شعلة
الجو بارد.
أشعر أني ثقيلة.
لا… لا أستطيع الحركة.
كأن المياه تبتلعني ببطء.
آه… أشعر بالاختناق.
…
عزيزتي…“
صوت دافئ ينادي وسط المياه المتجمدة.
ماذا…؟ هذا الصوت… إنه-
تتسع عيناها وتلتف حولها بينما تبحث بيأس عن مصدر الصوت.
إنها… جدتي.
ابتسمت لا شعوريًا، لكن… الماء اقتحم رئتيها وملأهما بثقل خانق.
فتحت فمها لتناديها، لكن صوتها لا يخرج…
فقط فقاعات هواء صغيرة، تتراقص للحظات ثم تختفي.
حاولت أن تمد يديها، أن تكافح للوصول إليها، لكن… لا فائدة.
شيء ما يسحبها للأسفل، يجذبها بقوة نحو الأعماق المظلمة.
الضوء يتلاشى… الظلام يبتلع كل شيء.
لكن فجأة-
نور!
ما هذا…؟
تشق خيوط من الضوء العتمة، تزداد سطوعًا…
لم يكن هذا الضوء سوى أشعة الشمس التي أجبرتها على الاستيقاظ في هذا الصباح المرير.
تفتح عينيها ببطء.
تجلس بتثاقل ثم تنظر حولها، تجد نفسها في سريرٍ وغرفةٍ غير مألوفين.
تحدق في الشرفة التي بجانبها.
عيناها كانتا منتفختين ومحمرتين من شدة البكاء، وتشعر بفراغٍ قاتلٍ داخلها، وكأنها مجرد جسدٍ بلا روح. حلقها يؤلمها من كثرة الصراخ ليلة أمس.
تشيح بنظرها إلى يديها بينما تشابكهما معًا، تحاول تصفية أفكارها… لكن في تلك اللحظة، يضربها المشهد المروع كصاعقةٍ تزحف إلى عظامها، مما يجعل يديها ترتجفان.
لقد…
ماتت…
جدتي… قد ماتت…
من… من قام بذلك؟
بينما هي غارقة في أفكارها، يقطعها صوت طرقٍ على الباب.
“ت… تفضل.”
ينفتح الباب ببطء، فتدخل جيسكا.
“صباح الخير… هانا.”
هانا، التي بدت يائسة، لم تستطع حتى استيعاب كلماتها، فاكتفت بإيماءةٍ صامتة.
حدقت بها جيسكا للحظات… وجهها كان شاحبًا، ونظرتها فارغة، بلا لمعة، وكأن روحها غادرت معها، تاركة خلفها جسدًا بلا حياة.
“لقد أحضرت لك الفطور.”
جلست جيسكا على كرسي خشبي بجانبها وابتسمت ابتسامةً واهية.
تأملت هانا الطعام بصمت، بلا أدنى اهتمام، وكأن معدتها نسيت كيف تشعر بالجوع
“أين نحن؟” سألت هانا بصوتٍ مبحوح، كلماتها مرهقة وغير واضحة تمامًا.
“نحن في منزل العم ويل وزوجته. لقد استضافانا بعد أن علما بالحادث الذي حصل ليلة أمس.”
و… بالمناسبة…
“العم قال إنه اختار للجدة مكانًا هادئًا… تحت شجرة البلوط.”
تحاول هانا تقبّل الواقع بمرارة، ثم تقول بصوتٍ منكسر:
“هل يمكنني الذهاب لزيارتها؟”
“أجل، أجل، سوف آتي معك.”
“لا، لا بأس، سوف أذهب بمفردي.”
“هل أنتِ متأكدة؟” سألتها جيسكا بقلق.
“بالطبع.”
ارتسمت على شفتي هانا ابتسامة باهتة، محاولةً إخفاء الألم الذي ينهش قلبها، فقط لطمأنة صديقتها المراعية.
غيرت ملابسها، وضعت سيفها على خصرها، ثم نزلت الدرج بخطواتٍ ثقيلةٍ ومنهكة.
رأتها زوجة العم ويل، فاقتربت منها قائلةً بلطف:
“صباح الخير هانا… أقدم لكِ تعازيّ الخالصة على وفاة مربيتكِ… تفضلي، هذه بعض الأزهار، ربما تودين أخذها معكِ.”
“شكرًا لكِ، سيدتي.”
خرجت هانا من المنزل، تسير بصمتٍ في الطريق الترابي. كان الهواء باردًا، يحمل معه نسيم الخريف الذي يعبث بخصلات شعرها برقة، مما سبب قشعريرة في جسدها.
لم يكن المكان بعيدًا، لكنها شعرت وكأنها قطعت مسافةً طويلة. وعندما وصلت، وقفت للحظات أمام الشجرة العتيقة، تحدق في القبر الصغير المغطى بالتراب الطري، المحاط ببقايا أزهار ذابلة.
