“دافني هنا …”
أجاب سيليستيان بصوت مفعم بالحماس ، ورغم أنه لم يفعل أكثر من العودة إلى نقطة زمنية معينة ، إلا أن صغر سنه جعله يتصرف بعقلية قريبة من عقلية الصبي ، نظر سيليستيان إلى المرآة الموضوعة بجانب الطاولة المستديرة في الحديقة الزجاجية ،
شعره البلاتيني وعيناه الخضراوان كما هما ،
لم يمض سوى بضعة أيام على وجهه الذي بدا كجمجمة تحت أنقاض الحجارة ، أما الآن فقد استعاد ملامحه ونضارته ، بدا شابًا وسيمًا بوجه مشرق ونظرة مليئة بالثقة ..
كان يلمس وجنتيه مرارًا وكأنه ينظر في المرآة لأول مرة منذ زمن ، ولفت انتباهه لون زجاجات المشروبات الذهبية الشفافة المصطفة على العربة ، التي تشبه لون شعره ..
“لا أرى أي علاقة بين وجود دافني هنا ووجود جلالتك …”
“في المرة السابقة لم أرها…”
في حياته السابقة ، لم تكن دافني موجودة في أي مكان على القارة ، وكأنها لم تولد من الأساس ..
“لهذا كنت دائمًا أفشل ، قبل ثلاثة أشهر فقط ، كنت في مكان لو علمت أين هو لصُدمت ولم تستطع حتى الوقوف …”
عند ذكر “المشي”، تجمدت ملامح كيليان تمامًا ، حاول سيليستيان تجاهل الأمر وهو يحرك عينيه الخضراوين للأعلى ، ثم جلس وقد شبك ساقيه ونظر إلى الباب الزجاجي ، بدا وكأنه يتوقع أن تقتحم دافني الباب في أي لحظة ، كما فعلت في المرة السابقة ..
“كيف يمكن تجاهل أمير بهذا الجمال؟ لن أستطع النوم ليلاً بسبب ذلك!”
“لقد التقت عيوننا بالفعل ، إنها القدر ، أشعر وكأنني رأيتك من قبل…”
تذكر سيليستيان تلك الكلمات وابتسم بخبث ، في حياته السابقة ، لم ير هذه النظرة من قبل ، لا النظرة المليئة بالاشمئزاز ولا الجنون الذي كان يتوسل إليه بالموت ..
لم يتمكن من تحيتها أثناء الاحتفال ، ولكن هنا ، حيث تأتي دافني وتذهب كثيرًا ، فإن “اللقاءات العرضية” ستكون أمرًا متكررًا ..
“إذن، هل تخطط للرقص مع الفتاة الصغيرة في العاصمة الملكية؟”
“ولم لا؟”
استمر كيليان في النظر إلى فنجانه بملامح باردة كالصقيع في منتصف الشتاء ، تنهد سيليستيان بخفة وأمال رأسه ..
لم يكن هناك أي أثر للكونت الذي كان يكره رؤية دافني المتعجرفة ، والمستبدة ، والذي كان يقول إنه لا يريد رؤيتها مرة أخرى ..
ضاقت عيناه الخضراوان قليلاً ..
تصرف وكأنه والدها ..
تمامًا كذلك …
“فتاة صغيرة؟ من يسمعك يظن أنها ابنتك يا كيليان …”
“…”.
الحياة الوحيدة التي كانت فيها حياة دافني “أكثر احتمالاً” كانت في ذلك الماضي الوحيد الذي استعارت فيه اسم سيريناد ..
“كنت تقول إنك لا تريد رؤية تلك الفتاة الصاخبة مرة أخرى ، لذا وكأنك تنتقم منها ، لم تمنحها شيئًا وتركتها تموت …”
بدأ صوت قطرات المطر يسقط من السقف الزجاجي فوق رأسي كيليان وسيليستيان ، وسرعان ما غمر صوت المطر العالم بالخارج وأظلمت الأجواء قليلاً ..
“أتساءل كيف يكون الشعور بالموت ..”
تحدث سيليستيان وهو يعقد ذراعيه بخفة ..
“إذا كنت ترغب في معرفة ذلك ، أمامك شخص يعيش هذا الشعور كل يوم …”
رغم أن عيني كيليان الرماديتين كانتا كما هما دائمًا ، إلا أن تجاويف عينيه الغائرة وخديه النحيلين أظهرتا أنه لم يعد ذلك الوحش الذي كان يهيمن على ساحة المعركة ، بخلاف الأمير الذي يستعيد شبابه في كل مرة يعود فيها ..
“جلالتك ..”
