1
الفصل 1
كانت السماء فوق هذا المكان، المكسوّ بالزهور البيضاء والمعزّين، ملبّدة بالكامل بالغيوم السوداء.
التابوت، الذي يكسوه القماش الأحمر القرمزي الذي يرمز إلى أسرة ميستر الكونتية، كان يُسحَب ببطء إلى داخل القبر المظلم كسواد ظلام الليل.
امرأة ذات شعر فضي كانت تراقب المشهد. ومن خلف حجابها الأسود، كانت دموعها تنهمر بصمت،و بلا صوت.
أنجيلا، التي لم تتمكن حتى من التفكير في مسح دموعها، زادت من قبضتها على منديلها.
اليوم كان يوم جنازة زوجها.
لقد كانت جنازة متأخرة بسبب تشريح الجثة وتحديد سبب الوفاة.
جويل ميستر، الابن الثاني لأسرة ميستر الكونتية.
وصديق أنجيلا الحميم منذ الطفولة.
بعد وفاة شقيقه الأكبر، الذي كان من المقرر أن يرث لقب الكونت،أصبح جويل هو الكونت التالي، وبذلك تزوّجا.
لقد كان زواجًا سياسيًا شائعًا بين العائلات النبيلة.
على الرغم من عدم وجود الحب الملتهب بين العشاق بينهما، فقد كانت تؤمن أنهما معًا سيتمكنان من عيش حياة زوجية هادئة ومستقرة.
لم يسبق لها أن تخيّلت أن ينتهي بها الأمر أرملةً في هذا العمر الصغير.
لكن بعد أن غادر جويل هو الآخر هذا العالم في سن مبكرة، بدأ الناس يضيفون تعليقاتهم عن سوء حظ اشقاء عائلة ميستر. وفي قاعة الجنازة التي كانت تعصف بها رياح الشتاء الباردة، انتشرت الهمسات والثرثرة.
“يقولون إنه قُتل، هل هذا صحيح؟”
“عن أي ليلة زفاف تتحدثون؟ سمعتُ أنهما لم يخوضا حتى مراسم الزفاف كاملة. في اليوم نفسه وبعد انتهاء الحفل، تلقى أمرًا من جلالة الإمبراطور ليرحل في مهمة دبلوماسية، فظلّت وحيدة لمدة عام كامل.”
“وقد عاد لتوه الآن؟!”.
“بالضبط. وفي الليلة التي عاد فيها، تم قتله بوحشية بعد تلقيه عدة طعنات بسكين في الحديقة الممتلئة بالزهور.”
“هذا مروع حقًا، وهل امسكو بالقاتل؟”.
“يقال ان الأشجار المحيطة بالمكان كانت كبيرة وكثيفة الورق وظلام الليل الحالك حالا دون اللحاق به، لذا لم يُقبض عليه”.
“إذن، هل هنالك شهود؟”.
“نعم، الخادمة الخاصة بالسيدة كانت قد رأت القاتل وهو يهرب وبدأت بالصراخ، وعندما جاء الناس وجدوها منهارةً وترتجف، لكنها قالت ان الظلام كان حالكًا ولم تستطع رؤية وجه الجاني وكل ما ادركته سوى انه طويلٌ جدًا وذو بنية جسدية ضخمة”.
“ما الدافع برأيك؟ هل هو أخذ بالثأر؟”.
“الكونت جويل ميستر كان مشهورًا بطيبته، أليس كذلك؟ ما الذي سيعرضه لفعل ضغائن كهذه؟”.
“إن لم يكن ثأرًا، فقد يكون شيئًا مثل علاقة غرامية.”
“خيانة بعلاقة غرامية؟ وهو يملك زوجة جميلة كهذه؟”.
تزوجا فقط، لكنهما لم يقضيا ليلة زفافهما. الرجال يجدون هذا صعبًا.”
