—
شَرِبَ راينر الْخَمْرَ مُجَدَّدًا وَتَذَوَّقَ الْمَشَاعِرَ الَّتِي انْتَابَتْهُ. شُعُورٌ غَيْرُ وَاضِحٍ، يَصْعُبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَطَشِ وَالِاضْطِرَابِ الدَّاخِلِيِّ.
لَمْ يُفَوِّتْ راينر نَظْرَتَهُ وَهُوَ يُرَاقِبُ إلكه وَهِيَ تَتَجَنَّبُ نَظَرَاتِهِ، وَتُسَلِّمُ كَأْسَهَا لـ صامويل، ثُمَّ تَخْرُجُ نَحْوَ بَابِ قَاعَةِ الْحَفْلِ، ثُمَّ أَدَارَ جَسَدَهُ نَحْوَ بنيامين.
“هَذِهِ فُرْصَةٌ لِتُحَيِّيَ سَفِيرَ إِمْبَرَاطُورِيَّةِ خان وَابْنَ أَخِ الْإِمْبَرَاطُورِ الَّذِي جَاءَ كَمَبْعُوثٍ لِلتَّهْنِئَةِ. سَيَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدًا لَكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَيُفَضَّلُ أَنْ تَذْكُرَ أَيْضًا الْأَمِيرَ الْأَوَّلَ.”
أَوْمَأَ الْأَمِيرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ صَغِيرًا بِرَأْسِهِ بِحَمَاسَةٍ.
بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ راينر الْأَمِيرَ لِأَهْلِ إِمْبَرَاطُورِيَّةِ خان، غَادَرَ الْمَكَانَ بِطَبِيعَةٍ وَاتَّجَهَ نَحْوَ الْمَكَانِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ إلكه.
سَارَ راينر مُتَتَبِّعًا رَائِحَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَنْشَقَهَا فِي الْمَكْتَبَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ. رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مُجَرَّدَ وَهْمٍ مِنْهُ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ قَدْ سَكَبَتْ عِطْرًا عَلَى الْأَرْضِ، لَكِنَّهُ اسْتَسْلَمَ لِذَلِكَ الْوَهْمِ بِسُهُولَةٍ وَوَاصَلَ الْمَشْيَ.
بَعْدَ قَلِيلٍ، وَجَدَ راينر إلكه. كَانَتْ تَسِيرُ نَحْوَ غُرْفَةِ اسْتِرَاحَةِ النِّسَاءِ. بِخُطْوَاتٍ ثَابِتَةٍ لَا تَتَغَيَّرُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَرَاهَا.
تَقَدَّمَ بِخُطُوَاتِهِ وَسَحَبَ ذِرَاعَ الْمَرْأَةِ بِخِفَّةٍ وَهِيَ عَلَى وَشْكِ الِالْتِفَافِ عِنْدَ الزَّاوِيَةِ.
عِنْدَمَا اقْتَرَبَتْ إلكه مِنْهُ وَهِيَ مُتَفَاجِئَةٌ، أَمْسَكَ راينر خَصْرَهَا وَكَادَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ أَنْزَلَهَا فِي الْمَمَرِّ الْمُظْلِمِ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ.
فِي الظَّلَامِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُضِيئُهُ سِوَى شَمْعَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ، سُمِعَ صَوْتُ شَهِيقِ الْمَرْأَةِ بِوُضُوحٍ.
“لَوْ رَآكَ أَحَدٌ…”
“أَلَمْ تَجْعَلِينِي كـ ماتيوس لِأَكُونَ بِخَيْرٍ حَتَّى لَوْ رَآنِي أَحَدٌ؟ هَذَا مُجَرَّدُ مُرَافَقَةٍ مُنَاسِبَةٍ يَجِبُ أَنْ تَتَلَقَّيْهَا.”
لَمْ يَكُنْ يَبْدُو أَنَّ أَحَدًا سَيَأْتِي، لَكِنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَقْلَقُ دُونَ دَاعٍ بِشَأْنِ مُشْكِلَةٍ يُمْكِنُ حَلُّهَا بِبَسَاطَةٍ بِالْخُرُوجِ مِنْ هَذَا الْمَمَرِّ إِذَا سُمِعَ صَوْتُ قُدُومِ أَحَدٍ.
لَمْ يَكُنْ يَتَهَكَّمُ بِشَكْلٍ خَاصٍّ، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَابِيرِ وَجْهِ إلكه، بَدَا أَنَّ كَلَامَهُ لَمْ يُعْجِبْهَا.
لَمْ تَسْتَقِرْ نَظْرَتُهَا عَلَى وَجْهِهِ طَوِيلًا.
