مع صوت الموسيقى الأخيرة التي كانت أبطأ وأهدأ ، والتي بدت كأنها تلائم نهاية الرقصة ، وضع سيلستيان شفتيه على شعر دافني مجددًا ، ثم أمسك بخصرها بحركة بدت طبيعية تمامًا كجزء من الرقصة ، كانت حركته تلك أنيقة لدرجة أنها أنستها ألم قدمها الذي تسبب به قبل قليل ، حاولت دافني بكل طاقتها أن تخفي احمرار وجهها وزوايا شفتيها التي كادت ترتفع بابتسامة …
‘لا تضحكي ، دافني ، إذا ضحكتِ ، ستخسرين ..’
وضعت دافني ذقنها على كتفه للحظة ، متجنبة النظر إلى عينيه ، محاولة إخفاء تعبيراتها غير المتحكم فيها ، وحينها ، مرّت شفتيه برفق على وجنتها ..
أعلى شلال شامباخ دائمًا ما تهب نسائم منعشة ، وهذا ما دفع دافني إلى ارتداء شال يلفّ بشرتها ، لكن ما بينهما الآن كان أشبه بمساحة محكمة الإغلاق ، حتى الهواء لم يجد له منفذًا للمرور …
على الرغم من أن جسديهما كانا قريبين للغاية ، إلا أن سيلستيان ، الذي شعر بالغيرة فقط لأن عينيها لم تلتقيا بعينيه ، بدا كرجل طفولي بشكل لا يُصدق ، هل يمكن أن يغار أحد بسبب نظرة؟
كانت عقلانية دافني تطلب منها أن تبقى هادئة وترد بالمثل ، لكن غريزتها كانت تهمس لها بأن تأخذه إلى مكان منعزل وتبدأ شيئًا يبدأ بـ”ج”…
“بووم!”
فجأة ، أطلق أحدهم ألعابًا نارية زاهية في السماء ، عادت دافني إلى الواقع فورًا ..
كان ذلك من فعل جيرينيسيس ، التي بدت في غاية السعادة ، فيما مدت الفتيات أيديهن لالتقاط أوراق الزهور التي تساقطت من السماء كفراشات ملونة تهبط ببطء ..
استمرت دافني في الإمساك بيد سيلستيان ، تدور معه على أنغام الموسيقى كما يقودها ، وحين كانت خطواتها تتشابك ، كان سيلستيان يسند خصرها وينقلها برشاقة إلى الإيقاع التالي ..
عندما بلغت الموسيقى ذروتها ، لم تعد تسمع شيئًا سوى الأنغام ، ولم تعد ترى سوى عينيه الخضراوين البراقتين ..
“دافني ، بماذا تفكرين؟”
كانت تفكر فيه بالطبع ، لكنها لم ترغب في التعبير عن ذلك بعبارات مكشوفة ..
لم تعد تفكر في كونها على المسرح أو أن أحدًا قد يراقبها ، انتهت الموسيقى أخيرًا ، فأمسكت دافني بأطراف فستانها وانحنت برشاقة …
“يبدو أن لديك خبرة واسعة ، أيها الدوق ، أنت بارع جدًا في التعامل مع شريكتك …”
“هممم…”
ابتسم سيلستيان بخفة ورفع حاجبه كما لو أنه في موقف محرج ، محاولًا التهرب من الإجابة ، بدا وكأنه لا يريد الرد ، مما دفع دافني لتغيير الموضوع بلباقة ..
“لقد رقصت معكِ عدة مرات من قبل …”
“ماذا؟”
“هذه المرة…”
توقف سيلستيان عن الحديث مرة أخرى ، مما دفع دافني للتساؤل وهي تميل برأسها ..
كانت جملة “هذه المرة” إحدى عباراته المتكررة ، وتُلمح دائمًا إلى وجود “ماضٍ” بينهما ..
دافني ، التي تعلم أن سيلستيان قد عاد بالزمن إلى الوراء ، لم تجد صعوبة في فهم ما يقصده ، لكن مع ذلك ، لم يكن لديها أدنى فكرة عن حياته السابقة ، أقصى ما يمكنها معرفته هو بعض الجمل المكتوبة في الرواية ..
ماضٍ لا تعرفه ، وحياة سابقة لسيلستيان لا علم لها بها ..
“هذه المرة؟”
سألت دافني وهي تقلّد نبرة كلامه ، مستفسرة عمّا لم يكمله ، بدت عليه الحيرة ، وكان يتردد في الإجابة ، بينما اقتربت منه دافني وعانقته بإغاظة ، متحدية إياه بعينيها ..