“شش…ستسمعكم زوجة الكونت ميستر وهي تبكي هكذا، لا يجب علينا التحدث بأمورٍ ليست بمؤكدة”.
“يا للحسرة. ما الفائدة من كونها الأجمل في الإمبراطورية؟ لقد أصبحت أرملة الآن.”
في تلك اللحظة، رفعت أنجيلا رأسها ونظرت بهدوء إلى المجموعة التي كانت تتحدث. نسي الناس ما كانوا يثرثرون به وحدّقوا فيها.
كما يميل الناس إلى الشعور بمودة غير مشروطة تجاه طفل جميل و ودود، فإن جمال أنجيلا كان يجذب الجميع غريزيًا بلا استثناء، رجالًا ونساءً.
وجه أنجيلا النقي والبريء، الذي يبدو وكأنه نُحت من ندى الفجر.بشرتها البيضاء وملامحها الواضحة التي تتداخل معها هالة آسرة تخطف الأنفاس.
كانت شفتاها الحمراوان على غير المعتاد تخطفان الأنظار، فكلما أطلقت أنجيلا نفسًا خفيفًا، كان من يراقبها يحبس أنفاسه دون أن يشعر.
حرّكت أنجيلا جسدها قليلًا نحو النساء، وشعرها الفضي المنسدل من تحت الوشاح يتمايل بخفة، ثم رفعت نظرتها بلا اكتراث.
“هل أقدّم لكما شايًا لذيذًا مع بعض التحلية؟”
ورغم آثار الدموع، لم يكن في عينيها البنفسجيتين أي ارتجاف.
“ماذا… ماذا تقصدين؟”.
“آه، أعذراني. عندما رأيتكما تتحدثان بحماسة، ظننتُ لوهلة أنّي أقمت حفلة شاي.”
عندها فقط أدركت المرأتان معنى كلامها، واشتعل لون وجهيهما بالكامل بالحمرة.
“في الجنازة… يُفترض أن تلتزموا بما يليق بالمقام. فهذا ما يجب على النبلاء فعله، أليس كذلك؟”.
وما إن أنهت أنجيلا كلامها واستدارت، حتى غادرت المرأتان المكان خجلاً وارتباكًا، بينما عمّ الصمت بين الحاضرين فجأة.
ومضت أنجيلا كما لو أنّ شيئًا لم يحدث، واقتربت من الشخص الواقف بجوارها.
ناولَت أنجيلا منديلها الذي مسحت به دموع عينيها إلى خادمتها المرافقة. وما إن تناولته الخادمة حتى ارتسمت على وجهها نظرة إعجاب عابرة بسيدتها.
وبعد انتهاء كل إجراءات الجنازة، التفتت أنجيلا بوجه شاحب إلى فيليب، والد زوجها، الذي ظل واقفًا بجوارها طوال الوقت.
“كونت فيليب، أخشى أن تتدهور صحتك… من الأفضل أن تعود إلى الداخل. بالكاد تناولت شيئًا اليوم.”
“أنجيلا، بنيّتي. لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا أيضًا لتحمل هذه المعاناة. لندخل معًا.”
“…أنا… أود البقاء هنا قليلًا.”
“حسنًا. لا بد أنك تحتاجين وقتًا لتوديعه. سأعود أنا أولًا إلى قصر مقر العائلة.”
“حسنًا “.
غادر فيليب والآخرون واحدًا تلو الآخر بعد أن قدّموا تعازيهم لأنجيلا.
كان الجو باردًا بل قارسًا. بدأت الشمس تغيب واشتدّت الرياح، فالتفتت إليها خادمتها المقربة، غير قادرة على تجاهل حال سيدتها أكثر.
”سيدتي، الرياح باردة. لنعد إلى القصر.”
“إيميلي، يمكنكِ الدخول أيضًا إذا كنتِ تشعرين بالبرد.”
“أنا قلقة عليكِ أكثر يا سيدتي. لقد مررتِ بيوم شاق، وأخشى أن تمرضي.”
