آه، مَرْحَبًا بِكِ، آنِسَة إيبرهاردت…”.
 
بَدَتْ بيرجيت وَكَأَنَّهَا شَعَرَتْ بِالرَّاحَةِ لِسَبَبٍ مَا، لَكِنْ لَا يَزَالُ هُنَاكَ شَكٌّ ضَعِيفٌ فِي عَيْنَيْهَا.
 
“أَقُولُهَا لَكِ مَرَّةً أُخْرَى، تَعَالِي بَعْدَ الْاتِّصَالِ مُسْبَقًا. لَا أَشْعُرُ بِرَاحَةٍ فِي كَوْنِي ابْنًا عَاقًّا لَا أَسْتَطِيعُ الْعِنَايَةَ بِأُمِّي الَّتِي جَاءَتْ مِنْ طَرِيقٍ طَوِيلٍ”.
 
“جِئْتُ عَلَى عَجَلَةٍ… أَنَا آسِفَة”.
 
قَدَّمَتْ بيرجيت اعْتِذَارًا خَجُولًا لِابْنِهَا الَّذِي كَانَ يَعْرِفُ كَيْفَ يُظْهِرُ قَسْوَتَهُ بِالْقَوْلِ الْمُهَذَّبِ.
 
“أهُنَاكَ شَيْء؟”.
 
“لَا، لَا شَيْء”.
 
نَظَرَتْ بيرجيت إِلَى إلكه ثُمَّ هَزَّتْ رَأْسَهَا.
 
“اعْتِذَارَاتِي، آنِسَة إيبرهاردت”.
 
“لَا بَأْسَ. كَانَ مِنْ الْجَمِيلِ أَنْ أَرَاكِ، سيِّدَة أولدن”.
 
“لَا تَنْتَظِرِينِي لِأَنَّنِي لَا أَعْرِفُ مَتَى سَأَعُودُ. غونتر، سَأَذْهَبُ مَعَ الْآَنِسَةِ إيبرهاردت إِلَى دَيْرِ فيتر، لِذَا اعْتَنِ بِأُمِّي فِي طَرِيقِهَا”.
 
أَعْطَى راينر الْأَمْرَ لِلْخَادِمِ، وَقَدَّمَ تَحِيَّةً قَصِيرَةً لِبيرجيت، وَخَرَجَ مِنْ الْقَصْرِ مَعَ إلكه.
 
نَظَرَتْ إلكه إِلَى وَجْهِهِ الَّذِي أَصْبَحَ بَارِدًا بِشَكْلٍ مُذْهِلٍ عَلَى عَكْسِ ابْنٍ يَرَى أُمَّهُ، وَفَتَحَتْ فَمَهَا بِحَذَرٍ.
 
“لَا بَأْسَ لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى السَّيِّدَة”.
 
حَتَّى عِنْدَمَا الْتَقَتَا فِي قَصْرِ الكونت أولدن، لَمْ يَكُنِ الْجَوُّ بَيْنَهُمَا بَارِدًا إِلَى هَذَا الْحَدِّ.
 
فَجْأَةً، تَذَكَّرَتْ مُشَادَّةً بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْقَصْرِ. وَصَوْتُ بيرجيت وَهِيَ تَلُومُ ابْنَهَا عَلَى جَشَعِهِ.
 
“مِنَ الصَّحِيحِ أَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَذْهَبَ إِلَى فيتر”.
 
“هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْسَّيِّدَةَ أولدن سَتُصَدِّقُ كَلَامَكَ؟ أَنَّ أنايس قَدْ جَعَلَتْنِي رَسُولَةً”.
 
“سَوْفَ تُصَدِّقُ. إِنَّهَا شَخْصٌ لَا يُمْكِنُهُ تَخَيُّلُ الْفُجُورِ الَّذِي يَرْبُطُ وَغْدًا مِثْلِي بِكِ”.
 
وَبِتَعْبِيرٍ لَمْ يَكُنْ نَادِمًا عَلَيْهِ، مَدَّ راينر ذِرَاعَهُ أَمَامَ بَابِ الْعَرَبَةِ الْمَفْتُوح.
 