ركعت ببطء، جلست على ركبتيها أمام القبر، وضعت الأزهار التي أعطتها لها زوجة العم…
ثم حدقت في الاسم بصمت، كأن عقلها يرفض تصديقه… ثم، وكأن آخر ما تبقى من قوتها قد تبخر، بدأت الدموع تتجمع في عينيها بينما جسدها يهتز بأنين مكتوم.
قالت بصوت مرتجف، تحطمه شهقاتها:
“جدتي… أنا آسفة… لم أحْمِكِ… لم أفِ بوعودي…”
ازدادت شهقاتها اضطرابًا، وكأن كلماتها تخنقها أكثر كلما نطقتها.
“آسفة… كل هذا خطأي… آسفة، آسفة، آسفة…”
غطت وجهها بيديها المرتعشتين، بينما يهمس صوتها المتحطم:
“أنا فاشلة حقًا…”
رفعت رأسها ببطء، تحدق في القبر بعينين غارقتين بالدموع، ثم همست بصوتٍ منكسر، محمّل بالندم:
“لقد منحتِني الحب والسعادة… ربَّيتِني وكأنني ابنتكِ… رغم أنه لا تربطنا أي قرابة دم حقيقية…”
أخذت أنفاسها تتقطع بين الكلمات، وصوتها يزداد اختناقًا:
“وبالمقابل… لم أفعل شيئًا… لم أستطع فعل شيء…”
ثم همست بصوت مرتعش، بالكاد يُسمع:
“لقد متِّ بسببي…”
انحنت ببطء، وزحفت لتعانق شاهد القبر، تحتضنه كما لو كانت تتشبث بها للمرة الأخيرة، بينما تنهمر دموعها بلا توقف، تكرر بصوت واهن، يائس:
“أنا آسفة… جد آسفة…”
بدأ أنينها يخفت تدريجيًا، تحوَّل بكاؤها إلى شهقات متقطعة، ثم صمتت تمامًا. ولم يتبقَ سوى صوت الرياح التي عصفت بأوراق الأشجار، وكأنها تشاركها حزنها.
وسط صمتها… كان هناك شيء يشتعل في قلبها، إحساس يطغى على الألم، أقوى، أشد حدّة…
الغضب.
في تلك اللحظة، قبضت على الحجارة الرطبة تحتها، أظافرها تحفر في التراب، وهي تهمس بصوت بارد:
“لن أسمح لهذا أن يكون بلا معنى…”
رفعت هانا نفسها لتقف ببطء، عيناها الفارغتان اشتعلتا برغبةٍ جامحةٍ بالانتقام.
“جدتي… أعدكِ أني سأنتقم لكِ… لن أسامح الفاعل أبدًا… أبدًا.”
قالتها بنبرة باردة وغاضبة، بينما تصرّ على أسنانها.
وفي تلك اللحظة-
دوّى الرعد في السماء، تلاه وابلٌ من المطر، وكأنها تعكس ما يدور في قلبها.
ابتلّت ملابسها تحت المطر، لكنها لم تهتم. لم يكن البرد يؤثر عليها، لم يكن جسدها يشتكي… كل ما تشعر به الآن هو الغليان في داخلها.
دون تفكير، دون أي تردد، خطت خطواتٍ سريعة نحو الغابة القريبة.
توقفت وسط الأشجار، أخرجت سيفها من غمده واستلّته بحركةٍ حادّة.
“سأكون أقوى… سأنتقم.”
تحت العاصفة، وقفت بينما تتدرب على جذع شجرة صخمة.
وضعت في كل ضربة غضبها. أنفاسها تتسارع، ونبضات قلبها ترتفع. تنزلق قدمها في الطين، لكنها لا تتوقف، تنهض مجددًا، تضرب، وتضرب، حتى تتقرح يداها وتنزف، لكن الألم الجسدي لا يقارن بالألم في قلبها.
شعرها المبلل يلتصق بوجهها، وقطرات المطر تختلط مع العرق والدم.
كانت تضرب الجذع بجنون، صوت اصطدام السيف بالخشب يتردد في الغابة، يختلط مع دوي الرعد وصوت المطر المنهمر…
ضربة… ضربة أخرى… ثم أخرى.
بدأت التشققات تظهر على سطح الجذع، وتطايرت قطع صغيرة من اللحاء مع قوة ضرباتها.
بأنفاس لاهثة، قبضت على سيفها بقوة، ووجهت ضربة أخيرة بكل ما تبقى لديها من طاقة.
تحطم الجذع أخيرًا، وانحنى ببطء قبل أن يسقط أرضًا، محدثًا صوتًا قويًا حتى إنه أخاف الطيور في الغابة.
ظلت واقفة، تتنفس بصعوبة… لكن الغضب في عينيها لم يخفت.
