1
الفصل 001
إذًا، هذه هي الحِكاية.
حِكايةُ الأميرةِ أنايس من بلفاست، التي استولتْ فتاةٌ محتالَةٌ على جسدِها ظلمًا، لكنها استعادت جسدها في النهاية، لتجد نفسها فجأةً في موقفٍ لم تكن تتوقعه: متورّطةً مع أكثرِ رجالِ القارةِ جدارةً، وانتهى بها الأمرُ مضطرّةً إلى مواجهةِ عواقبَ جرائمَ لم ترتكبْها أبدًا.
***
ارتجفت اليد التي تحمل المرآة.
“كذبة.”
“آنستي….”
“إنها كذبة، أليس كذلك؟ يا مربية، أخبريني.”
أرادت أن تُغلِق شفتيها، غير أنّ الألم منعها من ذلك. شفَتاها المتورّمتان المغطّيتان بالجروح انعكستا عليها في المرآة. حدّقت في انعكاسها، وقد بدأ عدم التصديق يستقرّ فيها، قبل أن تحوّل نظرها نحو المربية.
كان فيها نظرة تتوسّل، ‘اشرحي لي هذا’. لكن المربية، التي كانت معها منذ ولادتها، تجنّبت عينيها بخجل. ثم سألت متردّدة.
“ألا تتذكرين حقًّا أي شيء؟”
“لا أتذكّر.…”
“آنستي….”
“أنا….”
أنزلت الآنسة الصغيرة، أنايس، نظرها إلى المرآة من جديد.
ارتجف جسدها من شدّة الصدمة.
لأنّ هذا لم يكن وجهها الذي رأته في المرآة حتى يوم أمس.
كان لقب أنايس هو ‘أميرة بلفاست’.
لا لأنها أميرةٌ حقًّا، بل بسبب ملامحها الرقيقة.
أنفٌ رقيق بارز. شفتان ورديّتان وخدّان ناصعان. عينان خضراوان صافيتان وشَعرٌ أشقر طويل وكثيف.
لو تحوّلت عبارة ‘أميرة من حكاية خرافية’ إلى إنسان، لبدت على الأغلب مثل أنايس فلور.
كلما نظرت إلى المرآة، رأت جمال نفسها لدرجة أنها كانت تُحيّي انعكاسها أحيانًا قائلة، “يا إلهي، مرحبًا أيتها الجميلة!”
لكن الآن، كانت المرأة في المرآة بعيدة كل البعد عن كونها ‘أميرة’.
“أوه، أنا، آوتش، آوتش، آوتش.…”
فُتِحَت شفتا أنايس الورديتان ثانيةً ثم انغلقتا بسرعة بسبب الألم. كانت القشور السوداء التي تغطّيهما تجعل الحديث صعبًا.
ولم ينتهِ الأمر عند هذا؛ فقد كانت خدودها الناعمة متورّمة ومحمرّة.
كانت تبدو كحروق شديدة.
بدت كما لو أنّ قصرها اشتعل نارًا ونجت منه بأعجوبة، وجسدُها مُملوء بالآلام والجراح.
بالطبع، كان قصر فلور، حيث تعيش أنايس، سليمًا تمامًا.
ظلّ جميلًا كما كان، لكنّ أنايس وسط ذلك الجمال كانت مُحطَّمة.
عيناها الخضراوان، اللتان طالما تباهت بهما، ظلّتا سليمتين، لكنّ رموشها الطويلة الكثيفة احترقت. حاجباها؟ اختفيا بلا أثر. أمّا شعرها الذهبي!
قُصَّ شعرها الأشقر الكثيف إلى قطع، وكان يفوح منه رائحة الدخان ويتساقط متساقطًا.
تجمّعت الدموع في عينيها، الجزء الوحيد منها الذي لم يتضرّر.
“ما…ماذا حدث لي؟”
لم يكن أنّها لا تعلم ما حدث.
لقد استيقظت قبل ثلاثين دقيقة فقط، وكانت مربيتها المخلصة دائمًا، آن، قد أخبرتها بكل شيء.
فهمته بعقلها.
على الرغم من أنّها كثيرًا ما تظاهرت ببعض الحماقة، كانت أنايس ذكيّة.