تَذَكَّرَ راينر صُورَتَهُ وَهُوَ يَغْزُو بِشَرَاسَةٍ دَاخِلَ شَفَتَيْهَا الرَّقِيقَتَيْنِ، فَقَرَّرَ فَهْمَ تَرَدُّدِهَا. لَقَدْ تَصَرَّفَتْ كَمَا لَوْ أَنَّهَا تُرِيدُ شَيْئًا مِنْهُ، لَكِنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُرِيدُ ذَلِكَ الْقَدْرَ.
كَانَ مِنْ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَخْتَارَ نَظْرَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعْ مُوَاجَهَةَ وَجْهِ راينر الْأَسْفَلَ. وَاسْتَقَرَّتْ تِلْكَ النَّظْرَةُ عَلَى عُنُقِهِ.
“…هَذَا حَفْلٌ لِلْقُبُولِ الْمَلِكَةِ الْجَدِيدَةِ. لَنْ تَرْبِطَ رَبْطَةَ الْعُنُقِ هَكَذَا فِي مَرَاسِمِ تَنْصِيبِكَ كونتًا غَدًا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ الْكَمَالُ لَا يَكْفِي.”
“الْكَمَالُ لَا يَكْفِي.”
هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلِمَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ وُجُودِهِ فِي برانت بِهَذَا الْوُضُوحِ؟ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُعْتَبَرُ كَامِلَةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً، عَلَى عَكْسِهِ، كَانَتْ تُقَدِّمُ نَصَائِحَ بِسُهُولَةٍ وَسَلَاسَةٍ، وَبِهُدُوءٍ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعْ حَتَّى مُوَاجَهَةَ عَيْنَيْهِ. بِتَعَابِيرَ وَكَأَنَّهَا تَقْلَقُ حَقًّا.
ابْتَسَمَ راينر بِسُخْرِيَةٍ.
كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَلَقِّيهِ لِشُعُورٍ بِالِاخْتِنَاقِ عِنْدَمَا الْتَقَتْ عَيْنَاهُ بِعَيْنَيْهَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي قَاعَةِ الْحَفْلِ، فَأَمْسَكَ بِهَا دُونَ قَصْدٍ. لَيْسَ صَبِيًّا صَغِيرًا مُتَهَوِّرًا.
لَمْ يُرِدْ راينر أَنْ يَكْشِفَ أَنَّ إلكه جَعَلَتْهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ نَظْرَةٍ، فَقَالَ شَيْئًا آخَرَ.
“آه، لَا تَحْرِمِينِي مِنْ مُتْعَتِي يَا آنِسَةَ إيبرهاردت.”
“أَيُّ مُتْعَةٍ فِي مَلَابِسَ غَيْرِ مُرَتَّبَةٍ؟”
سَأَلَتْ إلكه بِوَجْهٍ جَادٍّ دُونَ أَيِّ أَثَرٍ لِلسُّخْرِيَةِ. لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا إِذَا كَانَ سُؤَالًا صَادِقًا لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ، أَوْ أُسْلُوبًا بَلِيغًا رَاقِيًا يُخْفِي تَوْبِيخًا.
“هَلْ تُرِيدِينَ أَنْ تَعْرِفِي؟ بَدَا أَنَّ لَدَيْكِ نِيَّةً كَافِيَةً.”
لَقَدْ نَظَرَ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ جِدًّا إِلَى شَفَتَيْ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيذُ الْأَحْمَرُ يَدْخُلُهَا بِدُونِ تَرَدُّدٍ، فَقَلَبَتْ رَأْسَهَا عَنْهُ بِشَكْلٍ غَيْرِ طَبِيعِيٍّ.
“مَلَابِسَ غَيْرِ مُرَتَّبَةٍ.”
ضَحِكَ راينر بِدَاخِلِهِ وَهُوَ يُرَدِّدُ كَلِمَاتِهَا.
هَلْ هِيَ مَوْهِبَةٌ أَنْ تَكُونَ كُلُّ كَلِمَةٍ تَنْطِقُ بِهَا سَيِّئَةَ الْحَظِّ، وَتَجْعَلُهُ يُرِيدُ فِعْلَ الْعَكْسِ تَمَامًا، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تُثِيرُهُ؟ كَانَ مِنْ الصَّعْبِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِالِانْزِعَاجِ أَوْ بِالِاشْتِهَاءِ.
عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا هِيَ مَنْ تَتَجَاوَزُ الْحُدُودَ بِشَكْلٍ عَرَضِيٍّ. كَمَا لَوْ أَنَّهَا وَحْدَهَا مَنْ يُمْكِنُهَا فِعْلُ ذَلِكَ.
