هدفي كان الرسالة فقط …
كان القصر معتماً وكأن النوافذ أغلقت بالكامل ،
قصر بحجم جبل صغير مقلوب ، بدا أن ارتفاع القاعة الرئيسية في هذا المكان يفوق مثيله في قصر فلاديال مرتين على الأقل ، لكن النوافذ كانت مفتوحة فقط من الجهة التي دخلت منها دافني ، بينما الجانب الآخر كان مغطى بستائر سميكة أو بأبواب خشبية ..
“ربما بسبب التدفئة؟”
رغم ذلك ، كان الهواء بارداً بشكل مزعج ..
رفعت دافني نظرها إلى الثريا الضخمة المعلقة في الأعلى ، وشعرت بقشعريرة جعلتها تفرك ذراعيها ..
منذ دخولها من بوابة القصر وحتى وصولها إلى هنا ، لم ترَ خادماً واحداً ..
“سآخذ الرسالة وأغادر ، حقاً …”
لكن ناريد بدت وكأنها وقعت في حب المكان ، تطوف في القاعة متجاهلة دافني الواقفة عند الباب ، وماريل يرافقها بهدوء كمُرشد ، يشرح لها عن الرسوم في السقف ، وعن الأحجار الكريمة التي صنعت منها الثريا ، وغير ذلك ..
“سيدي كبير الخدم ، هل تحتاج إلى خادمة ذات خبرة؟ حتى في غرفة الغسيل؟ أنا أفكر بتغيير عملي قريباً.”
“خائنة!”
ضحكت دافني ساخرة ونظرت إلى ناريد باستهجان ، لكنها اقتربت منها فقط لتربط شريط المعطف من جديد بابتسامة مرحة ..
في تلك اللحظة ، نزل شخص من أعلى الدرج ، يغطي رأسه بقبعة عباءة حتى ما تحت أنفه ،
بما أن ماريل انحنى له تحية ، فلا بد أنه أحد العاملين في القصر ..
“آنسة آل بوكاتور ، تفضلي من هذا الاتجاه ، سأرشدكِ.”
قال الرجل الطويل ذو اللحية السوداء المائلة بنبرة صوت منخفضة جداً ..
ضاقت دافني عينيها قليلاً، ثم تبعته دون مقاومة ..
❖ ❖ ❖
قبل أن تختفي من الخرائط ، كانت دوقية تيريوسا الكبرى بمثابة دولة مكتملة الأركان في ما يخص “التاريخ”.
بالنسبة لدافني كأجنبية ، لم تكن تعرف التفاصيل ..
“ولا لوحة واحدة.”
حتى لو لم تكن لوحات تاريخية ، كان ينبغي أن توجد صور للأشخاص الذين أسسوا أو نهضوا بهذه البلاد—ليشعر الزائر أن المكان كان يوماً ما مأهولاً بالبشر ..
كان الممر طويلاً ومظلماً، ما أضفى عليه شعوراً بالكآبة ..
“أين رأيت هذا من قبل؟”
حدقت دافني بتركيز في ظهر الرجل الذي يسير أمامها ..
لكنها بالكاد كانت تهتم بظهور الرجال لهذا الحد—خمسة فقط في العالم حظوا بذلك—ومن بينهم ، كيشا سيرينادي، من المستبعد جداً أن يكون هنا الآن ..
فبحسب جدوله العشوائي ، في هذا الوقت من المفترض أنه…
لكن ، ماذا لو أن الفتى قد نما قليلاً أو اتسعت كتفاه خلال الفترة القصيرة التي لم تره فيها؟
“إذا صعدتِ هذا الدرج ، ستجدين باباً أرجوانياً في برج الغرب ، أنصحكِ بشدة بزيارته.”
“ألا توجد أماكن ممنوع دخولها؟”
“لا ، يمكنكِ فتح جميع الأبواب ، آه ، ما عدا النوافذ الخلفية.”
عادة ما تحتوي القصور كهذه على غرف “ممنوع الدخول”—مثل غرفة دوق يملك جزيرة يسكنها الأشباح ، مثلاً …
“ألا يوجد شيء كهذا هنا؟”
نظرت دافني إلى الأرض بخيبة أمل غريبة ،
لقد أمضت ساعات تتبع ذلك الظهر المألوف ، لكن لم يكن هناك أي أثر لحياة داخل الأبواب التي فتحوها ..
