1
فتاة صغيرة كانت ترتدي فستانًا بسيطًا ملوّنًا بألوان زاهية مشعة، كانت تركض بحماس وكان شعرها الطويل يتطاير في الرياح. شعرها كان مزيجًا غريبًا بين الوردي الدافئ والبرتقالي، كأنه شُكّل من غروب شمسٍ دافئ امتزج مع انعكاسات اللهب الخافت، وكانت أشعة الشمس تلمع في عينيها وكأنها أحجار كريمة بنفسجية غُسلت بمياه القمر.
وقالت بابتسامة مشرقة تعلو شفتيها:
“جدتي جدتي… انظري، انظري! لقد نمت زهرة وردية!”
“انتظري عزيزتي هانا، أنا قادمة”، قالت بحنان ودفء امرأة عجوز ترتدي ملابس مزارعة بسيطة.
كانت الحديقة الخلفية هادئة، تفوح منها رائحة العشب المبلل، والأشجار الصغيرة تنثر ظلالها الخفيفة على العشب الأخضر، وبين النباتات المتفرقة برزت زهرة وردية صغيرة.
“أوه، من النادر أن تنبت الأزهار في حديقتنا! إنه يوم حظكِ صغيرتي… إنها جميلة حقًا، مثلكِ تمامًا”، تقول المرأة العجوز بحنان ودفء.
“فلنقطفها إذن ونضعها في المطبخ!” تقول هانا بحماس.
“إذا قطفناها، سوف تذبل في النهاية، حتى ولو زينتِ المطبخ لبضع ساعات”.
“إيه؟! ماذا نفعل إذن؟” تقول هانا بحزن بينما تنفخ خديها.
“بدلًا من ذلك، ما رأيكِ في أن تهتمي بزهرة في الحديقة وتسقيها كل يوم؟ هكذا سوف تعيش لفترة أطول… لكن يجب أن تهتمي بها جيدًا، حسنًا؟”
“حقًا؟ بالطبع! سوف أهتم بها وأغرقها بالماء كل يوم!” تقول بحماس.
تضحك الجدة وتربت على شعر هانا قائلة:
“سوف تموت إذا بالغتِ في سقيها أيضًا… هههههه!”
تضحك هانا مع جدتها ليملأ الجو صوت ضحكاتهما، ويختلط مع زقزقة العصافير وأوراق الأشجار التي تحركها الرياح.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تحاول فيها لفت انتباه مربيتها بشيء تافه، ولم تكن الأخيرة.
“جدتي، جدتي! انظري، شعري أصبح أطول!”
“أوه، فعلًا! إنه جميل جدًا وناعم… هل تريدين أن أمشطه لكِ؟”
“أجل، من فضلكِ!”
جلست هانا الصغيرة على الأرض بين قدمي مربيتها، تتأرجح برفق مع كل حركة للمشط وهو ينساب بين خصلات شعرها الحريرية. وملأ الغرفة صوت المشط وهو ينزلق خلال الخصلات الوردية، متداخلًا مع صوت أنفاس المربية الهادئة.
“تعلمين، صغيرتي…” قالت المربية بصوتها الرقيق، “الشعر يشبه الحياة، أحيانًا يتشابك ويصبح صعبًا، لكن بالصبر والهدوء، نستطيع فكّ كل عقدة دون أن نؤذي أنفسنا.”
توقفت قليلًا، ثم تابعت بابتسامة خفيفة، بينما تمرر يدها على رأس هانا برفق:
“لا تدعي الأيام القاسية تجعلكِ تفقدين لطفكِ، تمامًا كما لا تدعي الرياح العاتية تقتلع جذور زهرة قوية.”
هانا، التي لم تفهم تمامًا مغزى الكلمات، أومأت برأسها الصغير بينما تفكر في كلامها.
مع السنوات، كبرت هانا قليلًا، لكنها لازالت تحب أن تبهر جدتها وتجعلها فخورة.
“جدتي، جدتي! انظري، لقد خبزتها على شكل قلب!”
“أوه… لقد تحسنتِ جدًا في الخَبز! هذا جميل!”