بِمُجَرَّدِ أَنْ تَذَكَّرَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَنْطِقُ بِهَا دَائِمًا، مِثْلَ “الْأَدَبِ” وَ “غَيْرِ اللَّائِقِ”، وَالْمَظْهَرَ الْمُتَنَاقِضَ لَهَا وَهِيَ تُقَرِّبُ شَفَتَيْهَا مِنْهُ، شَعَرَ بِدَمٍ يَتَدَفَّقُ بِخِفَّةٍ.
شَعَرَ بِرَغْبَةٍ فِي إِخْبَارِ الْمَرْأَةِ بِنَفْسِهِ، بِلُطْفٍ، بِمُتْعَةِ الْمَلَابِسِ غَيْرِ الْمُرَتَّبَةِ. فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَيْضًا، تَسَاءَلَ عَمَّا إِذَا كَانَتْ سَتَسْتَطِيعُ الْكَلَامَ بِهَذَا الشَّكْلِ وَهِيَ مُلْقَاةٌ تَحْتَهُ بـ “مَلَابِسَ غَيْرِ مُرَتَّبَةٍ”.
“ذَلِكَ الْيَوْمَ…”
رَفَعَ راينر ذَقَنَ إلكه الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعْ إِكْمَالَ كَلَامِهَا بِلُطْفٍ، وَاسْتَمْتَعَ بِالْحَرَارَةِ الَّتِي شَعَرَ بِهَا بِوُضُوحٍ عَلَى خَدِّهَا بِأَصَابِعِهِ الطَّوِيلَةِ، وَأَعَادَ عَيْنَيْهَا الزَّرْقَاوَيْنِ أَمَامَهُ.
لَمْ يَكُنْ لُطْفًا، رُبَّمَا، فَكَّرَ راينر.
أَلَيْسَ بِالْإِمْكَانِ تَوْجِيهُ مِثْلِ هَذَا التَّعْلِيمِ بِطَرِيقَةٍ خَشِنَةٍ بَدَلًا مِنْ طَرِيقَةٍ لَطِيفَةٍ؟
“مَا الَّذِي تُفَكِّرِينَ فِيهِ يَا آنِسَةَ إيبرهاردت؟ يَبْدُو وَكَأَنَّكِ تَتَخَيَّلِينَ شَيْئًا غَيْرَ لَائِقٍ.”
لَمْ تَنْفِ الْمَرْأَةُ، وَاحْمَرَّ وَجْهُهَا أَكْثَرَ.
“كُنْتُ أَتَحَدَّثُ عَنْ مُتْعَةِ سَمَاعِكِ تَتَذَمَّرين. بِالطَّبْعِ، مُتْعَةُ الِاخْتِنَاقِ… وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ.”
تَجَاهَلَ راينر التَّخَيُّلَاتِ الَّتِي مَلَأَتْ رَأْسَهُ بِسُرْعَةٍ، وَكَانَتْ شَبْهَ سَادِيَّةٍ، وَأَبْعَدَ يَدَهُ الَّتِي كَانَتْ تَمْسَحُ خَدَّهَا.
أَمْسَكَ بِكَفَّيْ إلكه وَوَضَعَهُمَا فَوْقَ رَبْطَةِ الْعُنُقِ، فَشَدَّتْ عَيْنَاهَا. وَمَعَ ذَلِكَ، أَمْسَكَتِ الْمَرْأَةُ بِرَبْطَةِ عُنُقِهِ بِحَذَرٍ وَبِطَاعَةٍ تَمَامًا.
“أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا. لِأَنَّنِي أَجِدُ مُتْعَةً فِي سَمَاعِكِ تَتَذَمَّرين.”
كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ بِغَيْرِ مُبَالَاةٍ، لَكِنْ إِذَا فَكَّرَ فِي الْأَمْرِ، فَقَدْ كَانَ نِصْفُ الْقَوْلِ صَحِيحًا. كَانَتْ إلكه مَوْهُوبَةً فِي التَّذَمُّرِ بِطُرُقٍ عِدَّةٍ، وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُزْعِجًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُسَلِّيًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُقَدِّمُ شَيْئًا بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالسُّخْرِيَةِ.
“وَأَجِدُ مُتْعَةً أَيْضًا فِي مُحَاوَلَتِكِ خَنْقِي هَكَذَا.”
