كانت الغرفة التي أرشدهم إليها كيشا واسعة جدًا وذات سقف عالٍ جدًا ، كانت النوافذ كبيرة بشكل مبالغ فيه ، مما جعل الغرفة أكثر برودة ، دافني تمتمت وهي تلصق جانبها بدفء ظهر ناريد:
“ناريد ، الجو بارد .”
“لو أن الآنسة تتوقف عن التحرك كثيرًا ، فلن تشعري بالبرد بهذا الشكل…”
تبادلا الكلمات القليلة بتلك الطريقة ، وفجأة ، دوّى صوت ريح عاتية عبر النوافذ ، ثم تلاشى في البعيد ، شعرت دافني وكأن حرارة الغرفة انخفضت درجة واحدة دفعة واحدة ، فعضّت شفتيها بصمت ..
‘كيف يمكنه ألا ينظر إلي ولو مرة واحدة بعد مجيئي؟ …’
شدّت على أسنانها بغيظ ، قبل قليل ، وبينما كانت تتبع كيشا إلى الغرفة ، جمعت شجاعتها وسألته عن مكان وجود سيليستيان ..
― الدوق الكبير؟ نعم ، هو في القصر الآن ..
― وأين هو تحديدًا؟
― كما تعلمين ، هو شخص يتحرك بهدوء ، لذلك لا نعرف مكانه بالضبط ..
― آه…
― لماذا، هل ترغبين في رؤيته؟
قال كيشا ذلك بابتسامة خبيثة ، لكنه هرب فور أن رأى نظرات دافني الباردة ..
سيليستيان موجود في مكان ما داخل هذا القصر الواسع ، لا شك أنه يعلم بوصول دافني ، ومع ذلك ، لم يظهر حتى خصلة واحدة من شعره الذهبي ، وهذا ما كان يثير جنونها ..
‘صحيح أنني أخبرته أن يبتعد… لكن ، هل فعلاً ابتعد؟ ..’
دافني ، التي لم تكن تعلم أن سيليستيان لم ينم جيدًا منذ شهر ، عضّت على أسنانها من جديد ، فجأة رمت الغطاء جانبًا ونهضت من السرير ، أخذ ناريد نفسًا حادًا ، ثم أطلقت صوت أنين خافت ..
“آسفة.”
أسرعت دافني بتغطية ناريد حتى رقبتها ، وما إن وقفت باستقامة حتى ضربها هواء بارد على ذراعيها ، فأصابتها قشعريرة ، كانت ساقاها تحت الفستان القطني الرفيع قد تجمدتا من البرد ، وأرادت أن تعود لتلصق ظهرها بدفء ناريد ، لكنها فضّلت في هذه اللحظة أن تشبع فضولها أولًا ..
“ناريد ، سأطلب من كيشا أن يجلب شيئًا دافئًا.”
“هل أذهب أنا…؟”
“لا، لا بد أن هناك غرفة لا يُسمح بالدخول إليها في هذا المكان ، أريد أن أستكشف.”
نظرت إليها ناريد بعينين مرهقتين ، ثم اختبأت مجددًا تحت الغطاء ، كان وجهها يعبّر عن قناعة تامة بأنها لن تستمع لكلامها مهما حاولت ..
❖ ❖ ❖
كانت دافني تتجه بصمت نحو البرج الغربي ، وهو المكان الذي قال كيشا إنه “لابد من زيارته”. كانت تحمل مصباحًا صغيرًا بحجم كف اليد ، لا يضيء سوى ما يقع أمامها مباشرة ، مما جعل الظلام يخيّم على كل ما حولها ..
سيليستيان كان معروفًا بأنه لا يُظهر أي صوت عند تحركه ، ولهذا كانت دافني تنظر خلفها كل عشرين خطوة تقريبًا ، على أمل أن تراه ..
لكن لم يكن هناك أحد ، لا الشخص الذي كانت تأمل برؤيته ، ولا غيره ..
“اغههه …”
لم تستطع دافني أن تتخلص من شعورها بالغباء لمجرد أنها كانت تأمل ، ولو قليلاً ، ولهذا ، عندما ظهرت أمامها درجات برج الغرب ، عقدت العزم على ألّا تلتفت خلفها أبدًا.
