كم أحبكِ…
“دافني…!”
ظهرت إييل في ردهة لا لفندق حاملةً في يديها دفاتر حسابات ومجوهرات كانت تخفيها ، بينما أنغيل كانت تحمل شيكًا كُتب عليه مبلغ يمكن أن يساعد دافني به ..
“ما هذا بحق الجحيم؟”
رفعت إييل عينيها ، وفور أن رأت زميلتها محتضنةً رجلاً ضخمًا ، انتفضت وابتعدت بسرعة ، أما أنغيل ، فكانت تراقب المشهد ببطء ، ثم اقتربت من دافني وسألتها:
“هل هذا حبيبكِ؟ الذي كنتِ تخفينه؟ يبدو ثريًا جدًا …”
“طبعًا لا ، أنا راقصة باليه عبقرية وفقيرة.”
الخدم الذين كانوا يصعدون إلى الطابق الثاني رفعوا رؤوسهم دون قصد ، واحمرّت وجوههم قليلاً ، ثم عاد كل منهم إلى عمله ، تنهدت إييل بصوت خافت ، ثم التفتت إلى أنغيل وهمست لها:
“لم أكن أظن أن دافني يمكن أن تحب رجلًا.”
“مع رجل كهذا ، من يمكنها أن تقاوم؟”
هزّت أنغيل كتفيها ، ومزّقت الشيك إلى قطع صغيرة ثم وضعتها في جيبها ، قبل أن تنظر إلى إييل بنظرة مريبة ..
“أنا متفاجئة.”
“نعم ، لم أتخيل أن دافني قد تُظهر علاقتها العاطفية بهذا الشكل في مكان عام…”
“لا، ليس هذا ما أقصده ، أقصد أنتِ ودافني ، كنتما عدوتين ، أليس كذلك؟”
“كيف عرفتِ؟”
في سن الرابعة عشرة ، كانت دافني تكره موهبة إييل ، وكانت إييل تكره أن دافني عديمة الموهبة تحاول الوقوف بجانبها بفضل المال فقط ..
وذات يوم ، حاولتا وضع شظايا زجاج في أحذية الباليه الخاصة بالأخرى ، لكنهما أمسكتا ببعضهما بالجرم المشهود ، وتعاركتا حتى شدّت كل منهما شعر الأخرى ، مما يدل على مدى سوء العلاقة بينهما ..
“كيف أصبحتما صديقتين إذن؟”
“…بعد أن أصيبت دافني في ساقها ، اتصلت بي ، وقالت إنها ستدعمني إذا أصبحت الراقصة الأولى في الفرقة الملكية …”
أرسلت دافني إلى إييل ، التي أصبحت الراقصة الأولى ، باقة من زهور الكوبية الزرقاء ، وعشرين زوجًا من أحذية الباليه المفصّلة ، وبطاقة عليها عبارة واحدة:
“أحسدكِ لأن لديكِ من يمسك بكِ دائمًا ، تهانينا!”
كانت الراقصة الأولى في الفرقة الملكية حينها تُمنح الحق في اختيار شريكها بنفسها ، وكان معنى “من يمسك بكِ دائمًا” واضحًا تمامًا لإييل ، التي شعرت بكلماتها ..
صمتت إييل للحظة بشكل غير معتاد منها ، فتمتمت أنغيل بصوت ناعم:
“المحققون أقوياء الأيدي… سيعرف كيف يمسك بها جيدًا.”
“…هل هذه خبرتكِ كممثلة رومانسية؟”
في تلك اللحظة ، توقفت سيارة فاخرة أخرى أمام الفندق ، وكانت الأميرة سايكي ، بشعرها الأشقر المصفف ككعكة دائرية ، وقبعة فيدورا، وبدلة سماوية ..
“هذا…!”
عندما رأت الرجل الذي يحتضن دافني ، أدركت هويته وبدأت تغلي من الغضب:
“تيريوسا! لا يستطيع أن يترك دافني أبدًا…!”
“آه يا صاحبة السمو ، فلنهدأ ، هيا نذهب لتناول الحلوى ….”
“حلوى فندق دافني لذيذة جدًا، لا تفوّتيها.”
أمسكت إييل وأنغيل كل واحدة بذراع من ذراعي سايكي ، واقتادتاها إلى المقهى ، حاولت سايكي التملص ، لكنها بدت مذهولة تمامًا ، وجرّت كعبيها على الأرض وهي تُسحب …
سمعت دافني صوت الأميرة المرتفع ، فالتفتت إلى الأسفل بدهشة ..
“منذ متى أصبحوا مقربين هكذا؟”
أما سيليستيان ، فلم يهتم ، واكتفى بإمالة رأسه وكأنه لا يعلم شيئًا ، ثم قبّل خد دافني وكأنه يقول لها “ركزي عليّ فقط …”
❖ ❖ ❖
لم يستغرق تسلُّم أوراق تسوية الضرائب أسبوعًا ، كان ذلك بسبب استعجال روميو ، الذي قال إن على كل شيء أن يُحل قبل وفاة لافونسو ، حتى يتم تجنّب الحكم بالإعدام ..
