1
من أعلى الهضاب التي تُحيط بقرية أور، تبدو الأرض كلوحةٍ من غبارٍ وعرقٍ وحياةٍ لم تُمنح خيارًا سوى البقاء.
البيوت متلاصقةٌ ضيّقة، جدرانها من طينٍ تشقّه الشمس، وسقوفها المائلة تُشبه ظهور الرجال الذين انحنوا تحت ثقل المواسم.
تتناثر الماشية بين الأزقّة، ويختلط صوت الماء في السواقي بصوت المعاول التي تشقّ الأرض بحثًا عن ما تبقّى من خصبٍ قديم.
في الأفق، تتصاعد خيوط الدخان من الأفران الحجرية، ورائحة القمح المحترق تمتزج برائحة الحياة المتعبة.
كانت أور إحدى القرى التابعة لإمبراطورية أورايوس، لكنها بدت وكأنها منسية خارج خرائطها.
لا حرس فيها، ولا راية تُرفع.
فقط أصوات الحقول، ووقع الأقدام فوق التراب، وأطفالٌ حفاة يركضون خلف طيفٍ من أحلامٍ صغيرة.
النساء يجمعن السنابل بأصابع متشقّقة كالأرض، والرجال يكدحون بصمتٍ يُشبه صبر الحجر.
في هذا المكان، البساطة ليست سلامًا… بل وسيلة نجاة.
في طرف الحقول، عند بقعةٍ كثيفة الزرع، كان خمسة صبيةٍ يتحلّقون حول فتاةٍ صغيرة ذات شعرٍ أسود قصير، وعينين خضراوين تلمعان تحت الشمس كقطعتي زجاجٍ صُقِلتا بالنار.
كانت تلك أستريا — ابنة التاسعة، نحيلة الجسد، تحمل في ملامحها ما لا يُشبه أطفال القرى.
وقفت أمامهم والغبار يلتفّ حول قدميها، فيما تتعالى ضحكاتهم الجافة.
قال أحدهم وهو يدفع قميصه الممزّق إلى الخلف:
“سمعتم؟ أستريا لا تمتلك سحرًا! لم تُظهر شرارةً واحدة بعد!”
قهقه الآخرون، وقال آخر ساخرًا:
“ربّما لأن روحها خاوية مثل وجهها!”
سكنت الفتاة لحظة، ثم رفعت رأسها ببطءٍ كأنها تنظر إليهم من قمةٍ لا يرونها.
قالت بصوتٍ خافتٍ، لكنه حادٌّ كحدّ النصل:
“ربّما لأن السحر يدرك أن عقولكم أضيق من أن تحتويه.”
انطفأت الضحكات.
تبدّلت الوجوه من السخرية إلى الغضب، فتقدّم أحدهم وأمسك بذراعها ودفعها أرضًا بقسوة.
ارتطم جسدها بالتراب، وتناثرت السنابل حولها كألسنةٍ من ذهبٍ مسحوق.
كانت تهمّ بالنهوض حين اخترق الصمتَ صوتُ خطواتٍ بطيئةٍ قادمةٍ من عمق الحقل.
ظلٌّ طويلٌ شقّ صفّ السنابل حتى وقف بينهم.
كان ذلك مارك — فتى في الثالثة عشرة، يحمل على كتفه سَلّةً نصفها حطبٌ ونصفها تعب.
عيناه سوداوان كأنهما تعرفان أكثر مما ينبغي.
توقّف أمامهم دون أن يتكلم، لكنّ نظراته فعلت ما لم يفعله الصوت.
تراجع أحد الصبية خطوة، وتمتم الآخر بكلماتٍ لم تُسمع.
قال مارك أخيرًا، بنبرةٍ هادئةٍ لكنها مثقلةٌ بالتهديد:
“أخمسةٌ منكم قليلون على طفلةٍ واحدة؟”
لم يردّ أحد.
حتى الهواء بدا خائفًا، والسنابل انحنت في صمتٍ غامض.
انسحبوا واحدًا تلو الآخر، كأن وجودهم كان وهماً تلاشى مع الغروب.
اقترب مارك من أستريا ومدّ يده إليها، لكنها تجاهلته ونهضت وحدها.
كانت الغبرة تغطي خدّها، وقطرة دمٍ صغيرة تشقّ طريقها نحو ذقنها.
قالت دون أن تنظر إليه:
“كنت أستطيع التعامل معهم.”
ابتسم بخفّةٍ جانبية وقال:
“أعلم. لكنّي أردت رؤية وجوههم حين يفرّون دون أن يُمسّوا.”
قالت وهي تمسح الدم بطرف كفّها:
“سأتعلّم السحر يومًا، وأجعلهم يركعون لي.”
أجابها بنبرةٍ هادئةٍ خاليةٍ من السخرية:
“وإن لم يأتِ السحر… فاجعليهم يركعون لأنكِ أقوى منهم.”
سارا معًا في الطريق الترابيّ المؤدي إلى القرية.
كانت الشمس تغرب ببطء، والسماء تشتعل بحمرةٍ باهتةٍ تشبه أثر الجروح القديمة.