كان السجاد الأخضر الداكن مفروشًا بعناية على الأرض ، وعلى الرغم من أنها كانت حافية القدمين ، لم يكن خشنًا أبدًا ، بل كان ناعمًا وجافًا لدرجة أنها رغبت في فرك قدميها به لمجرد الإحساس به ، لم يكن هناك أي خادم يمرّ من هنا ، ومع ذلك ، بدا المكان نظيفًا بشكل يثير القشعريرة ..
“كيشا لا يحتمل الأماكن الخالية من الناس أكثر مني …”
كيشا سيرينادي ، بابتسامته اللطيفة ، كان يحب أن يُحب ، وكان يعرف كيف يرد المحبة أيضًا ، كانت دافني تشعر بالرضا كلما نظرت إليه ، وتفكر في نفسها بفخر أنها أحسنت تربيته ..
“رغم أنه يغيّر النساء كل أسبوع…”
لكن قلعة تيريوسا كانت خالية بشكل يبعث على الوحشة ، كيف تمكّن كيشا من احتمال العيش في مكان كهذا؟
“لا يمكن اخترع حبيبة شبح مثلًا.”
كانت تفكر في هذا النوع من الأفكار الغريبة عندما وصلت إلى باب أرجواني ضخم ، يكاد يضاعف طولها ، نزل مقبض الباب بسهولة ، فدخلت دافني الغرفة بسرعة ومن دون أن تتردد أو تنظر حولها ..
وما رأته أمامها وهي في قمة توترها كان…
“لا أرى شيئًا على الإطلاق …”
كان الظلام دامسًا ، تحسست دافني الجدار بجانب الباب بحثًا عن مفتاح ضوء ، لكنها لم تجد شيئًا ، وبما أنها لم تكن تحمل سوى مصباح كيروسين صغير ، فلم تستطع رؤية كل شيء بوضوح ..
“إنها مجرد غرفة تبديل ملابس…”
رغم أنها مشت عشرين خطوة على الأقل ، لم ترَ سوى الفساتين مصطفة على الجانبين ..
رفعت رأسها نحو السقف لترى كم هو عالٍ ، فرأت انعكاسها في زجاج مظلم بعيد ، لا بد أن ارتفاع السقف يتجاوز الثلاثة أمتار ، وعلى جانبي الغرفة ، كانت هناك علاقات ممتدة من الأرض حتى السقف ، مليئة بفساتين الحفلات المزخرفة ، ومجموعات أزياء منسقة ، كلها نسائية …
تذكرت ما قاله سيليستيان ذات مرة في هيربون ، بينما كان يمزق أحد الفساتين:
― “هناك الكثير من هذه.”
“هذا ليس مجرد كثير ، هذا جنون.”
ضحكت من قلبها ، غرفة ملابسها الخاصة كانت بحجم غرفتين ، ولم تكن صغيرة ، لكن أن تكون غرفة الملابس بهذا الحجم الضخم؟ بدا غير ضروري أبدًا ..
خاصة أنها لا ترتدي نفس الثوب أكثر من ثلاث مرات ..
حكّت خدها بتوتر ، ثم تقدمت قليلاً إلى الداخل ، وفجأة ، شعرت بشيء يعيق قدمها ، فنظرت سريعًا إلى أسفل ..
تحت قدميها كانت كومة من الثياب مرمية بشكل يشبه العش ، جلست على ركبتيها والتقطت فستانًا بدا مألوفًا جدًا ، كان مصنوعًا من الشيفون الرقيق ، لا يناسب أبدًا طقس “جزيرة الشتاء”
“هممم؟”
نظرت إلى الملصق ، وذهلت لدرجة أنها فقدت القدرة على الكلام للحظة ، كان هذا الفستان الصيفي الذي تبرعت به العام الماضي لإحدى المؤسسات الخيرية ، رفعت قطعة أخرى ، فبدت مألوفة كذلك ، ولم يستغرق الأمر كثيرًا لتدرك أن كل هذه الملابس ، كانت من الأشياء التي أرسلتها خلال السنوات الماضية …
“هذا يفسر…”
في إحدى المرات ، كانت قد تلقت رسالة شكر من دار أيتام يخبرونها أن الفتيات كنّ في غاية السعادة بتلقي “ملابس جديدة ومصممة خصيصًا”. حينها، اعتقدت أنهم قاموا بتفصيلها من الصفر ، فلم تهتم بالتأكد ..