أفق نظيف لا يرى فيه غبار ، وقصر ضخم يقف وحيداً فوق أرض شاسعة ..
شعرت بغصة في حلقها ، ولم تعرف إن كانت هذه خيبة أمل ممن أو من ماذا ..
“كيشا.”
“نعم؟”
“…”
“هاه؟”
ردّ الرجل بصوت مرتفع مستغرب ..
لم تجب دافني ، فسادت لحظة من الصمت ، ثم التصق الرجل بالحائط فوراً …
“…لقد فوجئتُ فقط لأنكِ عرفتِ عنوان هذه اللوحة…”
“استدر ، قبل أن أخلع حذائي.”
أي أنها ستضربه بحذائها إن لم يفعل ..
ظل كيشا متذمراً قليلاً ، ثم استدار ونزع غطاء العباءة عن رأسه ..
لم يعد هناك شعر أسود يغطي عنقه ، بل كان شعره أحمر ومقصوصاً بشكل قصير ..
تحدّق دافني بعينين مبهوتتين—في ثلاثة أشهر فقط ، بدا وكأن كيشا قد نما كثيراً ، وكأنه شخص آخر تماماً ..
ما زال يبدو أقصر قليلاً من سيليستيان ، لكنه أصبح وسيماً جداً على أي حال ..
“آنسة… لقد مر وقت طويل…”
“…هل تلك الشوارب حقيقية؟”
سارع كيشا إلى نزع الشارب المزيف فوراً ،
تقدّمت دافني خطوة إلى الأمام بارتياح داخلي ، تتحسس فوق عينه المغطاة ..
احمرّ وجه كيشا من نظرتها المليئة بالعاطفة ، تلك النظرة التي لم يرَها منها من قبل ..
حتى في الإضاءة الخافتة ، كانت عيناها الذهبيتان تلمعان بوضوح ..
“هل غادرت بسببي؟”
“هيه ، في الحقيقة ، كان السبب هو السيدة غرين ، ليس أنتِ.”
“…”
“السيدة غرين عرفت أنني من ريفيان ، خفت تبلغ عني واتورط ، فهربت …”
قالها كيشا بنبرة مازحة ، لكن وجهه لم يكن كذلك ..
“كنت أعلم أننا سنلتقي مجدداً ، ولهذا كان عليّ أن أكون بخير وآمن ، وكذلك أنتِ ، ثم ، حصلت على لقب فارس فور وصولي هنا! الآن عندما أخرج ، ينادونني جميعاً: السير كيشا!”
“ومن في الخارج؟ الأشباح؟ هم اللي ينادونك هكذا؟”
قالت دافني بجدية وهي تعقد حاجبيها، فكاد كيشا أن ينفجر ضاحكاً …
قبل ساعة من وصول دافني ، كان قد أزال جميع اللوحات والإضاءة من القصر ، وأرسل كل الخدم إلى القرية ، وأغلق جميع النوافذ التي تطل على ذلك الجانب ، بينما فتح النوافذ التي تطل على البحر ليدخل البرد …
أراد أن تشعر دافني بالشفقة على المكان ، ومن ثم تبقى فيه …
“انحنِ.”
شعر كيشا أن اللحظة قد حانت ، فمسح عنقه وانحنى مغلقاً عينيه بقوة ..
كان يتوقع لمسة باردة مازحة على خده أو عنقه ، لكن ما حدث فاق توقعاته ..
ذراعها النحيفة والدافئة ، التي تدفأت من صوف المعطف ، طوقت عنقه بقوة ..
نظر كيشا إلى أسفل وهو يتردد إن كان يجب أن يعانقها بالمثل ..
تحت شعرها الأحمر ، رأى خصرها النحيل ، وكأنه صُنع ليُحتضن ..
لو كانت أي فتاة أخرى ممن عرفهن ، لكان قد احتضنها فوراً ..
‘افهم حدودك ومقامك…’
لكنه كان يعرف دافني منذ أن بدأ يكوّن هويته ، وكان دائماً يطمح ليكون شخصاً رائعاً مثلها …
‘لا تطمع فيما لا تقدر على امتلاكه ..’
