تحتاجين إلى خدمة ..
من هذا المكان المرتفع ، بدا كل شيء واضحًا ،
كان المشهد مختلفًا تمامًا عن جهة البوابة الأمامية حيث لا يُرى إلا الأفق …
بدت الجهة اليمنى وكأنها مقسّمة لمنازل صغيرة مكوّنة من طابقين أو ثلاثة ، يتصاعد منها الدخان بخفة ..
أما الجهة اليسرى ، فكانت تضم مباني حجرية متراصّة بدت كأنها مبانٍ حكومية أو مكتبات ..
أمسكت دافني بإطار النافذة بلا وعي ، وانحنت قليلًا لتتأمل المشهد ..
تناثر شعرها الأحمر مع النسيم البارد ..
وعلى عكس البارحة حيث لم ترَ أحدًا ، فقد كانت ترى اليوم الناس يتحركون بنشاط هنا وهناك …
“ما هذا؟”
استدارت بسرعة وتوجهت إلى القاعة الرئيسية ..
كانت المفروشات والزينة التي لم تكن موجودة بالأمس تملأ المكان الآن: لوحات بورتريه ، جداريات تاريخية لفرسان على ظهور الخيل ،
كأنها وُضعت بفواصل منتظمة ..
نظرت أسفل قدميها إلى خريطة كبيرة مرسومة على الأرض ..
كانت مدينة “تيريوسا” متمركزة عند موضع وقوفها …
ولكن… ألم يكن القصر فارغًا تمامًا حتى البارحة؟
هل غبت عن الوعي لأيام؟
عدّت بسرعة الأشخاص الذين صادفتهم ، وكانوا عشرين شخصًا ، من ضمنهم الخادمة التي صافحتها منذ قليل ..
كانت لا تزال مذهولة من هذا التغير الجذري الذي حصل خلال بضع ساعات فقط ، حين اقتربت منها الخادمة التي ساعدتها في الحمّام صباحًا ..
“آنستي ، هل انتِ تائهة؟”
“لا، ليس تمامًا…”
“سأرافقكِ إلى مكتب صاحب السمو الدوق!”
❖ ❖ ❖
وقفت دافني عند مدخل المكتب المفتوح على مصراعيه ، مزمومة الشفتين ومترددة ..
لم تستطع رؤية سيليستيان من مكانها.
“لن تدخلي؟”
“نعم… سأدخل.”
كان المكتب واسعًا ، جدرانه مغطاة بورق أبيض مزخرف بخيوط ذهبية ، وفي إحدى الزوايا ، كما في أي مكتب ، كانت هناك مكتبة مليئة بالكتب ..
في الجهة المقابلة ، نافذة ضخمة تطل على البحر ، وستائر شفافة من الشيفون ترفرف مع الهواء بلطف ..
“مرحبًا.”
كان سيليستيان هو من بادر بالتحية ..
نظرت دافني إلى حيث صدر الصوت ، فوجدته لا ينظر إليها حتى ، فقط حيّاها بصوت هادئ ،
كان يرتدي بدلة بسيطة وينظر إلى ورقة تعرفها دافني جيدًا ..
أوه ، إنها الرسالة ..
خلفه كانت هناك أشياء مألوفة تشبه مقتنياتها في غرفتها—لا شك أن روميو أرسلها ..
وضعت دافني أصابعها على صدغها ، متذكرة كيشا ، الذي تظاهر بعدم المعرفة ..
لقد ربّيت خائنًا بيدي ..
قررت أن تتصرف ببرود وأن تتمالك نفسها ،
وحين اقتربت منه بخطى ثابتة ، رفع سيليستيان عينيه الخضراوين نحوها كما لو كان متوقعًا مجيئها ..
“وجدت الشيء الوحيد السيء فيكِ …”
“هاه؟”
“خط يدكِ …”
قالها ضاحكًا بمكر وهو يميل بالرسالة قليلًا نحوها ..
ورغم أنها لم تطلع عليها سوى للحظة ، فقد شعرت بالخجل من كمية الكلمات المكتوبة فيها بشكل مزدحم ، فسعلت بخفة لإخفاء ارتباكها ..
لكن المشكلة الحقيقية لم تكن الخطّ ..
بل كانت محتوى تلك الرسائل ..
المشكلة الأكبر أن سيليستيان قرأ تلك الرسائل التي كتبتها له دافني في “أيام صباها”.
رفعت يدها إلى جبهتها محاولة تذكّر ما كتبته، لكن كل ما خطر في بالها بدا محرجًا وغير منطقي ..