قالت أنجيلا، محافظةً على وقفتها المستقيمة وأناقتها كالمعتاد.
” افعلي ما يحلوا لك.”
وبعد قليل، رحل الجميع وبقي ثلاثة رجال فقط.
تقدّم أحدهم نحو أنجيلا، فبادرت إميلي، وصيفتها، بالارتجاف وكأنها فوجئت أكثر من سيّدتها نفسها.
لاحظت أنجيلا توتّر إميلي، فأمسكت بيدها لتطمئنها، وعندها فقط هدأت الفتاة قليلًا.
“أتقدّم لك بخالص العزاء في مصابك الكبير.”
كان شابًا وسيماً ذا شعرٍ ذهبيٍّ وعينين زرقاوين. ورغم أن مظهره العام لطيف وهادئ، إلا أن عينيه الممدودتين بخط حاد عند الطرفين كانتا تمنحانه جاذبية مميزة.
كان فمه يعتاد الابتسام دائمًا، لكن… ليس اليوم.
‘هذه الرائحة…’.
لقد كان العطر الذي تفضّله أنجيلا.
عطر ثمين لا يتوفر سوى عندما يأتي من البلاد البعيدة، ويُعدّ من فئة العطور التي لا تُباع إلا بثمن باهظ.
“أقدّر لطفك، سموّ اللورد الصغير ويلتون.”
الدوق الاصغر عمرًا، آشلي راي ويلتون، الإبن الاكبر لعائلة ويلتون الدوقية ووريثها.
كان مشهورًا بذكائه الفائق منذ الطفولة، بالإضافة إلى شخصيته الممتازة،وكان معروفًا أيضًا بأخلاقه الحسنة وسلوكه المهذب.
عندما انحنى الدوق الصغير بخفة ليرد التحية على أنجيلا، ظهر رجل آخر ذو بنية قوية.
“الجو بارد جدًا، ألا تفضلين الدخول؟ زوجك الراحل لن يرغب بأن تصابي بالزكام بسبب البرد.”
حديثه صريح ومباشر.
ملامحه واضحة، عيونه سوداء كالياقوت، حاجباه كثيفان، ووجهه حاد الزوايا ينبعث بالرجولة. كان الحاجب الأيسر مشوهًا جزئيًا بسبب ندبة، وكأنه علامة متعمدة تناسبه تمامًا.
عادةً ما يكون بلا تعابير، لكنه أحيانًا يبتسم بطريقة ماكرة، ما تجذب أنظار النساء.
ابن الكونت غارلاند، إسحاق ليو غارلاند.
أصغر أبناء الكونت غارلاند، ومالك سلسلة بنوك غارلاند الضخمة أيضًا، التي بتأثيرها الواسع عرفت بجملة「كل الأموال في هذا العالم تمر عبر غارلاند」.
بالرغم من كون المال لا يحل كل مشكلة.
كان في الغالب شخصًا عاش حياته وهو يشعر بأن كل الأمور تُحل بالمال، لذا كان جريئًا ولا يهتم في النظر لآراء الآخرين.
ومع ذلك، كان من الغريب أن إسحاق أيضًا كانت تفوح منه نفس رائحة العطر التي لدى آشلي.
“أنا لست ضعيفًا كذلك لهذه الدرجة، كونت غارلاند الأصغر.”
في تلك اللحظة، أهدى الرجل الوسيم أنجيلا معطفه.
“……مع ذلك، من الأفضل أن ترتديه تحسبًا لأي شيء.”
كان صوته حذرًا، ومن حيث النبرة كان جميلًا جدًا لدرجة لا تقل عن صوت الصبي الذي يسبقه.
سيريل نوكس نولز، فتى من عائلة الماركيز نولز.
كانت عائلة نولز من أوائل العائلات النبيلة التي ساهمت في تأسيس الإمبراطورية، مما منحها مكانة وسلطة وتقاليد تاريخية كبيرة.