لكن الفهم والقبول أمران مختلفان. وقد وجدت أنايس قبول واقعها الجديد شبه مستحيل.
ومن يستطيع لومها؟
ماذا تفعل لو استيقظت يومًا لتكتشف أنّ عامًا كاملًا قد مضى؟
وليس مجرد عام واحد. ماذا لو استيقظت لتجد أنّ جسدك السليم سابقًا قد امتلأ بحروق شديدة!
كان ذلك سخيفًا، لكنه كان الحقيقة.
بحسب ذاكرة أنايس، فقد نامت في الليلة السابقة مترقّبةً عيد ميلادها التاسع عشر. كان أمامها الكثير لتنتظره بشوق.
كانت والدتها قد اشترت لها أقراطًا من الزمرد لتلائم عينيها. ووعدها والدها بحصان جديد.
وجدّها، يا إلهي. كان جدّها قد أعدّ تسعة عشر هدية للاحتفال بسنواتها التسع عشرة!
لذا، كان طبيعيًا أن تنام أنايس سعيدة. فمجرد تخيّل ما قد تكون عليه الهدايا التسع عشرة جعلها متحمّسة.
لكنها الآن، هذا الصباح، استيقظت مصدومة. كان جسدها كلّه يتألّم بشدّة. وكانت بشرتها الناعمة على ذراعيها محمرّة مجروحة، وأطراف أصابعها ملتوية ومتصلّبة.
كان أول ما فعلته هو مناداة مربيتها. كانت تثق بأنّ آن ستشرح لها كل شيء.
لكن عندما رأتها آن، انهارت على الأرض وهي تبكي.
“آه، يا آنستي! أنتِ على قيد الحياة!”
أُصيبت أنايس بالذهول. حيّة؟
كان اليوم عيد ميلادها التاسع عشر، فلماذا كانت تسمع مثل هذه الكلمات المشؤومة؟
عندما ألحّت أنايس على الحصول على إجابات، أخبرتها آن بأمرٍ أكثر صدمة.
“اليوم هو…هآه…اليوم عيد ميلادكِ العشرون، يا آنستي. وحفلة عيد الميلاد التي كانت مُقرَّرة…لقد أُلغيت.”
ارتجفت أنايس، غير مصدِّقة، ولم يكن أمامها سوى أن تسأل مرة أخرى.
“عمّ تتحدّثين؟ هل الجميع يمازحني؟ أنتم تُحضّرون لي حفلة عيد ميلاد مفاجئة، أليس كذلك؟”
حتى وهي تقول ذلك، كان لديها شعور سيء. لم تكن هناك أي حفلة مفاجئة.
لم تستطع المربية متوسطة العمر إلا أن تُجيب بصعوبة.
“أنا آسفة جدًّا، يا آنستي….”
“لا تعتذري، أيتها المربية!”
ارتعش صوت أنايس مع اختلاط الدموع بكلماتها.
“أخبِريني! ما هذه الحروق على وجهي؟ هل بلغتُ العشرين حقًّا؟”
“لكن يا آنستي، أنا فقط….”
امتلأت عينا المربية بالدموع أيضًا. تلوّت أنايس من الألم.
كان الأمر سخيفًا. لم تستطع حتى أن تعبّر بوجهها دون أن تشعر بالألم!
لكن الأسوأ لم يأتِ بعد.
“يا آنستي، لقد أصابتكِ صاعقة أول أمس، في ميناء بلفاست.”
انفتح فم أنايس دهشةً.
“صاعقة؟”
“نعم….”
“هل أصابتني الصاعقة؟”
“يؤسفني القول، نعم، يا آنستي.”
“في الميناء؟”
“آنستي المسكينة، يقولون إن الألم الشديد قد يؤثر على العقل….”
أخرجت المربية منديلًا ومسحت دموعها. كان واضحًا أنّها تعتقد أنّ أنايس فقدت عقلها.
حاولت أنايس بيأس أن تفكّر. كانت بحاجة لأن تعرف. ما الذي يحدث حقًّا؟
إن لم يكن هذا مقلبًا قاسيًا من أحدهم، فلماذا يحدث هذا؟!