<إِذًا قُل إنَّ هَذَا لَيْسَ شَيْئًا أَيْضًا.>
تَذَكَّرَ راينر كَلِمَاتِهَا الْتَّوْبِيخِيَّةَ الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا قَبْلَ أَنْ تُقَرِّبَ شَفَتَيْهَا بِخَجَلٍ. حَتَّى فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تِلْكَ اللَّهْجَةُ. امْرَأَةٌ مُحَيِّرَةٌ.
نَظَرَ راينر إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تُعَدِّلُ رَبْطَةَ عُنُقِهِ بِاجْتِهَادٍ وَإِخْلَاصٍ. كُلَّمَا زَادَ تَرْكِيزُهَا عَلَى رَبْطَةِ الْعُنُقِ، عَادَ وَجْهُ الْمَرْأَةِ إِلَى لَوْنٍ شَاحِبٍ لِلْغَايَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوْنَهَا الْأَصْلِيَّ.
كَانَ راينر يُفَضِّلُ الْأَحْمَرَ.
“مُتْعَةُ مَا تَخَيَّلَتْهُ الْآنسة إيبرهاردت مَوْجُودَةٌ بِالطَّبْعِ. لِمَاذَا، عِنْدَمَا الْتَقَيْنَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي الْمَعْبَدِ، بَدَتْ مُهْتَمَّةً جِدًّا. بِجَسَدِي الْعَارِي.”
عِنْدَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، تَوَقَّفَتِ الْيَدَانِ الصَّغِيرَتَانِ اللَّتَانِ كَانَتَا تَتَحَرَّكَانِ بِسُرْعَةٍ، فَلَمَسَ راينر الْيَدَ بِإِصْبَعِهِ لِيُشِيرَ إِلَيْهَا بِالِاسْتِمْرَارِ.
“فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَانَ ذَلِكَ… رُؤْيَةُ جَسَدٍ عَارٍ، أَيْ جَسَدٍ خَامٍ، لِأَوَّلِ مَرَّةٍ.”
عَلَى كَلِمَاتِ إلكه الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، شَكَّ راينر فِي أُذُنَيْهِ.
تَحَدَّثَتْ كَمَا لَوْ أَنَّهُ قِطْعَةُ لَحْمٍ.
“لَقَدْ رَأَيْتُ نَمَاذِجَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ. الْعَضَلَاتُ، الْأَوْرِدَةُ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ… لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا سَتَكُونُ وَاضِحَةً إِلَى هَذَا الْحَدِّ فِي الْوَاقِعِ.”
حَتَّى فِي الْمَمَرِّ الْمُظْلِمِ، كَانَتْ أُذُنَا الْمَرْأَةِ فَقَطْ ذَاتَ لَوْنٍ مُخْتَلِفٍ.
مَا لَمْ يَفْهَمْهُ راينر هُوَ لِمَاذَا تَحْمَرُّ أُذُنَاهَا وَهِيَ تَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ. إِنَّهَا لَا تَقُولُ إِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تُجَرِّدَهُ مِنْ مَلَابِسِهِ. وَهِيَ تَتَحَدَّثُ عَنِ الْعَضَلَاتِ وَالْأَوْرِدَةِ.
“لَا أَعْلَمُ. هَلْ جَسَدُ سَعَادَتك مُخْتَلِفٌ بِشَكْلٍ خَاصٍّ؟ جَسَدِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.”
رَبَطَتْ إلكه رَبْطَةَ الْعُنُقِ بِشَكْلٍ جَمِيلٍ، ثُمَّ نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَطَرَحَتْ سُؤَالًا وَكَلَامًا لَمْ يَتَوَقَّعْهُ راينر.
مَا الَّذِي تَقُولُهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ بِالضَّبْطِ؟
“أَيُّ نَمُوذَجٍ تَتَحَدَّثِينَ عَنْهُ؟”
“هَذِهِ النَّمَاذِجُ الْمُحَنَّطَةُ الَّتِي تَمَّ تَشْرِيحُهَا. أَعْتَقِدُ أَنَّ سَعَادَتَكَ رَأَى الْكَثِيرَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنِّي.”
بِالطَّبْعِ، رَأَى بَعْضَهَا عِدَّةَ مَرَّاتٍ. لَمْ يَرَاهَا بِشَكْلٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُهْتَمًّا. كَانَ هُنَاكَ وَقْتٌ فِي تولوانغ حَيْثُ كَانَتِ الْأَجْسَادُ الْمُحَنَّطَةُ تَجْذِبُ الشَّعْبِيَّةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ غَرَابَةً.