أدار عينه الوحيدة ليتأكد من عدم وجود أحد ، ثم وضع يديه خلف ظهره واكتفى بأن يلمس وجنتها الدافئة بأذنه للحظة …
❖ ❖ ❖
أخذ كيشا دافني إلى وسط القصر حيث توجد نافذة دائرية ..
وبما أنه لا أحد في القصر ، عرض عليها كل شيء باستثناء الجناح الذي يُفترض أن يكون فيه الدوق ..
بدا أن قواها قد نفدت ، ووجهها شحب من التعب ..
ليالي تيريوسا كانت دائمًا مليئة بالنجوم ،
وحين تغرب الشمس ، يصبح من المستحيل تمييز البحر من السماء ..
“إذا كنتِ تودين رؤية شيء آخر ، فقط اخبريني …”
قال كيشا بصوته البهيج ، وفتحت دافني شفتيها قليلاً ..
كان يشعر بالإثارة ، فقد حان وقت أن يُريها ما أعدّه خصيصاً لها …
كان قد حرّك الدوق النائم منذ الصباح ، وزيّنه جيداً ، ولفّه وكأنه هدية …
ولو طلبت ، لأخذها إليه فوراً ..
“هل يوجد مكان تحفظون فيه الرسائل؟”
“رسائل؟”
لكنها خالفت توقعاته مجدداً ، واتسعت عيناه دهشة ..
سؤال بدا مألوفاً جداً… فتذكر أن الدوق قال شيئاً مشابهاً عندما كان في غرفة دافني لأول مرة ..
‘ما الذي دار بينهما في تلك الرسائل حتى يجعلان الأمور معقدة هكذا؟ …’
تساءل كيشا في نفسه ..
“أعني ، إذا كان أحدهم يرسل هدايا أو أشياء أخرى…”
“أحياناً ، لكن مؤخراً لم يصل شيء.”
قال ذلك بوجه لا يدل على شيء ، وكأنه لا يعلم فعلاً، رغم أنه كان يكذب ..
أخرجت دافني شفتها السفلية قليلاً وتنهدت ، ثم نظرت مجدداً من النافذة ..
كانت عيناها الذهبيتان تلمعان منذ قليل ، لكنها بدأت الآن تخفت شيئاً فشيئاً نحو الأسفل ..
وكيشا كان يعرف تماماً ما تعنيه تلك النظرة.
استسلام سريع ..
“حسناً ، ثم سأغادر …”
“هاه؟”
“هدفي كان الرسالة فقط ، لا اعتقد ان هناك شيء يستحق …”
بدأ العرق البارد يتصبب من كيشا ..
فقط قبل عدة أشهر ، كانت دافني من النوع اللي لا يهدأ حتى تزين أي مكان فارغ وكأنه فقد صاحبه ..
كانت تنفق المال بلا تردد لتحويل الأماكن إلى مقاهٍ أو معارض أو مسارح ، وتحولت تلك الأماكن إلى وجهات محبوبة من سكان العاصمة ..
“لماذا؟ آنسة ، أنتِ كنتِ تفرحين بهالنوع من الأماكن! حتى إنكِ… اشتريت أماكن كثيرة من قبل!”
“آه ، كيشا ، انت لا تعرف … عائلتنا أفلست ، سأصبح متسولة قريباً ، ولن استطيع الاستثمار في أي مكان …”
“…”
“كما سمعتك تقول أنه لا توجد سوى سفينة واحدة سوف تبحر في اليوم ، وأنا في وضع صعب ، متى سيكون لدي وقت أرتب رحلات بحرية أو أفتح طرق جديدة؟ ، وكذلك ، حتى لو قمت بذلك ، العائد لا يغطي التكاليف ، والمكان كأنه ممتلئ بالاشباح …”
بدأت دافني تحسب الأمور بواقعية شديدة ،
كيشا أدرك الآن أن كل ما فعله من إغلاق وفتح للنوافذ ، وإزالة الزينة بمساعدة الخادمات ، وانشغاله بتحضير المكان لاستقبالها… كل ذلك ذهب هباءً ..
“أين سأنام اليوم؟”
قالتها دافني وهي ترمش بسرعة وكأن التعب بدأ يغلبها ..
ترجمة ، فتافيت ..
التعليقات لهذا الفصل " 121"