طرأت لها فكرة فجأة. رمت أنايس المرآة على السرير وبدأت تُفتّش بجنون تحت وسادتها. كانت يداها ملفوفتين بالضمادات بالطبع، لكنها لم تُبالِ.
“آنستي!”
حاولت المربية مسرعةً إيقافها، لكن أنايس كانت أسرع. وجدت ما كانت تبحث عنه وسحبته فورًا.
مذكّرة أنايس.
مذكّرة ورديّة مخملية على شكل قلب، مزينة بحُباتٍ صغيرة، ومغلقةٍ بمفتاح، صديقتها الثمينة!
كانت قد سمّتها ذات مرة ‘شارلوت♡’، لكن الاسم الآن أحرجها.
“المفتاح. المفتاح.”
فتّشت مجددًا تحت الوسادة، لكنّ المفتاح لم يكن في أي مكان.
هزّت أنايس الوسادة كالمجنونة. ولم يظهر المفتاح إلا بعد أن تناثر نصف ريش الإوزّ من الوسادة الفاخرة. بعينين محمرّتين، فتحت مذكّرتها.
حاولت المربية مساعدتها عدة مرات، لكن أنايس دفعت يديها على غير عادتها. ثم وجدت آخر جملة كتبتها في الليلة السابقة.
<أتطلّع إلى عيد ميلادي التاسع عشر! كياا!>
غير أنّ الأمر كان مختلفًا عمّا تتذكّره. لم تكن تلك الجملة هي الأخيرة.
الجملة التي كتبتها بفرح شُطبت بخطوط عبثية، و….
<يا إلهي.>
<هذا مؤسف.>
<يبدو أنّ هدية عيد ميلادكِ التاسع عشر هي أنا.>
…هذا ما كُتب. وتلتها ملاحظات أخرى بنفس الخط الغريب.
<أنايس فلور؟ 19 عامًا (أظن). شقراء. بلا خطيب. ليست من الإمبراطورية، ولا من الشمال. أي رواية هذه؟ قصة تجسّد؟ تبدو عائلة غنيّة.>
<عائلةُ كونت. لقبان. الابنة الكبرى. مُلقّبة بالأميرة.>
<هل هو متلازمة الأميرة ربما؟>
<كنتُ أظنها ساذجة، لكن حسب مذكرتها، فهي ليست كذلك.>
بأحرف لم ترَها يومًا، لكنها كانت تقرؤها على نحوٍ غريب، كُتبت الملاحظات واحدة تلو الأخرى.
<ويبتون؟>
<وصلتُ متأخرة في قصص التّجسّد. هناك 32 شخصًا سبقوني بالانتقال بين العوالم (هل الكاتب يحاول خداع القرّاء؟)>
<يبدو أنه عالم تموت فيه إن كشفت أنك متجسّد.>
“….”
رفعت أنايس نظرها والتقت بعيني المربية، التي كانت تحاول جاهدة مسح الدموع من وجنتيها.
فتحت فمها.
“أيتها المربية.”
“آنستي!”
“أنا.”
“نعم؟”
“أشعر أنني سأفقد الوعي….”
“يا إلهي! استدعوا الطبيب! استدعوا الطبيب!”
كان يمكن سماع صوت الخادمات الراكضات بجنون خارج الغرفة.
“آنستي!”
شعرت بدوخة في رأسها.
‘لا بد أنّ هذا حلم. إن عدتُ للنوم واستيقظتُ….’
مهلًا.
عندما كادت عيناها تُغلقان، توقفت بسبب فكرة.
“أيتها المربية. لديّ طلب.”
“نعم؟”
“إيّاكِ أن تنظري في مذكّرتي.”
“ماذا؟ آنستي!”
“وإلّا سأفقد وعيي مرة أخرى.…”
ثم أغلقت عينيها مجددًا.
“آنستي! آنستي!”
تلاشت صرخات المربية. ومع ذلك، تمتمت أنايس.
هذا حلم. هذا حلم. عندما أستيقظ، سيختفي كل شيء. نعم، لا بدّ أن يكون كذلك.
…لا يمكن أن يكون هذا.
يتبع في الفصل القادم.
التعليقات لهذا الفصل " 1"