حين كانت تقول: “أحبك” ….
“لا تعيق طريقي …”
دفعت دافني يد سيليستيان عنها ، وتجاوزته بخطوة إلى الأمام ..
“دافني …”
كان سيليستيان يبدو وكأنه ينتظر ردها ، جذب يدها مرة أخرى ليجعلها تواجهه …
عندما تقابل شخصًا في مكان قليل الضوء ، لا تظهر ملامحه بوضوح ، فيبدو حتى من لا يُقصد أن يكون بارداً أكثر برودة …
المكان الذي وقف فيه سيليستيان لم تصله إضاءة المصابيح ، مما جعله يبدو كشخص محبوس في عالم من الأبيض والأسود ..
كانت عيناه الخضراوان تملؤهما مشاعر لم تستطع دافني تحديدها ، مشاعر بدت وكأنها تستغيث ، فأجبرتها على فتح شفتيها لتنطق الكلمة التي طالما كانت تلقيها بسهولة …
“أح…”
لكن شعورًا ثقيلًا غير مبرر منعها فجأة من الاسترسال ، فالتزمت الصمت …
‘ما الذي يجعل هذا الأمر صعباً؟ ..’
بالنسبة لها ، كانت كلمة “أحبك” دائمًا سهلة ، كان يمكنها أن تقولها ببساطة ، كما لو كانت تهمس لحذائها الجديد ، لكن هذه المرة ، اغلقت شفتيها كمن فقد صوته ..
“قلتِ إنكِ تحبيني ، أليس كذلك؟”
بصوت مفعم بالاستجداء ، كرر سيليستيان السؤال كأنه يطلب تأكيدًا ..
وقعت عيناها على حذائه؛ إذ كان الأوان قد فات لتجرؤ على رفع نظرها لتراه ، لم تستطع أن تدرك تعابير وجهه حينها …
“لهذا أنقذتِني ، واشتريتِني من الملك بنفسكِ ، لأنكِ تحبيني …”
“لا ، الأمر كان فقط… حينها…”
“حينها؟”
كانت مشاعرها مختلفة تمامًا آنذاك ..
في ذلك الوقت ، كانت رغبتها محصورة في كشف الجوانب الرقيقة في شخصيته الساحرة والراقية ، لتمتع نفسها فقط …
لكن الآن؟
أظن أني أحب هذا الرجل …
بدا أن كلمتها العابرة عادت لتثقل على “قلبها”، ذلك الجزء الذي لم تعرف له موقعًا في جسدها ، لكنها شعرت بوطأته الهائلة …
لماذا؟
كلما حاولت فهم السبب ، ازداد شعورها بالغثيان ، وكأن اليد الكبيرة الساخنة التي أمسكت بها ستغرس جذورها فيها ..
“أترك يدي أولاً ، إنها تؤلمني…”
عندها فقط خف ضغط يده ، فسحبت دافني يدها بسرعة وأخفتها خلف ظهرها كأنها ارتكبت خطأً ..
“لدي والدي منزلان ، يمكنك استخدام أحدهما بالكامل ، سأبقى أنا مع الفتيان …”
لم تكن تريد أن تدير ظهرها له في هذه اللحظة ، لكنها لم تجد خيارًا آخر ، لم تكن كل الطرق واحدة على أية حال …
خطت خطوة للخلف ، واتجهت في طريق آخر، مبتعدة عن المكان ..
❖ ❖ ❖
في حمام أبيض يشبه المهد ، كانت دافني مستلقية على بطنها ، تقضي الوقت في تركيب أحجية صغيرة بحجم كفي اليد …
كانت قطع الأحجية صغيرة لدرجة أنها تطلبت تركيزًا كبيرًا ، حتى إن عينيها كادتا تتعبان ..
لكنها كلما شعرت بالتعب ، غيرت وضعيتها وأكملت العمل دون أن تستسلم …
“لو لم أفعل هذا ، لاستمررت في التفكير …”
لماذا التزمت الصمت كالغبية في ذلك الموقف؟ لماذا لم تحاول أن ترى ملامحه؟
كانت دافني تفضل دائمًا اتخاذ قرارات جريئة بدلاً من الندم لاحقًا ، لكن الآن ، شعرت وكأنها عالقة بين الندم والحنين في آن واحد ، مما جعلها تشعر بثقل كبير ..
توقفت فجأة ، وأصدرت تنهيدة طويلة ..
“فكرت في الأمر مجددًا.”
جلست في وضع مستقيم ، وأسندت ظهرها على حافة حوض الاستحمام ..
تدافعت الرغوة لتغمر شفتيها ، بعدما أخطأت في تقدير كمية المنتج الذي أضافته إلى الماء ،
بدأت في تصفيف شعرها الأحمر المتناثر على الرغوة ، وجمعته في عقدة واحدة ، بينما تمتمت بتذمر ..