“هذه المرة؟ ماذا عنها؟”
رغم أنه بدا متوترًا ، لم يبتعد عنها ، بل نظر في عينيها مباشرة ، كانت أفعاله اللطيفة التي شعرت بها حديثًا تُثير في داخلها إحساسًا بأن هذا الرجل قد أحبها بصدق منذ زمن بعيد …
مع ذلك ، ظلّ سيلستيان يفكر بعمق ، متجنبًا النظر إليها ، وكأنه يخطط كيف يمكنه إخبارها بالحقيقة دون أن يبدو وكأنه فقد عقله ..
لكن كما اعترفت دافني لنفسها ، لم يكن هناك أي اتصال بينهما قبل لقائهما الأول عند منصة الإعدام ، بدأ التعبير عن وجه سيلستيان يزداد ظلامًا ، وكأنه غارق في أفكاره ..
‘ماذا لو كانت الرواية مجرد رواية فقط؟ ..’
لو كان سيلستيان ، الذي يتحرك ككائن حي ، هو من كان يطارد دافني بدلًا من سايكي ، لكان كل شيء حتى الآن مختلفًا تمامًا ، بالطبع ، لو أن رجلًا مثل سيلستيان كان يلاحقها ، لكان ذلك يعني تبادل المشاعر من الطرفين ، ما كان ليشكل مشكلة كبيرة بالنسبة لدافني ..
لكن المشكلة الحقيقية كانت:
“…هل أنا حقًا ‘أنا’؟”
قطعت دافني أفكارها فجأة ، لكن جزءًا من قلبها شعرت وكأنه تعطل فجأة وبدأ يهتز ..
عندما أرخَت قبضتها عن ذراعيها التي كانت تحتضنه ، أمسك سيلستيان خصرها بإحكام أكثر ، مما جعلها غير قادرة على الإفلات ..
توجهت الأنظار نحو جيرينيسيس التي نقرَت على كأس الشراب بملعقة صغيرة ثلاث مرات ، انحنت قليلًا بخجل وابتسمت ، وكأنها تحاول التظاهر بالهدوء تحت تلك النظرات ..
غادرت دافني وسيلستيان المسرح واندمجا وسط الحشد الذي اصطف في صفوف منظمة ..
“أصدقائي الأعزاء ، أشكركم بشدة على قدومكم إلى هنا…”
بدأت جيرينيسيس خطابها بكلمات ترحيبية مفعمة بالحيوية ، وانتقلت لتروي قصصًا مثيرة عن كيف تمكنت من الإطاحة بإخوتها الفاسدين من وراثة الدوقية ، كان أسلوبها النابض بالحياة ونبرتها الجذابة مطابقين تمامًا لانطباع دافني الأول عنها …
أبدت دافني إعجابها بها لدرجة أنها فكرت:
‘ربما تصلح لإلقاء خطبة في حفل زفافي ..’
“لقد كان وقتًا صعبًا على الجميع ، لذا دعونا نتذوق هذا الشراب النادر ، لقد قامت صديقتي العزيزة ، الآنسة دافني بوكاتور ، بتحضيره لنا.”
“…أنا؟”
همست دافني بصوت منخفض لم يسمعه أحد ، متسائلة: “متى فعلت ذلك؟”
اجتذبت كلمات جيرينيسيس جميع الأنظار نحو دافني ، حيث أمطرها أصدقاء الدوق بنظرات دافئة وصفقوا لها تقديرًا ..
أما سيلستيان ، الذي كان يلتصق بها كظلالها ، فقد بدا مرتبكًا أيضًا ، لكنه سرعان ما التقط تعبيرات وجهها المتوترة وابتسم لها بمكر ، وبدأ يصفق بهدوء …
في هذه اللحظة ، ظهرت خادمة الدوقية وهي تدفع عربة مزينة بحذر ، تحمل على متنها صينية فضية كبيرة ..
كانت دافني ، القادمة من عالم المجتمع الصارم في قصر سيكراديون الملكي ، تعلم من خبرتها أن مثل هذه الصواني نادرًا ما تحمل شيئًا جيدًا ..
وكما توقعت ، عندما رُفِع الغطاء ، كان الأمر كما خمنت:
“آه…”
“أوه ، يبدو أنكِ تذكرينه الآن ، آنسة بوكاتور!”
رغم أن دافني لم تقل سوى كلمة واحدة ، بدا أن جيرينيسيس كانت سعيدة للغاية ، وصفقت بحماسة كأنها فقمة ، ازداد وجه دافني شحوبًا على الفور ..