تمسك الجدة صينية البسكويت الذي خبزتاه بكل إخلاص وحب، وتضعها في الفرن، ثم تلتفت مجددًا إلى هانا، وتلاحظ أنها لم تعد تحتاج إلى الوقوف على كرسي صغير للوصول إلى سطح المطبخ؛ الآن، بلمسة خفيفة، تستطيع أن تمد يدها إليه بسهولة. أدركت أن صغيرتها تكبر، فابتسمت بحنان وعانقتها بدون سابق إنذار.
“هاه؟! … ما الأمر؟” تقول هانا، بينما وجهها مدفون في حضن الجدة وهي مستغربة.
“لا شيء، فقط أردت أن أعانقكِ”.
استمرت هانا بالنمو مع السنوات، وعندما بلغت 13 من عمرها، قررت اتخاذ قرار مهم جدًا.
في أحد الأيام، بينما كانت الجدة تضع الغرز الأخيرة في قطعة القماش التي كانت تخيطها، جلست هانا أمامها، ترددت قليلًا، ثم قبضت يديها بإصرار وقالت بصوت مليء بالعزيمة:
“أريد أن أصبح محاربة! أريد أن أتعلم القتال حتى أتمكن من حمايتكِ… وحماية الجميع من الظلم!”
توقفت أنامل المربية عن الحركة، وأخذت تحدق في هانا بعينين تحملان مزيجًا من المفاجأة والقلق. وضعت الإبرة جانبًا، وسحبت هانا لتجلس أقرب إليها، ثم مررت يدها بحنان على شعرها.
“هانا… القتال ليس لعبة، وليس طريقًا سهلًا. إنه طريق محفوف بالألم والتضحيات”. كان صوتها هادئًا لكنه مليء بالقلق والصدمة.
لكن هانا لم تتراجع، بل نظرت في عيني مربيتها بثبات وقالت بحزم:
“أعلم ذلك! لكنني لا أريد أن أكون ضعيفة، لا أريد أن أقف عاجزة إذا حدث شيء سيئ! أريد أن أكون قوية بما يكفي لحماية من أحب!”
بينما كانت هانا تحدق في مربيتها بإصرار، قاطع صوتٌ آخر الحديث، صوت مألوف لكنه يحمل نبرة استياء خفيف:
“هذا ما قلته لها أيضًا، لكنها عنيدة كالصخر”.
استدارت هانا لترى صديقتها جيسيكا تقف عند مدخل الغرفة، وذراعاها متشابكتان، وعيناها الخضراوان تعكسان مزيجًا من القلق والانزعاج. بشعرها الأشقر القصير ووقفتها الواثقة، بدت كما لو أنها مستعدة للدخول في جدال طويل آخر. تقدمت بضع خطوات وجلست بجانب هانا.
“هانا، فكري جيدًا! أن تصبحي محاربة يعني أن تضعي نفسكِ في خطر دائم! يعني أن تتأذي، أن تتألّمي!”
لكن هانا لم تتأثر بكلماتها، بل ردت بثقة:
“إن كان ذلك ثمنًا لحماية من أحب، فسأدفعه بلا تردد!”
تأملت جيسيكا ملامح صديقتها للحظات، ثم أغمضت عينيها قبل أن تفتحها مجددًا بنظرة أكثر جدية.
“حسنًا، إذا كنتِ مصرة على هذا الطريق… فسأبقى بجانبكِ لأتأكد أنكِ لن تتهوري أكثر من اللازم”.
ابتسمت هانا بحنان، وشعرت بالدفء يتسلل إلى قلبها رغم قرارها الصعب. نظرت المربية إلى الفتاتين بصمت للحظات، ثم ابتسمت هي الأخرى، وإن كان في ابتسامتها أثر قلق لا يزال عالقًا.
“إذن، يبدو أنكما قررتما… هانا، عزيزتي، لن أمنعكِ، لكن تذكري: القوة ليست مجرد سيف يُرفع في وجه الأعداء. القوة الحقيقية تكمن في القلب، في الرحمة، في معرفة متى تقاتلين ومتى تتوقفين”.