بفضل ذلك ، تمكّنت من إنقاذ والدتها من الشنق في الساحة ..
وصلت دافني إلى قصر صغير في الضواحي ، منذ مدخل المنزل ، كان يمكن سماع عزف على البيانو ، وفي الطابق الثاني ، كانت والدتها تجلس أمام بيانو أسود كبير وتعزف موسيقى الجاز ، وكانت أشعة الشمس في الثالثة عصرًا تداعب وجنتيها بلطف …
“فستانكِ رائع.”
قالت والدتها وهي تمتدحها ، رفعت دافني طرف فستانها الوردي الفاتح قليلًا ، وانحنت بخفة كعلامة امتنان ..
“أمي ، بإمكانكِ أن تصبحي عازفة بيانو.”
رغم أن البيانو لم يكن مضبوط النغم تمامًا ، وكانت هناك نغمات تخرج خارجة عن السلم من حين لآخر ، إلا أنه لم يكن سيئًا ، اقتربت دافني بهدوء منه ، ونظرت إلى الداخل من الغطاء المفتوح ، الأوتار كانت تتحرك وفقًا لأنامل والدتها ..
“تعلمتِ على يد الكونت سيريناد ، هل تعزفين لي مقطوعة؟”
“كنت أستمع إلى عرّابي وهو يعزف فقط ، لم أتعلم بنفسي.”
حين كان كيليان يعزف مقطوعات الفالس وهو جالس على كرسي متحرّك ، كانت دافني ترقص بعيدًا عن مجال رؤيته ، تلك الذكرى العالقة جعلت أنفها يلسع فجأة من الشجن ، فرفعت يدها تمسح طرفه ..
“دافني ، لم يتبقَ لي في هذه الحياة سواكِ ، أنتِ الشخص الوحيد الذي بقي إلى جانبي.”
إذًا، لماذا فعلتِ بي كل ذلك؟
ابتلعت دافني كلماتها ولم تنطق بها ..
لم يتوقف عزف أمبر ، وكانت تبدو جميلة كما لو أنها منحوتة ، رغم مرور الوقت ، في حين أن دافني هي الوحيدة التي نحل جسدها وهي تجاهد في الخفاء ليلًا ونهارًا من أجل والدتها ..
“أتعلمين كم أحبكِ؟”
“أعرف ، أعرف… كيف لا أعرف؟ وأنا أيضًا أحبكِ …”
لكن أثناء قولها لتلك الكلمات ، أدركت دافني أن عبارة “أحبكِ” التي تبادلتها مع والدتها كانت خاوية من أي مضمون ، ربما لأنها ذاقت الحب الحقيقي ، بكل ثقله ، أو ربما لأن…
“لقد فعلتُ من أجلكِ كل شيء …”
بدت تلك العبارة وكأنها تعني أن العلاقة بين دافني وأمبر ليست علاقة قائمة على الحب ، بل على شيء آخر ..
“ولهذا يا ابنتي ، هل يمكنكِ أن تفعلي شيئًا من أجلي؟”
“ما هو؟”
أوقفت أمها العزف ، ورفعت سبابتها كإشارة للتريّث ، ثم ذهبت إلى المكتب ، أخرجت وثيقة مألوفة جدًا جعلت وجه دافني يتلوى من الصدمة دون أن تتمكن من إخفائها …
“أنتِ ستذهبين إلى هناك بدلًا مني …”
“…”
“لقد كتبت اسمكِ بالفعل ، فقط تحدّثي مع ابن عمكِ ليمنحنا الموافقة.”
<دافني غرين>
ذلك الإحساس المرعب من الديجا فو (تكرار التجربة) جعل ملامح دافني تتشوه ..
“يقولون إن مجرد إظهاركِ نية تحمّل مسؤولية نصيب عائلة غرين سيكون كافيًا ، نحن عائلة نبيلة وجميلة ، وسيكون ذلك شرفًا لكِ أيضًا.”
“أمي…”
“ولي العهد قالها بنفسه ، فقط عشر سنوات وستة أشهر ، وبعدها ينتهي كل شيء ، وستبقين جميلة حينها ، على عكسي أنا …”
ضحكت دافني بسخرية من هول الموقف ، لم تكن والدتها التي تعرفها شخصًا يتحدث بلطف كهذا ..
ويبدو أنها لا تعرف أصل تلك العشر سنوات التي تتحدث عنها ..
فدافني باعت سيرينادي والفندق إلى شخص مجهول باسم مستعار هو “غيلبرت آن”، وحتى بعد ذلك ، اضطرت إلى اقتراض مبلغ ضخم من سيليستيان مقابل الحصول على تخفيف للعقوبة ..
ـ… أمبر كانت قاسية جدًا مع دافني ، حتى النهاية …
قالت سايكي بحزن ، وكانت دافني قادرة الآن على تفهُّم ذلك أكثر من ذي قبل ..