.كان رجلاً يحمل هالة غامضة كذلك.
شعره البنفسجي الفاتح مربوط من المنتصف بطريقة مرتبة، وعيناه الفضيتان تحت النظارات تتألقان بصفاء وسكينة.
كان يرتدي قرطًا فضيًا بنقوش دقيقة في صيوان أذنه.
كما كان يرتدي على إصبعه الصغير خاتمًا فخمًا ذو نقش معقد.
في أذن كل رجل منهم كان قد ثُبّت قرط فضي بنقوش دقيقة. كما كان في إصبع الخنصر خاتم مزخرف، ودبوس أو نيّش مثبت على الصدر يحتوي على حجر الأونيكس.
رغم أن هذا الرجل الثالث كان الأكثر زخرفة بين الثلاثة، لم يبدو فوضويًا بل كان كل شيء متناغمًا.
رغم أن وريث العائلة كان الابن الأكبر، إلا أن الشائعات ذكرت أن الابن الثاني أيضًا سيرث أصولًا وأراضيٍ كبيرة.
‘حتى من هذا الوريث، تفوح نفس رائحة ذلك العطر…’.
لكن الثلاثة جميعهم استخدموا نفس العطر، وكان الأمر غريبًا. رائحة ثقيلة، هادئة، لكنها عميقة، مستخلصة من شجرة نادرة تنمو في الصحراء.
على الرغم من وجود اختلافات طفيفة نتيجة امتزاجها بالروائح الجسدية لكل منهم، إلا أن أنجيلا عرفت على الفور أنه العطر نفسه.
بعد رؤية تصرف سيريل، خلع الرجلان الآخران معطفيهما أيضًا.
تراجعت أنجيلا خطوة إلى الوراء ورفضت الرجال الثلاثة بحزم. اهتز حجابها الأسود نتيجة لذلك.
”لا، شكرًا لكم. أنا بخير. إذا شعرت بالبرد، فإن خادمتي ستجلب لي شالًا إضافيًا من القصر.”
”لقد نسيت التحلي باللباقة بسبب قلقي بشأن تعرضك للبرد. أعتذر. سأغادر الآن، أتمنى ألا ترتجفي وحيدة في هذا البرد.”
قال سيريل بأدب وهو ينحني. كما وجه آشلي تحيته الأخيرة.
“الحزن يتزايد عندما يكون المرء وحيدًا. لا تتركي نفسك وحيدة.”
ليضيف إسحاق بسرعة.
“إن احتجتِ لأي شيء، أخبريني في أي وقت.”
“شكراً لكم على لطفكم.”
غادر الثلاثة المكان، وكانت مجرد زيارة عزاء عادية لا تحمل في خفاياها شيئًا خاصًا.
بمجرد ابتعاد الرجال الثلاثة، اقتربت إيميلي ذات الوجه الشاحب من أنجيلا وهي ترتجف بعنف، بدت وكأن القوة من ساقيها قد خارت.
“سيدتي…العطر…”
“….أعلم.”
الرائحة التي فاحت من الثلاثة، نفس العطر الذي قالت إميلي إنها اشتمته ليلة وفاة جويل.
‘سيدتي، لقد اشتميت نفس رائحة عطرك المفضل تفوح من الجاني أثناء هروبه’.
في ذلك اليوم، قالت لها إيميلي ذلك بصوتٍ يملؤه الخوف.
‘سيدتي، ما الذي يتوجب علينا فعله؟!’.
‘ششش، لا تجعليهم يدركون شيئًا، تصرفي كالمعتاد’.
اجمل أرملة في الإمبراطورية، أنجيلا، قبضت على يديها متظاهرة بالتحلي بالهدوء، لكن عينيها ارتجفت دون سيطرة منها.
***
للتواصل:Bambi.707i
التعليقات لهذا الفصل " 1"