“ربما كان علي العمل كخادمة ، أبدو كالغبية التي لا تستطيع حتى الاستحمام بشكل لائق بدون خادمة …”
لكنها فكرت أن ولادتها كفتاة نبيلة كانت فرصة للعيش براحة ، فلمَ لا تستغل ذلك؟
ومع ذلك ، كان لديها دائمًا استعداد لتحمل مشقة العمل في الخارج ، حتى وإن لم تكن مضطرة لذلك ..
“لقد تقاسمت الأدوار بشكل جيد ، لهذا السبب نكسب المال …”
رغم هذا التفكير ، كانت تفكر أيضًا في إضافة مكافأة لناريد حينها …
سمعت صوتًا خفيفًا أشبه بمرور شيء رقيق عند باب الحمام ..
“ناريد؟”
نادت دافني اسم خادمتها بصوت عالٍ ، كان الخارج هادئًا تمامًا ، لم تكن ناريد تمزح معها بمثل هذه الحركات عديمة الفائدة ، ولو كانت هي فعلاً ، لأجابت على الفور …
“ربما سمعت خطأً.”
كانت تلامس وجنتها المتورمة قليلاً بسبب بقائها في الماء لفترة طويلة ، عندما تذكرت فجأة ما قاله كيشا بعد الظهر:
ــ ما احتمال أن يموت شخص يقفز من شلال هيربورن غرقًا أو بسبب السقوط؟
ــ لا تبقِ وحدكِ بعد منتصف الليل ، تقول الأسطورة إن الأرواح تحب المزاح في مثل هذا الوقت ..
في تلك اللحظة تحديدًا ..
شعرت دافني بقشعريرة تسري في ظهرها ، لكنها أجبرت نفسها على التظاهر بالثبات ، ثم أمسكت بالساعة اليدوية الموضوعة بجانب الأحجية وتفحصت الوقت ، لقد تجاوزت الساعة منتصف الليل …
هي لا تؤمن بوجود الأشباح ، بالطبع ، هي تعرف رجلاً يتصرف بطريقة تشبه ذلك…
“أوه ، فكرت فيه مرة أخرى ..”
ضغطت دافني على أسنانها ونهضت بسرعة من مكانها ، التقطت مسدسها الصغير من فوق الطاولة الجانبية ، ولم تنسَ أن تأخذه معها ..
بسبب بقائها طويلًا في الماء تنتظر قدوم ناريد أصبحت بشرتها ملساء لدرجة الشفافية ، وكانت تشعر بوخز في جلدها ، فركت ذراعيها عدة مرات لتدفئة نفسها …
“آه…”
شعرت وكأن عيونًا تراقبها من خلف رأسها لحظة وقوفها ، مما جعلها ترتجف ، لكن دافني حاولت إقناع نفسها بأن الأمر مجرد وهم ، ثم التقطت الروب الحريري الأبيض وارتدته بسرعة ، أخذت نفسًا عميقًا مرتين أو ثلاثًا ، ثم استدارت بحذر وهي مستعدة تمامًا ..
هناك ، في جانب الحمام ، كان هناك مرآة دائرية مزينة بالذهب ..
في داخلها ، كانت فتاة ذات شعر أحمر تنظر إليها بملامح مذعورة بينما كانت تصوب مسدسها نحوها ، لو حكمت على الأمر بموضوعية ، لبدت هذه الفتاة غبية تمامًا ..
“ماذا أفعل؟ إنه أمر مخيف.”
أخذت دافني نفسًا عميقًا ، ثم فتحت باب الحمام بعنف ، أضاء الضوء الخارج من الحمام جزءًا صغيرًا من الممر المظلم ..
لو كان الثلاثي الذي ينام متأخرًا دائمًا موجودين في أي مكان قريب ، لكانت الأضواء تتسرب من خلال الشقوق بين الأبواب ..
لكن لم يكن هناك أحد ، فكان المكان يبدو مشرقًا فقط في هذه الزاوية بينما باقي القصر غارق في ظلمة مخيفة ..
“يا إلهي ، أين ذهبوا؟! لماذا لم يأتوا؟ هذا مرعب جدًا…”
ــ لا تبقِ وحدكِ بعد منتصف الليل ، الاشباح تحب المزاح في هذا الوقت …
“كان عليَّ أن أقول له بعبارة بسيطة إنني أحبه وأتي معه …”
لصقت دافني ظهرها بالحائط ، وجهها شاحب وعيناها ممتلئتان بالدموع ..
حين تذكرت ملامح سيليستيان الباردة التي بالكاد أظهرت أي تعبيرات ، شعرت بقشعريرة تسري في أعماقها ، لكنها كانت هذه المرة مختلفة ، لم تكن بسبب الخوف ، بل بسبب شيء آخر ..
“معه… كان سيكون أفضل …”
نظرت للحظة نحو حوض الاستحمام ، وأحرقت وجهها الحرارة فجأة بسبب تخيل غريب ومحرج خطر ببالها ، هزت رأسها بقوة لطرد تلك الأفكار الغريبة ..