ألم يسببته شظية قنبلة يدوية اخترقت عموده الفقري ، مما أدى إلى شلل الأعصاب في الجزء السفلي من جسده ، واحتراق صدره من الداخل ، كان يعذبه كل لحظة وكل يو ، صباحًا ومساءً ، سيليستيان كان يعلم ذلك أيضًا ..
“إذا حاولت مرارًا ولم تستطع الحصول عليها ، فهذا يعني أنها لم تكن لك من البداية ، تلك الفتاة ليست دمية.”
قالها كيليان بنبرة حادة ، وكأنه يحاول حماية مخلوق صغير لا يزال في طور النمو ..
كأنما يحاول حماية صغير لم ينضج بعد ، كان صوت كيليان مليئًا بغريزة الحماية ..
منذ متى أصبح يهتم لهذه الدرجة؟
كيليان سيريناد الذي يعرفه سيليستيان كان دائمًا يختبر دافني ، كانت تلك الاختبارات أحيانًا لطيفة وأحيانًا قاسية ، وفي النهاية ، عندما فشلت دافني في اجتياز تلك “الاختبارات”، لم يمنحها كيليان شيئًا وتركها تموت ، كان هو السبب الذي جعلها دائمًا تسير على طرق محفوفة بالمخاطر ..
لكن ما السبب الذي يجعله الآن يواجهه بهذا العناد وكأنه مسلح بالأشواك؟
“أنت تعلم ، دافني هي الوحيدة بالنسبة لي ،
إن لم تكن هي…”
“جلالتك.”
قطع كيليان كلام سيليستيان بصوت ملؤه الإلحاح ، وكأنما يحاول منع توقعاته الصدئة من التشابك مع توقعات جديدة ..
“تلك الفتاة ليست سوى ذاتها ، دافني التي كانت في ‘المرة السابقة’ أو ‘ذلك الوقت’ لم تعد موجودة ، إنها ليست قدرك الوحيد كما تعتقد …”
كان ذلك اعترافًا بأن كل شيء كان مختلفًا تمامًا عن الماضي ..
قبض كيليان على يده المغطاة بالقفاز بقوة ، بينما كان سيليستيان ينظر إلى زجاجة الشراب الموضوعة في المكان الذي امتدت إليه عيناه ، من الواضح أن كيليان لم يكن ينتظره إذا لم يصب له كأسًا ..
“عد إلى حيث يُحتاج إليك ، جلالتك …”
كان يشير إلى تيريوسا ، رد سيليستيان بهزة كتفيه ، وكأنه يقول إنه يفعل ذلك بالفعل ..
“يمكنني أن أقدم لك خيارًا آخر أيضًا …”
فتح شفتيه الحمراء كالسيف المشحوذ وتحرك بصوت حازم ..
“بدلًا من اليوم المعتاد ، اختر الموت في يوم أقرب ، واترك لدافني… وصية.”
رغم برودة الكلمات ، إلا أن صوت سيليستيان كان بسيطًا ومليئًا بالدفء ، بينما نزع القفاز الحريري من يده اليمنى وكشف عن ندبة عميقة ، أمسك بزجاجة الشراب الذهبية ، كان السائل داخلها يتمايل يمينًا ويسارًا كأمواج البحر بين يديه ..
“وأخبرها أن تحبني ..”
من الواضح أنها اجتازت “اختبارًا” من نوع ما ، مما يعني أنها كانت تشارك رابطة مختلفة مع كيليان ، وإذا كانت دافني تستمع لكلماته ، فمن المؤكد أنها ستعيش وفق وصيته ، كأنه والدها ..
كانت الندبة على راحة يده واضحة حتى في ظل نظر كيليان المظلم ، فتح سيليستيان ببطء سدادة الزجاجة وسكب الشراب الذهبي على الأرضية الرخامية ، تراكم السائل عديم اللون في الشقوق التي تشكلت هناك منذ فترة طويلة وتدفق إلى الأسفل ..
“ثم أضف أن موتي سينهي كل شيء …”
❖ ❖ ❖
كان الربيع المبكر في سيريناد باردًا ولا تصله أشعة الشمس جيدًا ..
أقيمت جنازة البطل بنفس العظمة التي شوهدت في مرات سابقة ، وقف أولئك الذين تبعوه وأعجبوا به في صفوف متراصة ، مشاركين في مراسم الجنازة ، حيث طبعوا قبلاتهم على أيديهم ووضعوها على نعشه لإلقاء تحية الوداع الأخيرة ..
وقف سيليستيان في الخلف ، ويداه خلف ظهره ، وعيناه بلا أي انفعال يحدقان في النعش الأسود الكبير الذي كان يبتعد ببطء ..
سار خلف الموكب بخطوات بطيئة ، بينما كانت أصوات النحيب والبكاء المكتوم تتردد من حين لآخر ..
