2
جلست على الفراش بقرارٍ لم تستطع مقاومته.
ارتدت ثيابًا دافئة، ولفّت وشاحًا حول عنقها، ثم أمسكت سيفها الخشبي — ذلك السيف الذي لم يفارقها منذ طفولتها — وخرجت بخفةٍ إلى الخارج.
كانت القرية تغفو تحت عباءة الليل، لا يُسمع فيها سوى حفيف الريح بين سنابل القمح اليابسة.
تسللت عبر الطريق الضيق المؤدي إلى الغابة، حيث يختبئ كلّ ما لا يُقال في وضح النهار.
هناك، وسط ظلال الأشجار المتشابكة، وقفت أستريا تحت ضوء القمر البارد.
رفعت سيفها أمامها، تنفّست بعمق، ثم أغمضت عينيها محاوِلةً استحضار الإحساس ذاته الذي راودها صباحًا.
تخيّلت شكل السيف يتغيّر، كما تغيّر الحليب…
وفجأة، استجاب.
ارتجف الهواء من حوله، وتبدّل ملمسه أمام عينيها — تحوّل الخشب إلى مادةٍ لامعةٍ كثيفةٍ، نصف سائلةٍ ونصف صلبة، كأنّ السيف انصهر وأُعيد تشكيله بإرادتها وحدها.
تراجعت خطوةً إلى الوراء، مبهورةً بما فعلت، يملؤها الذهول والدهشة والرهبة في آنٍ واحد.
لقد فعلتها… من المحاولة الأولى.
لكن مع الدهشة، بدأت الأسئلة تتناسل في رأسها بلا نهاية:
ما الذي حدث لي؟
ولماذا أنا؟
ومن أين جاءت هذه القدرة؟
حدّقت في السيف قليلًا، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ حاسم:
“لنذهب إذًا…”
خفضت السيف، واستدارت عائدةً نحو القرية.
كانت تعرف المكان الذي قد يمنحها الإجابة — وستذهب إليه غدًا، مهما كلّف الأمر.
في صباح اليوم التالي، كانت أستريا أوّل من استيقظ في البيت.
فتحت عينيها على ضوءٍ ناعمٍ يتسلّل من النافذة، نهضت سريعًا دون كسلٍ أو تذمّر كعادتها، وبدت على وجهها ملامح تصميمٍ غامضٍ لا يشبه طفلةً في التاسعة من عمرها.
جلست إلى المائدة قبل الجميع، تأكل على عجلٍ غير مألوف، حتى إن الأم حين خرجت من المطبخ حدّقت فيها بدهشة.
لم تمضِ لحظات حتى تجمع أفراد العائلة واحدًا تلو الآخر، يتبادلون النظرات الحائرة حول الطفلة التي كسرت روتينهم الصباحيّ.
قال مارك، وهو يرفع حاجبه باستغراب:
“منذ متى تستيقظين بمفردك؟”
رفعت أستريا رأسها عن صحنها وأجابت ببساطة:
“أريد الذهاب إلى مكانٍ ما في المدينة.”
تبادل الإخوة النظرات في صمتٍ مشوبٍ بالفضول، قبل أن يتدخّل الأب بصوته الهادئ:
“وأين بالتحديد يا صغيرتي؟”
ابتسمت بخفة وقالت:
“المكتبة.”
ساد صمتٌ قصير، ثم تمتم ليو ساخرًا وهو يلتفت إلى نيا:
“المكتبة؟ ما الذي يثير فضول هذا المخلوق الصغير؟”
تجاهلتهم أستريا، أكملت طعامها بسرعة، ثم نهضت واقفة.
قالت الأم وهي تضع الأطباق في المغسلة بنبرةٍ آمرة:
“أستريا! تعالي وساعديني أولًا، وبعدها اذهبي!”
ردّت أستريا دون أن تلتفت:
“لا أستطيع أن أساعدك اليوم، آسفة!”
ثم اندفعت إلى غرفتها، غيّرت ثيابها على عجل، وخرجت من المنزل قبل أن يتمكن أحد من إيقافها.
كان الطريق إلى المدينة مبللًا بندى الصباح، والهواء يحمل برودةً خفيفةً تنذر بقرب الشتاء.
أشجار الصنوبر تتمايل تحت أنفاس الريح، وصوت العصافير يتناثر بين الحقول كألحانٍ بعيدةٍ خافتة.
دخلت أستريا أسوار مدينة تشين — مدينة ساحلية مطلة على بحرٍ فسيحٍ لا يُرى له نهاية.
كانت المدينة تضجّ بالحياة: أصوات الباعة، صخب الميناء، رائحة السمك الطازج والبهارات، وألوان الأقمشة التي تملأ الشوارع.
مدينةٌ من الضوء والضجيج، يرتادها النبلاء والتجّار، ويُغري جمالها كلّ عابرٍ بالبقاء قليلًا.
لكنّ أستريا لم تكن ترى شيئًا من ذلك.
كانت تعرف وجهتها تمامًا.
سارت بخطًى سريعة نحو أطراف الساحة الكبرى، حيث تقف المكتبة القديمة، مبنى حجريّ عتيق تفوح منه رائحة الورق والغبار والبحر…
هناك، بين رفوف الكتب الثقيلة وأصداء الصمت العميق، كانت تنتظرها الإجابات — أو بداياتها على الأقل.
كانت المكتبة في قلب مدينة تشين كأنها بقايا زمنٍ نجا من الزوال.