أومأت برأسها، وارتسمت على شفتي هانا ابتسامة دافئة، تلك الابتسامة التي تحمل الامتنان لوجود شخص مثل جيسيكا وجدتها إلى جانبها.
بعد عدة سنوات من ذلك القرار، وقفت هانا في ساحة التدريب، جسدها المغطى بالعرق يتوهج تحت ضوء الشمس. تنفست بعمق، تشدّ قبضتها على سيفها قبل أن تندفع نحو خصم وهمي، تنفذ سلسلة من الهجمات الحادة بدقة وسرعة.
على مقربة منها، جلست جيسيكا فوق صخرة وهي تراقب حركاتها وسرعتها.
“أصبحتِ جيدة جدًا منذ آخر مرة زرتكِ فيها… لا بد أنكِ تبالغين في التدريب، صحيح؟”
نظرت لها بنظرة قلق وتوبيخ.
توقفت هانا وفركت أسفل رأسها بضحكة خفيفة.
“ههه… كلا… إطلاقًا.”
تنهدت جيسيكا غير مصدقة لكلامها.
“هيا الآن، لقد تدربتِ بما يكفي اليوم، خذي قسطًا من الراحة.”
تذمرت هانا بطفولية.
“أوه، هيا! لم أكمل التدريب اليومي بعد!”
نهضت جيسيكا وأمسكت بيدها.
“هيا، الجدة تنتظرنا في المنزل لتناول العشاء معًا.”
عند ذكر الجدة، ابتسمت هانا بسعادة.
“حسنًا، هيا بنا إذن!”
ضحكت جيسيكا على سرعة تغيير موقفها بعد ذكر الجدة.
“لقد تغيّر موقفكِ بسرعة، هههه! هذا كله بسبب حبكِ لها، صحيح؟”
ابتسمت هانا بدفء.
“بالطبع، فهي عائلتي الوحيدة.”
صمتت قليلًا ثم التفتت إلى جيسيكا.
“وأنتِ يا جيسي، أنتِ عائلتي أيضًا.”
احمرّت وجنتا جيسيكا قليلًا وربّتت على شعرها.
“يا لكِ من فتاة طيبة.”
بينما كانتا تستمران في المشي، كانت هانا تسبق جيسيكا بحماس، متحمسة لتناول العشاء مع جدتها.
عندما فتحت الباب، نادت بفرح:
“لقد عدتُ، جدتي!”
لكن قبل أن تكمل جملتها، تجمدت في مكانها.
رأتها جيسيكا وهي تقف على بعد بضع خطوات، مستغربة من رد فعلها. وعندما اقتربت، لسع أنفها فجأة رائحة قوية…
تقدمت أكثر لترى هانا متيبسة ومرتجفة، عيناها متسعتان وكأن الحياة انسحبت منهما تمامًا، وجهها شاحب كما لو أن الدماء تخلّت عنه.
نظرت جيسيكا إلى الأمام… وشهقت بقوة، وكأن الهواء علق في صدرها. وضعت يدها على فمها وهي تحدق بالمشهد برعب، بينما بدأ بؤبؤا عينيها بالارتجاف.
لم تنتبه إلى السائل الدافئ تحت قدميها، شعرت بلزوجة غريبة تتسرب بين نسيج حذائها… لم يكن مجرد سائل عادي، لقد كان دمًا! دماء حمراء قانية غطت الأرضية، شكلت بركة امتدت حتى العتبة.
كانت الرائحة لاذعة لا تُحتمل، والغرفة موحشة، غارقة في صمت ثقيل لا يكسره سوى صوت قطرات الدماء وهي تسقط ببطء على الأرض، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة المشؤومة.
ستائر النوافذ تتمايل ببطء مع النسيم المتسلل، لكن الجو كان خانقًا، قاتمًا، يملؤه إحساس لا يُوصف بالفقدان.
عينا هانا تحركتا ببطء، وقلبها ينبض بجنون في صدرها، حتى توقفتا عند الجسد الملقى على الأرض. لكنها لم تكن كما عهدتها، لم تكن جدتها الطيبة التي اعتادت أن تضمها بحنان.