فمن منظور دافني ، كل ما فعلته كان لإظهار ولائها وامتنانها لعائلة غرين ، التي وفّرت لها طوال عمرها حياة مريحة ، ولكن الآن ، أن يُطلب منها أن تذهب بدلًا من أمها إلى السجن وتقضي عشر سنوات هناك…
“عشر سنوات؟ قد تكون مدة يمكن احتمالها.”
“… أليس كذلك؟”
تغيّر بريق عيني أمبر ، وكأنها تنفّست الصعداء ، لكن دافني مزّقت الورقة التي كُتب فيها اسمها إلى نصفين ..
“لو لم تكوني قد وضعتِ الحديد في ساقي السليمة ، أو جعلتِ عيني كيشا بتلك الحالة ، ربما كنت فكرت بالأمر فعلًا …”
شعرت دافني بالغضب حين قالت ذلك ، وبدأت الرؤية أمامها تزداد ضبابية ، كان البكاء في غير وقته شيئًا مزعجًا ، لكنها لم تمسح دموعها ، بل تكلمت بوضوح ، كلمة بكلمة:
“أرسلتِ السم إلى سايكي أيضًا ، لكن يبدو أنه كان دواءً مفيدًا للحامل؟ لذا طلبت من أخي أن يخفف الحكم من عشرين سنة ، أليس تصرفًا جيدًا مني؟”
اختفت التعابير من وجه والدتها ، ثم أمسكت بسكين يشبه الشفرة ، قطعت به نهاية سيجار ، وأشعلته ببطء ورفعته إلى فمها …
“لو أنكِ تزوجتِ من روميو كما طلبت ، لكان كل شيء على ما يرام ، أو على الأقل ، لو لم يحصل ما حصل مع أمير آجينتار…”.
أخذت أمبر تتمتم بكلمات طويلة ، قالت إنها كانت تعرف أن ماريوس قد تخلّى عنها ، لكنها لم تكن تتوقع منه الخيانة حتى النهاية ، ولم تكن تتخيل أن ابنتها الوحيدة ستقع في حب خائن ، كان يجب قتل سايكي منذ البداية ..
‘وكأن سايكي ستوافق على الموت بكل سهولة…’
خفضت دافني رأسها وتنهّدت بعمق ، إذ لم تعد تتحمّل سماع المزيد من التذمر ..
“هل أنتِ من أشعلتِ النار في المنزل؟”
“لم أكن أعلم أنكِ كنتِ فيه.”
“هاه، لا أصدقكِ.”
الآن ، باتت دافني تعرف طريقة والدتها ، لو أنها اختفت مع ذلك المنزل ، لأصبحت “الأم البائسة التي تخلّى عنها زوجها وفقدت ابنتها” وجذبت التعاطف من الناس ، وربما كانت قد ألقت بكل جرائمها على دافني أيضًا …
كانت تشعر بأن المحادثة مع والدتها تسحبها تدريجيًا إلى القاع ، وبما أن الشفرة لا تزال في يد أمبر ، خمنت أنها قد تحاول جرح وجهها ، أو حتى قتلها ..
“ومع ذلك…”
معرفة دافني العميقة بأمها لم تكن سوى دليل على أنها تُشبهها كثيرًا ، وهذا ما جعلها تشعر بالقرف من نفسها ..
“سأفكر بالأمر قليلًا.”
“هم؟”
“لطالما شعرت بالذنب تجاه الكلمات الجارحة التي قلتها لكِ ، ربما أستطيع التودد لروميو ليخفف الحكم أكثر ، أو حتى أذهب بنفسي ، عشر سنوات ليست نهاية العالم، أليس كذلك؟”
كانت كذبة خالصة ، محض وسيلة للبقاء ، لكنها أثّرت في أمبر ، فقد وضعت السكين جانبًا ..
“سأذهب الآن ، لا تنسي تناول دواءكِ.”
بدأت دافني تتراجع إلى الوراء بهدوء ، مبتعدة عن والدتها ، ثم وقفت تتأمل وجه أمبر الغارق في التفكير ، شعرت أنها لن ترى هذه المرأة الشريرة مجددًا بعد الآن …
بعد أن أغلقت الباب خلفها ، استدارت وأمسكت بمقبض الباب تتنفس بعمق ..
ما زالت دموعها تتساقط بغزارة ، لكنها لم تمسحها ، وكأنها قررت أن تُفرغ كل مشاعرها تجاه تلك المرأة في هذه الدموع وتتركها خلف هذا الباب ..
“دافني …”
عندما أدارت رأسها ، وجدت سيليستيان ينتظرها عند أسفل الدرج ، سعلت دافني عمدًا لتبتلع شهقاتها ، ثم نزلت إليه مباشرة — إلى الرجل الذي ينتظرها دائمًا ويحبها دون شروط …
ولم تُخفِ وجهها الباكي …
ترجمة ، فتافيت ..
التعليقات لهذا الفصل " 127"