تحسست دافني براحتي يديها الجزء المنخفض في منتصف كومة الملابس ، بدا وكأن أحدهم كان نائمًا هناك ، لكن يبدو أنه قد غادر منذ وقت طويل ، إذ لم يتبقَّ أي أثر للدفء ..
لا تعرف كم من الوقت ظلت تحدق هناك ..
وتحت ضوء المصباح الخافت الذي كان يتمايل ببطء دون ريح ، خطرت في ذهنها صورة خيالية لسيليستيان نائمًا ، يحتضن أحد الفساتين ، فاختفت تلك الصورة سريعًا ، لكن وجه دافني احمرّ على الفور ، كادت تضحك ، فضغطت كفّها على فمها لتمنع الصوت من الخروج ..
رغم وقاحتها ، شعرت بسعادة دافئة ..
كل هذه الملابس كانت تعني شيئًا واحدًا: أن سيليستيان كان يتتبعها بصمت ، منذ وقت طويل ، حتى من قبل أن تراقبه هي خلسة ، ربما حتى أطراف الفساتين التي لامست جسدها مرورًا ، كانت بالنسبة له موطنًا ، وملجأ ..
بمجرد أن خطرت لها هذه الفكرة ، جلست دافني على الأرض ، وضعت ذقنها على ركبتيها المرفوعتين ، وأسندت المصباح بجانبها بلامبالاة ..
“هل يصيبه ضرر إن تكلم قليلاً؟ أو كتب رسالة على الأقل؟”
آه ، تلك الرسائل اللعينة…
لم تكن تجهل السبب الذي جعل سيليستيان يتردد في الاقتراب منها ، بعد سقوطها من الشلال وشعورها بلحظة “الموت”، بدأت ذكريات حياتها السابقة تعود تدريجيًا ، وكأن شخصًا فاقدًا للذاكرة استعادها فجأة …
كان سيليستيان نبيلًا ، يملك كل شيء ، ويستطيع الحصول على أي شيء يريده ، واهتمامه بها في البداية لم يكن سوى رغبة في امتلاك جوهرة ثمينة ..
لكن عندما رفضته ، لم يستسلم ، بل تبعها أكثر ، وأصرّ على الفوز بها ، ومن جهتها ، اختبرت حبه ، لترى إلى أي مدى يمكن أن يذهب ، وبعد أن انقلبت الموازين ، فعل الأمير كل ما في وسعه لينال رضاها ..
ما يحب وما يكره ، وما يجب قوله وما لا يجب ..
“حتى الآن…”
هذا المكان ، كان حصن سيليستيان السري الذي لا يعرفه أحد ، لو لم تأتِ دافني إلى هنا ، لربما كانت ستظل تشك في نواياه للأبد ..
لكن ما كان يفعله هنا ، حتى في الخفاء ، لا يمكن أن يكون تصرف شخص لا يسعى إلا للموت ، بل يعني أنه ، منذ وقت لا يُذكر ، كان يفتقدها بشدة ، حد الامتلاء والفيض ..
“لماذا لم يضع صورة لي ، أو حتى لوحة؟”
رفعت المصباح مجددًا ، وحدقت في السقف ، نحو المرآة السوداء ، في تلك اللحظة ، التقت عيناها الذهبيتان بنظيرتهما المنعكستين ، كأنهما تنظران لبعضهما للحظة ، شعرت بالضيق من “الفتاة السيئة” التي في المرآة ، فرفعت إصبعها الأوسط لها ، ثم أنزلت نظرها إلى كاحليها ..
وفجأة ، خطرت لها فكرة: لعلّ هذا القصر بأكمله يحتوي على أي شيء مزيّف يشبهها ، ربما يجدر بها أن تنظر من النافذة لترى إن كان هناك جزء لم تزره بعد ..
نهضت دفعة واحدة ، وتقدّمت نحو المكان البارد ، سحبت الستارة بسرعة ، متوقعة أن ترى الخارج…
“أوه؟”
اتسعت عينا دافني بدهشة ، ولهيب المصباح ازداد فجأة ضعف ما كان عليه ، قبل أن يعود ويخبو مجددًا ..
التعليقات لهذا الفصل " 122"