مدّ سيليستيان ذراعه ، مشيرًا لها بأن تقترب ،
ضاقت دافني عينيها واقتربت منه كما لو كانت مُرغَمة ..
شدّها من خصرها وأجلسها بين ساقيه ..
شعره الذهبي الذي اشتكت منه سابقًا بدا الآن أقصر ، يكشف أذنيه—يبدو أنه استجاب لطلبها ..
لمست وجنته بنعومة ، فمال برأسه نحو يدها بلطف ..
كادت تنفجر بالبكاء مجددًا ، لكنها تماسكت بصعوبة ..
“أخبريني الآن. .”
“أقول ماذا؟”
“أنتِ هنا لأنكِ تحتاجين إلى خدمة ، أليس كذلك؟”
لكن هذا السؤال جرح كبرياء دافني ..
كان ينظر إليها من الأسفل بعينين بريئتين ، وسؤاله بدا صادقًا خاليًا من النوايا ..
لو كانت هذه الهدايا قد أُرسلت من روميو ، فلا بد أنه أبلغه عن ظروفها أيضًا ..
ولو تكلمت الآن ، فستدين له بجميل كبير ..
كيف أطلب؟ وبأي وجه؟ ولماذا أطلب من هذا الرجل بالذات؟ فقط لأننا نحب بعضنا؟
والدتي…
كانت المرأة التي قادت قتل والدة هذا الرجل صاحب العينين الخضراوين الجميلتين …
لم تستطع أن تطلب مساعدته بينما تحمل تلك الحقيقة في قلبها ..
الموقف كله بدا سخيفًا ومخزيًا ..
لم تكن تريد قول ما في قلبها ، ولم تكن تريد عونه أصلًا ..
“خدمة؟ أي خدمة؟”
فتحت عينيها بدهشة مصطنعة وأمالت رأسها وكأنها لا تفهم ، فانقبض ما بين حاجبيه قليلًا.
“أردت فقط أن أراك ، سأرحل قريبًا.”
“…سترحلين؟”
“إذا لم تكن مشغولًا جدًا ، هل تذهب معي في نزهة قصيرة؟”
مسحت برفق ما بين حاجبيه ..
ورغم أنها لم تكن بارعة في الكذب ، إلا أنها كانت محترفة في إخفاء مشاعرها ..
❖ ❖ ❖
تشاجرت دافني مجددًا مع سيليستيان ..
أو بالأحرى ، لم يكن هناك شجار حقيقي—فهو بالكاد يتكلم أصلًا ، وكان الصمت سيد الموقف،
بدأت تشعر أن محاولة تهدئته رغم أنها لم تخطئ بشيء، أمر غريب فعلًا ..
لذا أزالت كل التعبيرات عن وجهها ..
ولم يكن ذلك غريبًا ، فقد كان الألم في أسفل بطنها لا يُحتمل ، خاصة بعد ما فعله معها في الليلة الماضية ..
عندما سألته عن موعد مغادرة السفينة ، تغيّر وجهه فورًا ..
كان تعبيره حزينًا… حزينًا لدرجة أنه بدا على وشك البكاء ..
― لا تذهبي ..
― سأعود خلال أسبوع ، أعدك ، حقًا ..
حاولت تهدئته بينما كان يتمسّك بأطراف ثوبها وكأنه على وشك تمزيقه ..
أصرّ على مرافقتها حتى السفينة ، لكن المستشار الصارم “ماريل” منعه من الصعود ..
أنا غبية فعلًا ..
تنهدت دافني بعمق بعد مغادرة السفينة للميناء ..
رغم أنها ندمت كثيرًا على قسوتها معه الليلة الماضية ، ها هي تكرر نفس الخطأ ..
رغم ذلك ، وعدته بأنها ستعود ، وهذا على الأقل أمر جيد ..
لكن كانت لا تزال لديها أشياء لتُنهيها في “سيكراديون”.
وكان لديها ثقة عجيبة—بلا مبرر—بأنها قادرة على إنهائها وحدها، من دون مساعدته ..
وهكذا ، عادت إلى “سيكراديون” مجددًا ،
خلال نصف يوم فقط ..
ذهبت ناريد إلى الفندق بعدما قالت إن ميشا يناديها ..
أما دافني ، فقد وصلت إلى غرفتها بمفردها ، واخذت قيلولة طويلة ..
كان الجو في الخارج قد أصبح معتمًا ،
وكانت سايكي ، التي لم تعرف متى وصلت ، تجلس على الأرض تخيط بالإبرة وتصارع التطريز كعادتها ..