“حَتَّى لَوْ لَمْ تُصَدِّقْ، لَا يهم. لَنْ تَتَحَدَّثَ عَنِ الْأَمْرِ مَعَ الْآخَرِين”.
 
عِنْدَمَا أَمْسَكَتْ إلكه بِيَدِهِ وَصَعِدَتْ إِلَى الْعَرَبَةِ، صَعِدَ خَلْفَهَا وَأَغْلَقَ بَابَ الْعَرَبَةِ.
 
بَعْدَ لَحْظَةٍ، انْطَلَقَتْ الْعَرَبَةُ مَعَ صَوْتِ اهْتِزَازٍ.
 
لِفَتْرَةٍ، لَمْ يُسْمَعْ إِلَّا صَوْتُ عَجَلَاتِ الْعَرَبَةِ عَلَى الْطَّرِيقِ. نَظَرَتْ إلكه إِلَى الْوَجْهِ الْجَافِّ لِلْرَّجُلِ الْجَالِسِ أَمَامَهَا، وَسَأَلَتْ بِهُدُوءٍ.
 
“هَلْ سَتَذْهَبُ لِرُؤْيَةِ الرَّاهِبَةِ أَنَايِس؟”.
 
“لَا. لَقَدْ تَلَقَّيْتُ رِسَالَةً بِأَنَّ عَمِّي فِي دَيْرِ فيتر”.
 
بَدَا أَنَّهُ يَقْصِدُ الرَّاهِبَ جريجوري الَّذِي ذَكَرَتْهُ أَنَايِس فِي وَقْتٍ مَا. بَعْدَ أَنْ رَأَى رَدَّ فِعْلِ إلكه الَّذِي لَا يُظْهِرُ شَيْئًا، ابْتَسَمَ راينر ابْتِسَامَةً تُظْهِرُ أَنَّهُ يَعْرِف.
 
“بِمَا أَنَّكِ لَسْتِ مُتَفَاجِئَةً، فَلَا بُدَّ أَنَّكِ سَمِعْتِ شَيْئًا مِنْ أنايس”.
 
“لَقَدْ سَمِعْتُ فَقَطْ أَنَّ عَمَّكَ الرَّاهِبَ وَأَنَايِس صَدِيقَانِ. وَأَنَّكَ اعْتَدْتَ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَيْرِ سيونوا كَثِيرًا عِنْدَمَا كُنْتَ صَغِيرًا”.
 
“هَذَا صَحِيح”.
 
“وَمَعَ ذَلِكَ، لَا تُؤْمِنُ بِالْحَاكِمَةِ، كونت؟”.
 
ضَحِكَ راينر كَمَا لَوْ أَنَّهُ سَمِعَ سُؤَالًا صَبْيَانِيًّا.
 
“كُنْتُ أُؤْمِنُ عِنْدَمَا كُنْتُ صَغِيرًا… وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ حَظِّيَ الْآنَ وَأَنَا غَيْرُ مُؤْمِنٍ أَفْضَلُ مِنْ حَظِّيَ عِنْدَمَا كُنْتُ مُؤْمِنًا، أَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَاكِمَةَ لَا تُوجَد”.
 
كَانَتِ الْإِجَابَةُ أَكْثَرَ لُطْفًا مِنْ ضَحْكَتِهِ.
 
“بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَدَثَ لِأَبِي الَّذِي كَانَ يُؤْمِنُ بِالْحَاكِمَةِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَنِ التَّبَرُّعِ وَالْصَّدَقَةِ، سَتَشُكُّ فِي وُجُودِ الْحَاكِمَةِ”.
 
كَانَ الْشَّرْحُ الَّذِي تَبِعَهُ غَيْرَ مُبَالٍ، لَكِنَّ إلكه أَدْرَكَتْ بِسُهُولَةٍ أَنَّهُ أَحَبَّ وَالِدَهُ.
 
✼  ҉  ✼  ҉  ✼ 
 
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 74"
شكراً على ترجمة ورفع فصول جديدة