الهواء ثقيلٌ برائحة الغبار، والضوء الأخير يلمع على الحقول كرمادٍ ذهبيّ.
سارت أستريا صامتة، لا تفكّر في الإهانة، بل في السؤال الذي لم يغادرها يومًا:
لماذا وُلدت بلا سحر… في عالمٍ لا يعترف إلا بالقوّة؟
ولم تكن تعلم أن ما تسميه “نقصًا” سيغدو لاحقًا الشرارة التي تُغيّر وجه أورايوس إلى الأبد.
حين عاد الاثنان إلى المنزل، كان المساء قد ابتلع آخر خيوط الشمس.
تسرّب ضوء المصابيح الزيتية إلى الجدران الطينية، فتلألأت بوهجٍ ذهبيٍّ خافت، واختلطت رائحة الحساء بصوت الأواني وضحكاتٍ متناثرة. كانت العائلة مجتمعة حول مائدةٍ خشبيةٍ قديمة، يحيط بها دفء بسيط يشبه الطمأنينة.
زاك لوين، ربّ الأسرة، رجلٌ في الخامسة والأربعين، له ملامح هادئة وعينان تريان أكثر مما تقولان. يعمل بجدٍّ منذ الفجر حتى الغروب، لكنه عند عودته، يخلع عن كتفيه تعب اليوم ليمنح أبناءه صوته الدافئ وضحكته القصيرة التي لا تخطئها أذن.
إلى جواره تجلس ميرالين لوين، زوجته ذات التسعة والثلاثين عامًا، امرأة رقيقة القسمات تحمل في نظرتها صلابةً خفية، كأنها صارت مرآةً لصبر الأرض التي يعيشون عليها. كانت يدها لا تهدأ وهي تملأ الأطباق، كأنها تخشى أن يتسرّب الجوع إلى من تحب.
ريك لوين، الابن الأكبر ذو الستة عشر عامًا، ورث عن أبيه الهدوء، لكن فيه من أمه طبع الحذر وذكاء النظرات.
إلى جانبه يجلس مارك لوين، الثالث بينهم، في الثالثة عشرة، يحمل طاقةً لا تنطفئ وولاءً غير مشروط لأخته الصغيرة أستريا.
أما آخر العنقود، نيا وليو، التوأمان اللذان لم يبلغا بعد السادسة، فكانا يتبادلان الضحك والفتات، يملآن المكان بحيويةٍ تشبه الربيع.
جلست أستريا بين أخويها، في عينيها بريق تحدٍّ طفولي. لم تنتظر أحدًا ليسأل، بل قالت بصوتٍ واثقٍ يحمل شيئًا من الغضب:
“تخيّلوا، خمسة من أولاد القرية حاولوا ضربي اليوم.”
توقّف الجميع عن الأكل لحظة، تبادلوا النظرات، ثم سألت ميرالين بهدوءٍ قلق:
“هل آذوكِ؟”
أجابت أستريا رافعةً كتفيها بلا اكتراث:
“لا، مارك ظهر قبل أن يجرؤ أحدهم على لمسي.”
ابتسم زاك وهو يقطع الخبز بيده قائلاً:
“مارك دائمًا يسبق العاصفة.”
ضحك ريك وهو يردّ:
“بل لعلها هي العاصفة، وأنا فقط أحاول اللحاق بها.”
أطلقت أستريا ضحكةً قصيرة، ثم بدأت تقلّد أصوات الصبية بطريقةٍ ساخرة، تغيّر نبراتهم وتبالغ في حركاتهم.
كانت محاولتها مضحكة إلى درجةٍ جعلت حتى ميرالين، التي نادرًا ما تضحك، تبتسم بهدوء.
امتلأ البيت بضحكاتٍ خفيفة، بدت كأنها تسرق من اليوم تعبه قبل أن ينتهي.
وحين انقضت الوجبة، خمدت الأحاديث شيئًا فشيئًا، وسكن المكان.
انسحب الجميع إلى غرفهم، وأُطفئت المصابيح واحدةً تلو الأخرى، حتى غمر البيت صمتٌ يشبه النوم قبل الحلم.
لكن أستريا لم تنم.
حين اطمأنت إلى أن الجميع غارقٌ في نومه، تسللت بخفّةٍ تعرفها، أمسكت سيفًا خشبيًا صنعه لها مارك قبل عام، واتجهت نحو الغابة التي تبتلع أطراف القرية.
كانت الليلة ساكنة، والضباب يلامس قمم الأعشاب، والريح تمرّ كأنها تهمس بسرٍّ لا يُفهم.
وقفت في فسحةٍ ضيقة بين الأشجار، ورفعت السيف أمامها.
ثم بدأت.
ضربة، فالتفاف، فاندفاع.
حركاتها مترددة لكنها حادّة، صغيرة الجسد، كبيرة الإرادة.
يتساقط العرق من جبينها، وأنفاسها تتلاحق، بينما تتراقص الظلال حولها كأنها تراقب.
وحين توقفت أخيرًا، كانت السماء تميل نحو الرماديّ، والفجر على وشك أن يفتح عينيه.