أين دافني؟
تساءل في نفسه ، حينها رأت إحدى الخادمات ذات الشعر الذهبي شخصًا ما قادمًا من أسفل التل وهمست:
“السيدة قادمة.”
كانت دافني تصعد ببطء من جهة الكاتدرائية الكبرى ، تحمل باقة من الزهور البيضاء ، مكونة من زنابق وورود بيضاء مرتبة بعناية ..
كانت ترتدي قبعة بيريه سوداء وفستانًا أسودًا أنيقًا ، مع كدمة زرقاء تزين وجنتها اليمنى ، ووجهها خالٍ من أي تعبير ..
بعد انتهاء المراسم الأخيرة ، أطلق الجنود طلقات نارية في الهواء في وقت واحد ، وقف روميو في مقدمة الموكب وأثبت شارة على نعش كيليان ..
— أيها العجوز اللعين ، استيقظ فورًا ووقع على العقد ..
— لا تمت ، من سمح لك بالموت؟ ساعدني ، أيها الكلب كيليان سيريناد!
في السابق ، كانت دافني تصرخ بأعلى صوتها وكأنها تريد الدخول مع النعش ، لم يكن الأمر تعبيرًا عن الاحترام لتربيتها أو الحزن لفقدانه ، بل كان نحيبًا وهي تطالب بنصيبها من الإرث ..
نظرًا لأن الجنازة كانت دائمًا في حالة فوضى بسببها ، ألقى العديد من الحاضرين نظرات عدائية مليئة باللوم نحوها ..
لكن دافني الآن كانت هادئة ..
بل ، كانت ساكنة تمامًا ..
كان روميو رودريغيز ، مرتديًا معطفه الطويل ، يحتضن كتفي دافني الصغيرين ، ربت على كتفيها بخشونة عدة مرات ، مما جعلها تعبس ..
“إذا أردتِ البكاء ، فلا بأس أن تبكي ..”
“يدك تؤلمني كثيرًا ، خفف من قوتك ..”
تذمرت مرة واحدة ، روميو ، الذي أبعد يده مؤقتًا ، احتضنها مجددًا ..
“ألستِ تريدين البكاء؟”
“اخبرني عرابي ألا أبكي ، ربما لهذا السبب… لا أشعر بالرغبة في البكاء ، شعرت بنفس هذا الشعور عندما توفيت عمتي؟”
تلاقت عينا روميو وسيليستيان للحظة ، انحنى روميو بخفة احترامًا له ..
“أنا آسفة لأنني وصفتك حينها بأنك بلا قلب لأنك لم تبكِ ، كنت أعتقد أنك كنت أحمقًا لمغادرتك المفاجئة إلى ليفيان ، لكنني أعتقد أنني بدأت أفهم لماذا فعلت ذلك ..”
قالت كلماتها بنبرة مازحة وبهدوء ، وكأنها تحاول التخفيف من وطأة مشاعرها الثقيلة ، مسحت أسفل عينيها عدة مرات ، ثم بدأت بصوت هادئ تعدد الأشياء التي حصلت عليها بعد وفاة كيليان ، لم يكن الأمر وكأنها تتفاخر ، بل كانت تراجع الأمور واحدة تلو الأخرى كما لو كانت تتحقق من الحقائق ..
“روميو ، لا أريد أيًا من هذا ، سأمنح كل شيء لمن يحتاجونه ، أتمنى فقط لو عاد ذلك الرجل مرة أخرى …”
“هذا كلام ضعيف ، لقد أردتِ تلك الأشياء من قبل …”
“صحيح ، كنت أريدها…”
نظرت دافني مرتين نحو المكان الذي دُفن فيه النعش ، لكن نظرها لم يصل إلى حيث كان يقف سيليستيان ..
مع حلول الغروب ، غادر جميع المعزين ، حتى روميو ، الذي بقي بجانب دافني حتى النهاية ، ودّعها وغادر ..
كان سيليستيان واقفًا خلف شجرة ضخمة ، يراقب بصمت مؤخرة رأس دافني ، التي جلست على الأرض أمام القبر حيث دفن نعش كيليان ..
كانت دافني تنظر بصمت نحو بحيرة أولدن ، التي كانت تبتلع ضوء الشمس بأكمله ..
“آنسة دافني …”
عندما ناداها سيليستيان ، استدارت لتواجهه ..
كانت عيناها الذهبيتان فارغتين تمامًا ، بدا أنها لم تبكِ ، إذ أن محيط عينيها وخديها كانا شاحبين ومنهكين ، عندما اقترب سيليستيان ومد يده ليمسك بيدها ، بدت وكأنها ستنهار في أي لحظة ، جافة للغاية وكأنها قد تتفتت تحت لمسة خفيفة ..
تردد سيليستيان للحظة وهو يحدق في وجهها الذي رآه لأول مرة بهذه الحالة ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 99"