الْمَرْأَةُ الَّتِي أَمَامَهُ كَانَتْ تُقَارِنُهُ بِمِثْلِ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْحَيَاةِ. بِوَجْهٍ جَادٍّ لِلْغَايَةِ. لَا، هَلْ هُوَ وَجْهٌ مُهْتَمٌّ؟
“لَا تَقُولِي إِنَّكِ كُنْتِ مُهْتَمَّةً بِالتَّشْرِيحِ يَا آنِسَةَ إيبرهاردت. أَنْتِ لَسْتِ طَبِيبَةً وَلَا رَسَّامَةً.”
“التَّشْرِيحُ؟”
فَتَحَتْ إلكه عَيْنَيْهَا بِوُسْعٍ كَمَا لَوْ أَنَّهَا تَقُولُ: مَا الَّذِي تَقُولُهُ؟ وَبِالنَّظَرِ إِلَى إلكه الْمُتَفَاجِئَةِ، فَكَّرَ راينر: “بِالطَّبْعِ.”
“لَمْ أَتَعَلَّمْ بِعُمْقٍ لِدَرَجَةِ الْحَدِيثِ عَنِ الْعِلْمِ.”
لَكِنَّ كَلَامَهَا الَّذِي تَلَاهُ كَانَ غَرِيبًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ أَخْمَدَ بَعْضَ الشَّوْقِ الَّذِي اسْتَحْوَذَ عَلَى راينر.
كَانَتْ لَهْجَتُهَا تُشِيرُ إِلَى الْأَسَفِ. شَكَّ بِشَكٍّ صَغِيرٍ فِي أَنَّهَا رُبَّمَا لَمْ تُمْسِكْ بِسِكِّينٍ وَتَشْرَحْ شَيْئًا بِنَفْسِهَا. أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْأَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ الْجَوَابُ الَّذِي سَيَأْتِي.
رَاقَبَ راينر عَيْنَيْهَا الزَّرْقَاوَيْنِ الْمُوَجَّهَتَيْنِ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ يُجْرِي مُلَاحَظَةً.
كَانَ هَذَا الشُّعُورُ مُجَدَّدًا.
شُعُورٌ وَكَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ.
شُعُورٌ وَكَأَنَّ مَظْهَرَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَاسْمَهَا، وَعَائِلَتَهَا، وَكَلِمَاتِهَا، لَيْسَتْ شَيْئًا مِنْهَا. كُلَّمَا حَاوَلَ أَنْ يَنْسَى، ذَكَّرَتْهُ بِهَذَا الشُّعُورِ.
شَعَرَ بِأَنَّهُ يَفْقِدُ الْأُمُورَ الْجَوْهَرِيَّةَ لـ إلكه إيبرهاردت. شُعُورٌ بِأَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ مَعْرِفَتَهَا أَوْ فَهْمَهَا أَبَدًا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ.
كَانَ شُعُورًا خَطِيرًا. لَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا هَكَذَا. أَيًّا كَانَ الْأَمْرُ.
بِمُجَرَّدِ تَقْبِيلِ الشِّفَاهِ أَوِ اللِّسَانِ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ شَيْءٍ عَنْهَا. هَلْ سَيَعْلَمُ شَيْئًا إِذَا تَشَابَكَتِ الْأَجْسَادُ؟
خَطَرَتْ عَلَى بَالِهِ فَجْأَةً كَلِمَةٌ تَمْتَمَ بِهَا صامويل رودنمارك فِي أَحَدِ الْأَيَّامِ وَهُوَ ثَمِلٌ.
<إِنَّهَا سَيِّئَةُ الْحَظِّ، هِيَ. لَوْ سَمِعَ أَحَدٌ الْكَلَامَ الْقَاسِيَ الَّذِي أَلْقَتْهُ عَلَيَّ عِنْدَمَا كَانَتْ صَغِيرَةً، لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ إِنَّهَا جَمِيلَةٌ أَوْ رَاقِيَةٌ.>
وَكَذَلِكَ السُّخْرِيَةُ الَّتِي أَبْدَاهَا صامويل بِهُدُوءٍ وَهُوَ يَسْمَعُ مَجْمُوعَةً مِنَ الرِّجَالِ يَتَبَادَلُونَ الْمَدْحَ لَهَا بِهُدُوءٍ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ.
رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْأَحْمَقُ يَعْلَمُ عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَكْثَرَ مِنْ راينر.
شَعَرَ راينر بِالِانْزِعَاجِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ، فَأَنْزَلَ نَظْرَتَهُ إِلَى الْعُنُقِ الْأَبْيَضِ الَّذِي سَقَطَ عَلَيْهِ ضَوْءٌ خَافِتٌ. وَكَذَلِكَ الْقِلَادَةُ الْخَضْرَاءُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَيْهِ.
—
التعليقات لهذا الفصل " 51"