قلعة ابتلعها الغيم
كانت غرفة الاستقبال في جناح دافني خالية لدرجة أن صوت المطر كان يبدو أعلى ..
كانت تحدق في مذكرة وصلت للتو عبر البرقية ، مكتوبة بخط يد روميو الأنيق ..
ظنت أنه سيعطيها عنوانًا بأنه يختبئ في منزل أنيق في ملكية لا يعرفها أحد ، ولو كتب لها عنوان فندق مجهول في الميناء الأول ، لما شعرت بهذا القدر من الفراغ ..
تنهدت دافني بعمق ، ونظرت إلى ناريد وكيشا الجالسين بجانبها، واحد تلو الأخرى ..
“هذا اللعين يعبث ، أليس كذلك؟”
“أمم ، يعني…”
فكر ميشا وناريد فيما إذا كان من اللائق شتم ولي العهد ، ثم التزما الصمت وأومأو برأسهما. سقطت دافني على الأريكة وهي تمسك بمؤخرة عنقها ..
العنوان الذي وعد روميو بإرساله وصل بعد عدة أيام ..
قد يكون مشغولًا ، لكنها لم تستبعد أنه تعمد التأخير ليصل ردها قبل رسالته ..
عادت دافني تحدق في المذكرة من جديد ..
<تيريوسا>.
“هاهاها ، فعلاً…”
ضحكت مجددًا بسخرية ..
مؤخرًا ، استخدمت دافني أصدقاءها في العالم السفلي بإذن شقيقها ، لكن حتى أولئك لم يعثروا على أي أثر للرجل ..
وهذا يعني أن حتى روميو ، مهما كان ، لا يمكن أن يعرف ..
أصبح القصر الملكي يشعر وكأنه ينتظر العاصفة ، ربما لأنهم عرفوا الآن ما يخطط له روميو ..
أو ربما لأن الأشياء التي كانت تُملأ الغرف بها اختفت فجأة ..
دافني عانت من الأرق في الأيام الأخيرة ، بالكاد تنام ساعتين في الليلة ..
“سيدتي ، ما المكتوب في الرسالة ليجعلكِ
بهذا الشكل؟”
“لا تسألني ، ميشا ، سيكون ذلك مؤلمًا لك.”
وبّخته ناريد برفق ، أومأت دافني برأسها كما لو أنها توافقها ..
ظلّ ميشا ، البرئ ، يرمش بعينيه ثم عاد إلى الأوراق الذي كان يمسك بها ..
زفرت دافني بعمق ، تدعو أن تكون الرسالة ضاعت في البريد فقط ، عندما…
فجأة!
ضرب البرق بعنف ، وانقطعت الكهرباء ، ثم تبعه دوي رعد مزق السماء ..
“سيدتي ، هناك شخص كان يقف…”
ومع ومضة برق جديدة ، ظهر ظل أمام غرفة الاستقبال ..
تجمد الثلاثة في أماكنهم من شدة الخوف ، غير قادرين حتى على الصراخ ..
لكن ما لبث أن اقترب الشخص ، واتضح أن عينيه خضراوان…
“سيدتي ، القارب جاهز ، دعينا نغادر …”
“…ماريل؟”
كان كبير خدم قصر بوكاتور …
❖ ❖ ❖
كيشا تمكن بالكاد من الهروب من قبضة سيليستيان ..
ثم شكر السيدة التي يجب أن تكون في سيكراديون ..
فالدوق امتنع عن الطعام وأصبح ضعيفًا بسبب دافني ..
منذ وصوله ، لم يأكل شيئًا ..
فقد طاقته بسهولة ، وتمت السيطرة عليه ،
عنقه كان لا يزال يؤلمه من قبضته ..
لو كان بقوته المعتادة ، لربما كُسرت عظام رقبته ..
“رجاءً ، تناول شيئًا.”
“… “
منذ عودته في منتصف الليل ، حبس نفسه في غرفة نومه ..
كيشا ، الأقرب إليه ، كان يراقبه عن كثب ،
لكن في الحقيقة ، لم يره يأكل شيئًا طوال شهر كامل ..
لذلك ، كانت تتساءل كيف لا يزال على قيد الحياة ..
“على الأقل ، احلق ذقنك …”
في الأسبوع الماضي ، عندما أعطوه سكينًا ء قطع معصمه به فورًا ..
ورغم أن الدم تدفق بغزارة ، إلا أن ذراعه كانت قد التأمت بالكامل بالفعل ..
“هل يُفترض أن أقول إن تعافيه استثنائي؟”
وبنتيجة لذلك ، لم يتبقَ من “الأمير الجميل” الذي كانت دافني دوماً تمدحه ، شيء يُذكر
خداه الغائرتان ، والهالات الداكنة تحت عينيه ، والعينان الخضراوان المشبعتان بالغضب ، جعلت مظهره يوحي بالقشعريرة أكثر من أي وقت مضى …
ومع ذلك ، كان هزاله يضفي عليه نوعًا من الجاذبية غير الضرورية ..