على الصينية كان هناك زجاجة منحوتة بشكل جميل تحتوي على سائل أحمر غامض مع خطوط بلاتينية ، بدت وكأنها تشع بريقًا مثل النجوم …
شعرت دافني بالخطر يقترب من ماضيها المحرج ، فحاولت بلا جدوى دفع سيلستيان نحو الحشد ، ومع ذلك ، لم يتحرك من مكانه ، وكأنه جبل ..
بإيماءة سلسة ، فتحت جيرينيسيس الزجاجة وسكبت مزيجًا من سائلين في كأس زجاجي …
“عندما نخلطهما ، يتحول السائل إلى هذا اللون الوردي الجميل ، ولهذا السبب… ماذا كان اسم هذا الشراب ، دافني؟”
بدأ الشراب بالاختلاط بسرعة ، مشكلاً رغوة دائرية بلون وردي جميل يزداد إشراقًا تحت الضوء ، وأثنى الضيوف على جمال الشراب واسم الكوكتيل الذي بدا جذابًا للغاية ..
لو لم تكن دافني بهذا القدر من الجرأة ، لكانت قد احمرّت وجهها بالكامل حتى قمة رأسها ، في الأوقات العادية ، كانت ستتجاهل الموقف بابتسامة مصطنعة ، لكنها الآن تواجه الدوق مباشرة ..
“إنه ‘إكسير الحب’.”
لم تتخيل دافني أبدًا أنها ستضطر إلى نطق اسم تلك الذكرى المحرجة بلسانها ..
“آه…”
نظر إليها سيلستيان بوجه بدا وكأنه أدرك شيئًا ما ، وحين التقت نظراتهما ، بدا على دافني وكأنها تتمنى أن تبتلعها الأرض على الفور ..
❖ ❖ ❖
في عيد ميلاد سيلستيان العشرين ، وبعد شهرين من ذلك التاريخ ، كان موضوع كونه الابن غير الشرعي للملك دائمًا يُلاحقه كطوق كلب يلتف حول عنقه ، كان الأمر مزعجًا ، لكنه كان أفضل حجة يمكنه التذرع بها للذهاب للقاء دافني ..
في حياته السابقة مباشرة ، لم تكن دافني موجودة ، لا بالقرب من دنفر ، ولا بالقرب من رودريغيز ، ولا في أي مكان آخر قد تكون فيه دافني التي كانت تطمح لأن تصبح ملكة ..
لذلك ، ما فعله سيلستيان أولاً بعد عودته هذه المرة كان هو ذاته ما فعله دائمًا: التوجه إلى عائلة الكونت ..
كانت ميزانية قصر الأمير غير كافية لتنظيم حفلة في سيريناد ، التي كانت إقطاعية بعيدة ، لكن ذلك لم يكن مشكلة تُذكر بالنسبة لسيلستيان ، الذي عاش عدة حيوات من قبل ..
كانت سيريناد ، المعروفة بجمالها الفني ، تضم بحيرة أولدن النقية مثل المرآة ، والعديد من الأماكن المزينة بالزجاج ، بدت أجمل قليلاً مما كانت عليه عندما رآها للمرة الأخيرة ..
كان سيلستيان يعلم يقينًا أن دافني موجودة هناك ..
تأكد من ذلك مرارًا وتكرارًا عبر مستشاره ، متحققًا من كل التفاصيل: الشعر الأحمر ، العيون اللامعة كضوء النجوم ، موقع إقامتها ، هل كانت تعيش مع كيليان ، هل قررت سيريناد أن تمنحها الإقطاعية ، وأين يقع مدرستها ..
في البداية ، رفض إيزميل ، المستشار المخلص ، تلبية طلبات الشاب الذي استعاد لقب “الأمير” ، ولكن ، لم يستطع تجاهل إصرار سيلستيان ، الذي كان يعرض كنوز الذهب والفضة بينما ترتسم على وجهه نظرة يائسة …
وهكذا ، وجد سيلستيان نفسه جالسًا أمام شخص كان يمتلك عينين رماديتين معتمتين ، أشبه بسماء ملبدة بالغيوم ..
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“إنها حفلة ، أليس كذلك؟”
“لقد سألت السؤال بشكل خاطئ ، سأعيده مجددًا: لماذا عدت إلى هنا؟”
كان المستشار القديم ينظر إلى الأمير العائد بتعبير لم يكن يحمل أي ترحيب ، كان وجهه مليئًا بالعبوس ، حتى وصل به الأمر إلى النظر إليه نظرة حادة أشبه بتهديد ..
رد سيلستيان بابتسامة صغيرة ، وأمال رأسه كما لو أن الجواب كان بديهيًا للغاية:
“لأن دافني هنا …”
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 98"