كانت ممددة هناك، لكن ليس بسلام.
جسدها لم يكن قطعة واحدة… أطرافها كانت مشوهة، ومعظم أعضائها الداخلية خارج جسدها، كأن الحياة انتُزعت منها بوحشية قاسية.
ذراعها كانت في زاوية غير طبيعية، وكأنهم كسروا عظامها مرارًا. ساقها ملتوية بطريقة تدل على أنها حاولت المقاومة، حاولت الهروب… لكنها لم تستطع.
تجمدت هانا للحظات، غير مستوعبة للمنظر المريع أمامها، بينما تسارعت ضربات قلبها بجنون. تقدمت خطوة مرتجفة، لكن ساقيها لم تعد تحملانها، فسقطت على ركبتيها وسط بركة الدماء، تحدق بجثة جدتها المشوهة.
بصوت مرتعش، همست وكأنها لا تستطيع تصديق ما تراه:
“ما… هذا…؟ كيف…؟”
لكن الحقيقة ضربتها بقوة.
ما أمامها لم يكن كابوسًا… كان الواقع.
عندها، انطلق صراخها…
صرخة تلو الأخرى، وكل واحدة كانت أعلى من سابقتها.
مسكت رأسها بكلتا يديها، أظافرها تنغرس في فروة شعرها، وكأنها تحاول اقتلاع هذه اللحظة من عقلها. شهقاتها كانت حادة، متقطعة، تداخلت مع نحيبها المرتعش، وكأنها تحاول أن تتنفس، لكن الهواء يرفض الدخول إلى رئتيها.
كانت تبكي، ودموعها تسقط كالشلال، تبكي حتى لم تعد ترى سوى الضباب، حتى احترق حلقها من شدة الصراخ.
دخلت في حالة هلع غير طبيعية.
كان المشهد لا يُحتمل، رؤية صديقتها المفضلة بهذه الحالة جعلت معدة جيسيكا تنقبض. كان عقلها يحاول إنكار ما تراه، لكن صوت صراخ هانا أيقظها من ذهولها.
تحركت نحوها بجسدها المرتجف، ثم لفت ذراعيها حولها من الخلف، تعانقها بقوة، محاولة تهدئتها ومنعها من إيذاء نفسها وهي تتخبط في نوبة الهلع.
“هانا! اهدئي، أرجوكِ!”
لكن هانا لم تستجب، بل ظلت تقاوم بجنون محاولة التحرر من قبضتها.
أحكمت جيسيكا قبضتها، وشعرت حينها بجسد هانا المرتجف، فبدأت تبكي هي الأخرى.
خفضت رأسها وهمست بصوت متوسل قرب أذنها:
“أنا هنا… لا بأس… لا بأس…”
سماع كلمات جيسيكا جعل قبضة هانا على الهواء ترتخي، واهتزازاتها تتحول إلى ارتجافات أضعف… استسلمت أخيرًا، سقطت على ركبتيها، وجيسيكا لا تزال تمسك بها. لم تعد تقاوم، شهقت بأنفاس مخنوقة، ودفنت وجهها في صدر صديقتها، تُطلق بكاءً متقطعًا للحظات، حتى خارت قواها وأُغمي عليها بين ذراعي جيسيكا.
شعرت جيسيكا بجسد هانا المتراخي، فاحتضنتها بقوة، وكأنها تحاول حمايتها مما حدث.
لكن عقلها لم يتوقف، عيناها تجولان في الأرجاء محاولة فهم ما حصل، حتى لمحت سيفًا صغيرًا على الأرض، يبدو أن الجاني قد نسيه.
حدقت به، كان هناك رمز محفور على قبضته. رمقته بصمت، ثم اتسعت عيناها بصدمة عندما أدركت إلى من يعود هذا السلاح.
همست بصوت مرتجف:
“هل يعقل…؟”
يتبع…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- شعلة 2025-03-20
- 1 - دماء على العتبة 2025-03-18
التعليقات لهذا الفصل "1"