بعد لحظات، دوى صوت يناديها من بين الأشجار:
“هانا، هل أنتِ هنا؟ ما هذا الصوت؟”
خرجت جيسكا من بين الأشجار، وحدقت في هانا التي كانت تقف منهكة، تلهث، مبتلة تمامًا، بينما يلتف نظرها نحو جذع الشجرة المقسوم.
“هانا… هل أنتِ بخير؟”
اقتربت جيسكا منها بخطوات سريعة، تنظر إليها بقلق، ثم قالت بنبرة موبخة:
“لماذا تتدربين في هذا الوقت؟ قد تصابين بنزلة برد!”
لكن هانا لم تجب، فقط سقطت جالسة على الأرض الطينية، تحدق في السماء الغائمة بصمت.
“هيه، يا حمقاء… سوف تؤذين نفسك بهذا الشكل… فلنرجع إلى المنزل حالًا!” قالت جيسكا بنبرة حادة، وهي توبخها.
في المساء
عادتا إلى منزل العم ويل، حيث غيرت هانا ملابسها وجلست مع جيسكا أمام المدفئة، تجفف شعرها بصمت.
كانت جيسكا تفكر في صمت، تحدق في صديقتها التي تبدو مرهقة بشدة. كانت ملامحها غاضبة أكثر منها حزينة.
ثم قطعت الصمت قائلة:
“جيسكا… هل لديكِ أدنى فكرة عن الشخص الذي يقف خلف ما حدث؟”
تنهدت جيسكا، ثم قالت بنبرة جادة:
“في الواقع… نعم.”
سحبت منديلًا أبيض، وبداخله سيف صغير، ثم ناولته لهانا:
“انظري إلى الرمز المنقوش على ذراعه.”
اتسعت عينا هانا بصدمة، ثم همست بذهول:
“مستحيل… إنه رمز العائلة الإمبراطورية!”
أومأت جيسكا بجدية:
“أجل، هذا جنوني… لقد انتظرت حتى تهدئي لأخبرك.”
ضغطت هانا على السيف بين يديها وهي تقول بذهول:
“لكن… ما الذي قد تجنيه العائلة الإمبراطورية من قتل مزارعة بسيطة؟”
هزّت جيسكا رأسها قائلة:
“أجل، معكِ حق، هذا غير منطقي.”
ثم أضافت هانا، بصوت خافت مليء بالشك:
“عندما رأيت جثتها… بدا وكأنها تعرضت للتعذيب، وليس مجرد جريمة قتل عادية…”
ترددت جيسكا قليلًا، ثم قالت بحذر:
“هل أنتِ متأكدة أنكِ تريدين مناقشة هذا الأمر الآن؟ أقصد… ألن يكون مؤلمًا لكِ؟”
نظرت هانا إليها بعينين باردتين، وقالت بنبرة مختلفة تمامًا عن صوتها المعتاد:
“لا بأس… كل ما أريده الآن هو معرفة الجاني… لن استمر بالبكاء طيلة حياتي طبعا.”
حدقت بها جيسكا، غير معتادة على رؤيتها بهذا الشكل… وكأن الشخص الذي أمامها ليس هانا التي تعرفها، بل شخص آخر تمامًا.
“حسنًا إذن…” قالت جيسكا ببطء، ثم تابعت:
“عندما فكرت في الأمر، الفرضية الوحيدة التي خرجت بها هي أن الجدة كانت تحمل معلومة ما كانوا يحاولون الوصول إليها. وهذا ما يفسر طريقة قتلها. لكن غير المنطقي هو… لماذا الآن؟ لماذا لم يحدث شيء طوال السنوات السابقة؟”
صمتت للحظات، ثم أضافت بقلق:
“بالإضافة إلى ذلك… كيف لمزارعة عادية في بلدة بعيدة عن العاصمة أن تعرف معلومة مهمة لدرجة تدفع العائلة الإمبراطورية بنفسها للتدخل؟”
أخذت هانا نفسًا عميقًا، ثم قالت بحزم:
“هممم… إذن علينا التحقيق في الأمر… جيسكا، فلنسافر إلى العاصمة غدًا.”
اتسعت عينا جيسكا بصدمة:
“ماذااا؟ غدًا؟! هل أنتِ جادة؟!”
أجابت هانا دون تردد:
“أجل، أنا جادة… كلما تأخرنا، قلت فرصتنا.”
تنهدت جيسكا باستسلام:
“آه… حسنًا، لكن لا تشتكي مثل المرة الماضية. أنتِ تعرفين بالفعل أن السفر إلى هناك مرهق.”
ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي هانا:
“لا تقلقي، لن أفعل… أعدكِ.”
لكن في داخلها، كانت تهمس لنفسها:
“انتظر فقط… سأجعلك تدفع الثمن.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- شعلة 2025-03-20
- 1 - دماء على العتبة 2025-03-18
التعليقات لهذا الفصل "شعلة"