“سايكي…”
تلاقت أعينهما ببطء ، فابتسمت سايكي لها ببشاشة ..
شعرت دافني كما لو أن ضوءًا ساطعًا انفجر أمام عينيها ، فتأوهت ووضعت يدها أمام وجهها محاولة حجب النور ..
“دافني ، لنبت الليلة في القصر الملكي أو الفندق ، أرجوكِ.”
“لماذا؟”
“الغرفة تبدو فارغة جدًا… وأشعر وكأن رائحة غريبة تنبعث منها أيضًا…”
رفعت دافني الجزء العلوي من جسدها وشمّت الهواء ..
كما قالت سايكي ، كانت هناك رائحة غريبة بالفعل—رائحة معدنية، أو… شيء من هذا القبيل ..
لكن دافني تجاهلت الأمر بتعلّة “الغرفة كانت مهجورة لعدة أيام، لا أكثر” ..
رمشت سايكي بعينيها ببطء ، ثم أومأت بالموافقة ..
“هل اخترتِ اسمًا؟”
“اسم لهذا التطريز؟”
“لا، اسم طفلكِ …”
“…الأول سيكون… بيج ، على الأرجح.”
انخفضت عينا سايكي الزرقاوان نحو الأرض للحظة ، وكانت تمسح بيدها على بطنها أكثر من مرة، وكأنها غير راضية بذلك الاسم ..
استدارت دافني على جنبها وكأنها تفهم شعورها تمامًا ..
“هل ستسمينه باسم حقيقي؟ الملكية ستنتهي قريبًا على أي حال …”
“هل يمكنني اختيار الاسم بنفسي؟”
“ولِمَ تسألينني؟ أنتِ أمه ، وليس أنا.”
“ثم ، لو كانت فتاة… داڤ… لا، ذلك سيكون غريبًا ، لا يخطر ببالي أي اسم ، لذلك… أتمنى لو تسميها أنتِ ، دافني.”
شعرت سايكي بنظرات دافني الحادة ، فعدّلت كلامها بسرعة ..
كانت دافني تسند خدها بيدها وتحاول تحريك ساقيها المتصلبتين بتحريك أطراف قدميها ..
“سواء كان ولدًا أو بنتًا ، لو كانت عيناه زرقاوين ، فليكن اسمه ‘يوري’ …”
“يوري…”
رغم أنها قالت الاسم بلا اهتمام ، بدا أن الكلمة لامست قلب سايكي مباشرة ..
ثم احمرّت وجنتاها وهي تذكر كيف وصف روميو عينيها كأنهما زجاج يوري عندما كانا يتواعدان—معلومة غير مفيدة بالمرة ، لكنها شاركتها على أية حال ..
“وقال إن دموعي تشبه خرز اليوري حين تنزل …”
“وكيف عرفتِ أنني كنت سأقول ذلك؟”
“ماذا؟! كيف علمتِ؟”
“يا إلهي ، أنا غاضبة… كفى ، أرجوكِ.”
اتسعت عينا سايكي بدهشة حقيقية ،
أما دافني ، فقد اندفعت بالضحك وسقطت تتقلب على السرير وهي تضحك بحرارة ..
“وإن كانت عيناه ذهبية…”
كانت سايكي تنتظر اسمًا جديدًا من دافني ، تنظر إليها بعينين مترقبتين ..
لكن ذلك النظر المتحمس أشعل في دافني رغبة طفولية في السخرية ،
فذكرت اسمًا عشوائيًا لرجل خطر ببالها:
“ما رأيكِ بـ‘سيليستيان’؟ كي يكبر بطريقة ‘جميلة’، مثل اسمه.”
“اخرجي من هنا.”
“أوه ، عزيزتي ، هذه غرفتي ، تذكّري.”
❖ ❖ ❖
“…فني… دافني.”
كان هناك رائحة دخان خانقة ..
وكان جسدها يهتز بلا توقف ..
فتحت عينيها فرأت سايكي تحدّق بها بقلق ، تهز كتفها بقوة لإيقاظها ..
“ما هذه الرائحة؟ هل هناك شيء يحترق…؟”
لكن سايكي لم تملك وقتًا للشرح ،
أمسكت بيد دافني وسحبتها بسرعة
نحو نهر أنغيل ..
كانت دافني شبه غائبة عن الوعي ،
لكنها استعادت تركيزها عندما سقطت هي وسايكي في المياه الباردة الصافية ..
دوّي!
لفحها لهيب حارق من الأمام ..
كانت غرفة دافني مشتعلة بالكامل ..
ترجمة ، فتافيت ..
التعليقات لهذا الفصل " 125"