لم تستطع أن تفهم لماذا اختارت البقاء وحدها لتحافظ على كبريائها ، أو كيف قررت أن تدخل الحوض في قصر مهجور دون أن تفكر مرتين ..
قررت أن ترتدي شيئًا جديدًا وتستلقي في السرير على الفور ، ونسيت تمامًا أنها كانت حافية القدمين بينما كانت تتجه بخطوات سريعة نحو مكان حقائبها …
❖ ❖ ❖
“لماذا لا تعمل؟”
عبثت دافني بمفتاح الإضاءة ، تضغطه للأعلى وللأسفل بعصبية ، لكن الضوء لم يشتعل ..
تذكرت جيدًا أن الضوء كان يعمل بشكل جيد في وقت سابق ، لكن الآن المصباح كان يضيء بضوء خافت وكأنه خيط رفيع ، ثم ينطفئ تمامًا …
لم تستطع تصديق أن الثلاثي لم يعودوا حتى الآن رغم الوقت المتأخر ، كانوا يعلمون جيدًا أنها تكره البقاء وحدها أكثر من أي شيء آخر
“ربما في الجناح الآخر؟”
فكرت لوهلة ، ثم اتخذت قرارها ..
“ربما يكونون هناك ، يجب أن أذهب بسرعة ، لكن لماذا لا يعمل الضوء؟”
لم يكن من المنطقي أن تخرج إلى الخارج ، حيث الليل مظلم بلا قمر ، وهي ترتدي فقط روبًا فوق جسدها العاري ، كانت دافني ، ابنة الماركيز ، تعتز بكرامتها ومظهرها دائمًا …
تأقلمت دافني مع الظلام بشكل تدريجي ، عازمة على العثور على ملابسها ، لكنها لم تتوقف عن تحريك قدميها بقلق ، تبحث بيأس عن أي شيء يعلق بها ..
“لا شيء…”.
وكأن الأمر لا يكفي ، حتى حقيبة أمتعتها اختفت ..
ــ لا تبقِ وحدكِ بعد منتصف الليل ، تقول الأسطورة إن الاشباح تحب المزاح في هذا الوقت ..
“لماذا لم أستمع لهذا التحذير السخيف وأتجنب هذه المواقف؟”.
على الرغم من أن البشر يقولون عادةً إن البشر أكثر رعبًا من الأشباح ، كانت دافني تخاف الأشباح أكثر بكثير من البشر التافهين ..
لقد نجح ميشا في زرع الخوف داخل قلب سيدته عبر إخبارها بمعلومات لا داعي لها ، مما جعلها تفكر في خصم جزء من راتبه لهذا الشهر ، كانت تفكر في الأمر عندما سمعت مجددًا ذلك الصوت الخافت ، يشبه صوت ستارة تُسحب ، قادمًا من الخلف …
بلا وعي، أزالت دافني أمان مسدسها الصغير
“آنسة دافني؟”.
“ناريد؟”.
“نعم ، إنها أنا”.
كان صوتًا لطيفًا ومطمئنًا ، ضاقت عينا دافني الذهبيتان ، اللتان لم تتأقلم بعد مع الظلام ، بشك ..
“هل أنتِ ناريد فعلًا؟”.
“نعم ، أنا ناريد”.
“أشعلي الضوء ، أين أمتعتي؟”.
“الكهرباء مقطوعة في هذا الجناح ، أما الأمتعة فقد نقلناها إلى غرفة أخرى ، آه ، آنسة دافني ، أنتِ لم ترتدي ملابسكِ بعد ، يا للحرج…”.
سارعت دافني إلى شد رداءها الحريري بإحكام حول جسدها ..
“هل يمكنكِ الرؤية؟”.
“عينيّ حادتان ، كما تعلمين ، وكان الضوء لا يزال يعمل بالقرب من الحمام”.
“لأنني كنت هناك قبل قليل”.
“حسنًا ، عودي إلى هناك مؤقتًا ، سأجلب لكِ ملابسكِ ..”.
“ملابسي التي كنت أرتديها في الحمام لا تزال هناك ، ناريد ، ألا يمكننا الذهاب معًا؟”.
“هل تخافين؟”.
ضحكت ناريد بخفة ، مما دفع دافني إلى الاقتراب بحذر نحو الباب ، مع إبقاء مسافة بينهما …
“لا ، بالطبع لا أخاف ، فقط أحضريها لي”.
“اتركي المسدس هنا”.
قالت ناريد ذلك بنبرة هادئة ، وضعت دافني مسدسها على الأرض كما لو أنها تطيعها دون تردد ..
ثم نظرت دافني إلى نهاية الممر ، حيث كان الضوء يتسرب من أسفل باب هناك ، تذكرت حينها أنها لم تغلق باب الحمام عندما غادرته ..
لكنها أغمضت عينيها بإحكام ، محاولة تجاهل مخاوفها ، وواصلت المشي بسرعة بينما ارتسمت على وجهها ملامح القلق ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 91"