تيريوسا ، التي غاب عنها “الأمير الأبله” لأكثر من عام ، كانت تسير بشكل مفاجئ على نحو جيد ..
والفضل في ذلك يعود إلى كفاءة سيلستيان في توزيع المهام وتنفيذها ..
رئيس الوزراء عبّر عن فرحٍ عظيم بعودة الدوق ، وحاول منحه إجازة فورًا ، لكنه قوبل بالرفض …
“…أحمق تافه.”
“ماذا؟”
“فقط… شعرت أن آنسة دافني ربما كانت لتقول ذلك …”
قال كيشا بسرعة وهو يلمس صدغيه بأصابعه مبرّر كلامه ..
تشنج الدوق عند سماع اسم دافني ، ثم تنهد بعمق وهو يعبث بشعره بغضب ..
“قال رئيس الوزراء إنه سيهرب الليلة ، لذا سأقوم بختم الأوراق الجديدة بنفسي …”
“أحضرها ..”
“لكن رجاءً ، كل شيئًا أولاً.”
“قلت أحضرها.”
ربما لأنه ما زال مصدومًا من أن كيشا استطاع السيطرة عليه ، أو ربما لأنه بلغ حده فعلاً ، فقد مسح وجهه بيديه الجافتين ..
وحين حاول النهوض مترنحًا ، سارع كيشا ليغطي عنقه بكلتا يديه ، وتراجع إلى الخلف نحو الباب ..
عنقه ملكٌ لدافني ، ويجب أن يحميه مهما كلّف الأمر ..
❖ ❖ ❖
ما إن دخل كيشا مكتب الدوق ، حتى اتسعت عيناه بدهشة من كم صناديق الهدايا المنتشرة فيه ..
“ما كل هذا؟”
“هدايا من السيدة إيشوين.”
أجاب كبير الخدم ببساطة ..
أومأ كيشا برأسه ..
إيشوين كانت الشخص الوحيد في سيكراديون القادر على إرسال برقيات ورسائل إلى هذا المكان ..
فتح صندوقًا أزرقًا غامقًا ، مسطحًا وطويلاً ، وأمال رأسه بدهشة ..
“هذا يخص دافني …”
إطارات الصور التي كانت تحبها ، مسدسات ، وحتى إطار صغير الحجم يحتوي على لوحة لوجهها العابس عندما كانت طفلة ..
وفي صندوق آخر ، وُجدت فساتين لا يمكن أن تكون لغير دافني ..
بدأ كيشا يتساءل من تكون هذه “إيشوين” التي أرسلت كل هذه الأغراض التي كان يجب أن تكون في غرفة دافني ..
ثم فتح صندوقًا آخر ..
كم هائل من الرسائل ، وحتى تاج مرصع بألماس الذهب برز فجأة من تحتها ..
أخرج رسالة من بينها ، كانت أوراقها توحي بشيء مظلم ..
خط اليد كان فوضويًا ومليئًا بالعجلة ..
<أريد أن أتزوج الأمير ،
وليس روميو!>
<أنا دافني ، ابنة ماركيز بوكاتور،
لا علاقة لي بعائلة رودريغيز!>
التاريخ يعود إلى قبل أربع سنوات ،
ويبدو أنها كانت موضة تلك الفترة ، لأن الرسالة تضمنت صورة مقطوعة صغيرة لها ..
أما الرسالة التالية فكانت مكتوبة على ورقة من نُزل ساتيرن ميريال ..
<لقد قررت.>
<سآتي إليك.>
كانت الأجواء مختلفة تمامًا عن الرسالة السابقة الطفولية ..
لكن بالنسبة لكيشا ، كانت هذه الرسائل مفرحة.
لديه مناعة ضد أغلب رسائل الحب ، فتابع قراءة الرسائل بلا اهتمام…
حتى صرخ فجأة:
“يا إلهي! ما هذا؟”
ارتبك بشدة ، ورمى الرسالة وأغلق الصندوق بسرعة ..
فقط كلمات ، لكنها كانت تفوح منها رائحة خمر قوية ..
وضع الرسالة الأولى فقط على مكتب الدوق ،
أما البقية ، فمن الأفضل إخفاؤها حفاظًا على السمعة الاجتماعية لدافني ..
أعاد الصندوق تحت الأريكة بخفة ،
ثم نظر إلى إطار صورة دافني بوجهها العابس ، متذكرًا ملامح الدوق المنهكة ..