نظرت أستريا إلى سيفها المغبّر، وابتسمت بخفّةٍ تحمل عنادًا طفوليًا وهي تهمس لنفسها:
“لا أحتاج سحرًا… لأكون أقوى منهم.”
ثم أغمضت عينيها للحظة، قبل أن يبتلعها ضوء الصباح الجديد.
استيقظت القرية على خيوط الشمس الأولى وهي تزحف عبر النوافذ الخشبية.
في بيت العائلة، دبّت الحياة ببطءٍ مألوف:
الأم في المطبخ تُعدّ الفطور، يعلو صوت الأواني وعبق الخبز المحمّص.
الأب والأخ الأكبر غادرا منذ الفجر لجمع الحطب من أطراف الغابة، بينما الأخ الثاني ما زال يحاول إيقاظ أستريا الغارقة في سباتٍ عميق، وكأنها تحارب الصباح نفسه.
قال وهو يطرق الباب بخفة:
“أستريا، استيقظي، الريح سبقتك اليوم!”
لم تأبه، فهزّها قليلًا، فتمتمت بامتعاضٍ وهي تغطي رأسها بالوسادة.
ابتسم وهزّ رأسه يائسًا، ثم خرج يساعد الأم في حمل الماء من البئر.
في المطبخ، كان التوأمان يساعدان أمهما بجدٍّ صامتٍ، يقطعان الخبز ويملآن الأكواب بالحليب.
وحين استيقظت أستريا أخيرًا، دخلت بخطواتٍ متثاقلة، شعرها مبعثر، وعيناها نصف مغمضتين.
قالت الأم مبتسمة:
“صباح الخير يا نائمة القرون، هيا ساعديني بصبّ الطعام.”
انصاعت الفتاة بتنهيدةٍ طويلة، وسكبت الحساء في الأواني الصغيرة، ثم جلست مع العائلة حول المائدة.
وفجأة، التفتت نيا وقالت بصوتٍ مرتفعٍ ساخر:
“أوي، ليو! انظر، شبح المنزل قد استيقظ!”
ضحك ليو وردّ عليها بنبرةٍ مستفزةٍ لا تخلو من السخرية:
“علينا الهروب منها إذًا!”
تجمّد وجه أستريا لوهلة، ثم تعكّر مزاجها وصرخت بغضب:
“اخرسا!”
قفز الاثنان من مقعديهما وضحكا وهما يهربان، بينما نهضت أستريا تطاردهما في أرجاء البيت.
تراقصت ضحكاتهم في الممرات، واختلطت بأصوات الخطوات والركض والنداءات الطفولية.
أما الأم، فاكتفت بالتنهيد وهي تتابعهم بعينٍ نصف مرهقةٍ ونصف مبتسمة، قبل أن تتابع إعداد المائدة كأنّ شيئًا لم يحدث.
وتبدّد الصراخ والعراك شيئًا فشيئًا، تاركًا خلفه صدى حياةٍ بسيطةٍ…
كانت الأحاديث تدور بخفةٍ بين ضحكٍ ونكاتٍ بسيطة، والجو مفعمٌ بالدفء والاعتياد.
مدّت أستريا يدها نحو كوب الحليب لتتناوله، لكن أطراف أصابعها اصطدمت به، فانقلب وسقط على الأرض.
انتشر السائل الأبيض على البلاط، إلا أن شيئًا غريبًا حدث — لم يتبعثر كما يفعل الحليب عادة، بل تجمّع ببطءٍ في دائرةٍ صغيرة، كأنّه يرفض الانسكاب.
تجمّدت أستريا في مكانها.
تسارعت أنفاسها وهي تحدّق فيه بعينين متسعتين، ثم مدّت يدها نحوه دون وعي.
حين فعلت ذلك، تحرّك السائل… استجاب لها.
دار ببطءٍ في الهواء، متماسكًا، كأنه قطعة حيّة من الزجاج السائل.
ارتجفت يدها وسحبتها سريعًا، فعاد الكوب إلى شكله الطبيعي، وانسكب الحليب مجددًا على الأرض كما لو أنّ شيئًا لم يكن.
سكن كلّ شيء للحظة، إلا قلبها الذي ظلّ يخفق بعنف.
دخل الأخ الأكبر في تلك اللحظة، فلاحظ وجهها الشاحب ونظرتها المرتبكة، فسألها:
“ما بكِ؟ تبدين كأنك رأيتِ شبحًا.”
رمشت أستريا بسرعة، ثم قالت بصوتٍ متردّدٍ خافت:
“لا شيء… فقط كوبٌ انكسر.”
ابتسم الأخ وهزّ كتفيه بلا اهتمام، بينما بقيت أستريا تنظر إلى الأرض…
حيث لم يبقَ من الحليب سوى دائرةٍ صغيرةٍ لامعة، تختفي ببطءٍ كما يختفي السرّ في العتمة.
Chapters
Comments
- 1 - تراب أور منذ يومين
- 0 2025-11-09
التعليقات لهذا الفصل " 1"