بوّابتها الخشبية العتيقة تصدر أنينًا خافتًا كلّما دُفعت، ورائحة الورق القديم تمتزج بنسيم البحر الداخل من النوافذ العالية.
ما إن دخلت أستريا حتى علت ابتسامة دافئة على وجه لارين، صاحبة المكتبة.
كانت فتاةً في العشرينات، ذات شعرٍ بنيٍّ ناعم يصل إلى بداية ظهرها، تحمله ببساطة خلف كتفيها، وعينين تلمعان خلف نظاراتٍ دائريةٍ أنيقة.
كانت ملامحها تحمل مزيجًا من الهدوء والصلابة، فهذه الفتاة اللطيفة كانت ذات يوم صيّادة وحوش من الفئة D، قبل أن تترك الخطر وتجد ملجأها بين رفوف الكتب.
قالت بفرحٍ وهي تلوّح بيدها:
“أوه! أستريا، مرحبًا بكِ في مكتبتي الصغيرة!”
ركضت أستريا نحوها بابتسامةٍ صادقة:
“لارين! لم أركِ منذ وقتٍ طويل!”
ضحكت لارين بخفّة، وربّتت على شعرها.
“كبرتِ يا صغيرة، وها أنتِ تعودين تبحثين عن الأسرار مجددًا، أليس كذلك؟”
اكتفت أستريا بابتسامةٍ غامضة، ثم اتجهت نحو الداخل.
كانت المكتبة شاسعة، طوابقها تتشابك كسلالم من الزمن، وأصوات الخطوات تتردد فيها كهمسٍ من عالمٍ آخر.
بدأت تتنقّل بين الممرّات، تتصفح الكتب وتقرأ العناوين بعينٍ فضولية، تبحث عن قسم السحر تحديدًا.
صعدت إلى الطابق الثاني، حيث الرفوف أكثر ارتفاعًا، والضوء أكثر خفوتًا.
لكنّها، بينما كانت تدير وجهها بين الممرّات، اصطدمت بشخصٍ ما بقوة، فسقطت على الأرض.
رفعت رأسها سريعًا… وتجمّدت.
كانت أمامها فتاة تبدو كأنها خرجت من لوحةٍ ملكيّة:
فستانٌ من الحرير الداكن، شعرٌ أشقر مربوط بعناية، ومهفةٌ صغيرة من الريش تمسكها بين أصابعها برقةٍ مصطنعة.
كلّ تفاصيلها تصرخ نُبلًا وتعاليًا.
أغلقت الفتاة مهفتها بقسوة، ونظرت إلى أستريا من أعلى، وقالت بصوتٍ حادٍّ يقطر ازدراءً:
“كيف تجرؤين؟! جرذٌ مثلكِ يصطدم بي؟!”
تجمّع بعض الزوّار على مقربة، والهمس بدأ ينتشر كالنار في الهشيم.
تابعت النبيلة بصوتٍ أعلى:
“نكرة مثلكِ لا يحقّ لها حتى أن تتنفس الهواء ذاته الذي أتنفسه.”
عمّ الصمت في المكان.
تبادل الناس النظرات المرتبكة، وتناهت الهمسات:
“الفتاة مسكينة، من سينقذها؟”
“لا يجب علينا التدخّل… الأفضل أن نخرج.”
بعضهم غادر، والبعض الآخر وقف يراقب في صمتٍ ثقيل.
في هذا العالم، القوّة والثراء هما القانون — من لا يملك أحدهما، يُعامل كغبارٍ لا يُرى.
انحنت أستريا بخفوتٍ وقالت بصوتٍ خافت:
“أنا آسفة.”
لكن النبيلة لم تكتفِ، اقتربت بخطوةٍ متغطرسة وصرخت:
“كيف تجرؤين حتى على النظر إليّ؟!”
ثم رفعت مهفتها وضربت بها وجه أستريا.
صمتٌ مطبق تلا الضربة.
ثوانٍ فقط، لكنّها بدت كالأبدية.
رفعت أستريا رأسها ببطء، نظراتها تغيّرت — غضبٌ صامت، عميق، متجمّد خلف العيون الزرقاء الصغيرة.
تحركت عيناها نحو رفّ الكتب خلف النبيلة…
وفجأة، اهتزّ الرفّ وسقط، لتتساقط الكتب فوق رأسها في دوّيٍ مفاجئ.
صرخت النبيلة في ذعرٍ وهي تتراجع للخلف، بينما تجمّدت أستريا في مكانها.
هرعت بخطواتٍ وقالت بلهفة:
“أنا آسفة! “
التقطت كتابًا سقط بجانبها دون أن تنتبه لعنوانه، وضغطت عليه إلى صدرها وهي تهمس:
“تبا… ليس الكتاب الذي أريده. سأُبقيه معي الآن، وأعيده لاحقًا حين تهدأ الأمور.”
ابتعدت عن المكان بخطواتٍ سريعة، وواصلت البحث بين الأرفف حتى وجدت الكتاب الذي كانت تبحث عنه منذ البداية.
جلست على أحد الكراسي في زاويةٍ بعيدة، وضعت الكتاب على الطاولة، وفتحت صفحاته ببطءٍ متردّد…
كانت الكلمات تناديها كما لو أنّها كانت تنتظرها منذ زمنٍ طويل.
وبينما تغوص عيناها في السطور، كان في الهواء شيءٌ غريب…
كأنّ الحروف نفسها تراقبها.
يتبع…
Chapters
Comments
- 2 منذ 16 ساعة
- 1 - تراب أور 2025-11-10
- 0 2025-11-09
التعليقات لهذا الفصل " 2"