“أعتقد أن دافني ستأتي قريبًا ، هل الدوق لا يعلم بذلك؟”
“آنسة دافني؟ لم يخبرنا أحد أن ضيفًا سيأتي.”
“آه ، هكذا إذًا.”
“بالمناسبة، مساعد الدوق سيعود قريبًا أيضًا.”
“هل تعرف اسم المساعد الشخصي؟”
“كان الدوق يناديه أحيانًا بـ‘ماريل’… لكن لا أعرف اسمه الكامل بالضبط…”
إنه كبير الخدم ..
أغمض كيشا عينه للحظة ثم تذكر ذلك الرجل الذي لم يعد بجماله السابق ، وإن كان لا يزال مقبول الشكل على نحو مزعج ..
شعر بقشعريرة باردة في صدره ..
“ماذا لو رُفض مجددًا؟ ما الذي سيحدث لجلالته؟”
تخيل الدوق وقد رُفض مرة أخرى من قِبل دافني ، ليرمي بنفسه من قمة القلعة ..
ثم تخيل سيناريو آخر جعله يضم ذراعيه إلى صدره بحذر—فهو واثق أنه ، في النهاية ، سيستيقظ كما لو لم يحدث شيء ، ويتجه ببطء نحو غرفة نومه من جديد …
“هل سيصدق إن قلت له إن دافني قادمة؟”
لو لم يضربه وهو يقول له ذلك ، فسيكون الحظ حليفه ..
نظر كيشا إلى كبير الخدم بوجه جاد مليء بالإصرار:
“هل هناك مكان يمكنني الحصول فيه على منوّم قوي كفاية ليخدر حتى الوحوش؟”
“ربما في المطبخ…”
“شكرًا ، أنا في عجلة!”
كان لا بد من تخديره بالقوة ، غسله ، وتزيينه كما يليق ..
خرج كيشا مسرعاً من المكتب ، متجاهلاً ما تبقى من كلام الخادم ، متوجهة إلى المطبخ بعزم ..
وأثناء ذلك ، لم يستطع كبت ضحكته ، فقد بدأ يتساءل هل هو فارس الدوق أم خادم غرفة نومه؟
❖ ❖ ❖
القارب الذي جهّزه ماريل في الميناء الأول لم يكن صغيرًا على الإطلاق ..
لكن مجرد فكرة قضاء أكثر من ست ساعات في البحر جعلت قلب دافني يبرد ..
خطر ببالها حينها تلك المرة المشؤومة التي كادت تتحول فيها إلى طعام للتماسيح ..
ولأنها رفضت الذهاب بإصرار ، ناريد قدّمت لها قطعة شوكولاتة بهدوء ..
و…
“من كان ليظن أنها كانت مغطاة بمنوّم؟!”
رأسها يدور والضربات على جبينها لا تتوقف ..
ربما شعرت ناريد بالذنب لخداع الآنسة ، فوضعت على كتفيها رداءً من الصوف وابتسمت بخجل ..
“لا أريد أن أرتديه.”
“تيريوسا جزيرة شتوية… الجو هناك بارد…”
وبالفعل ، ما إن نزلوا من العربة ، ظهرت لهم مياه البحر ، ومعها جاءت رياح باردة كالسكين
شدّت دافني الرداء أكثر حول جسدها ،
لاحظت حينها أن ماريل قد ارتدى معطفه بالكامل أيضًا ..
“ماريل كان جاسوسًا؟ كنت أظنه قريبًا من والدتي …”
“لا صحة لذلك …”
يعني أنه لم يكن مقربًا منها ..
ماريل كان يخدم أمبر في كل شيء كلما كانت في القصر ..
يتبعها كظلّها ، ولم يُظهر أي اهتمام بدافني ابنتها ..
‘هل كان يحميني بطريقته الخاصة؟’
نظر ماريل إليها بعينيه الخضراوين الداكنتين للحظة ، ثم طرق على جانب العربة إشارة للانطلاق ..
بدأت دافني بتمديد عنقها المتصلب ، ثم استدارت أخيرًا لترى المشهد خلفها
ما إن اختفت العربة وظهر المنظر الواسع ، حتى اتسعت عيناها بذهول ..
ونفس ردّة الفعل صدرت من ناريد أيضًا ..
“مستحيل… هذا مذهل!”
الدهشة لم تكن بحاجة لكلمات ..
كانت السماء تشتعل بالألوان مع غروب الشمس ، والسحب تدرّجت بين الأحمر والأزرق ، وأخرى تلوّنت بخليط مذهل من كلا اللونين ..
وكان هناك—قلعة شاهقة ، مهيبة …
“مرحبًا بكِ في تيريوسا ، آنستي.”
وضعت دافني يدها على فمها لا إراديًا أمام هذا المشهد الساحر الذي رأته لأول مرة ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 120"