مثل فتيل مشتعل بالأحمر ..
استقبل روميو الفجر وهو جالس على الأريكة الصغيرة المتصلة بمكتبه ..
بينما كان يتلقى المساعدة من الوصيفات في ارتداء ملابسه ، أطلعه سكرتيره على جدول أعماله لهذا اليوم:
الاستعداد ، زيارة صباحية للملك المريض الراقد في الفراش ، إفطار مع الحمقى كالمعتاد ، ثم التوقيع على شؤون الدولة ومعالجتها ، وبعد العشاء المتأخر…
“الآنسة دافني بوكاتور ، ابنة الماركيز ، موجودة في جناح الحريم المغلق …”
“…ماذا؟”
توقف روميو فجأة عن تثبيت أزرار كم قميصه وسأل بدهشة ..
كان الأمر صادمًا: اسم لم يكن من المفترض أن يخرج من فم السكرتير ، في مكان لا يتناسب إطلاقًا معها ، للحظة ، ظن أن أذنه المتعبة قد أساءت السمع ..
“قيل إنها حاولت إيذاء سمو ولية العهد ، وهناك شظايا من فنجان ألقت به ، مغروسة في يد سموها …”
“ديدي فعلت ذلك؟”
ولي العهد المعروف بحبه الجنوني لزوجته ، يسأل أولاً عن صدق الحادثة لا عن حال زوجته ..
استغرب السكرتير الأمر ، لكنه هزّ رأسه بصمت، واستمر في إلقاء تقريره اليومي بصوته الرتيب كالمعتاد ..
أما روميو ، فقد جلس بعمق في الأريكة ، تقاطع ساقيه واحتسى رشفة من قهوته ، غير منتبه تمامًا لما يقوله السكرتير ..
ابنة عمته تحاول إيذاء زوجته؟
دافني بوكاتور ، التي ترتعد لمجرد سماع كلمة “جريمة قتل أفراد العائلة الملكية”، تحاول قتل سايكي؟
أمر لا يدخل العقل ، حتى مجرد التفكير فيه بدا سخيفًا ..
“مستحيل …”
“عفواً؟”
“لا، تابع.”
❖ ❖ ❖
أول مرة يرى فيها أحد أقربائه من ناحية والدته ، كان روميو في الثانية عشرة من عمره ، كانت هناك خطبة مرتبة مسبقًا مع عائلة “غرين”، منذ ولادة ابنتهم ، ولأن الملكية اعتقدت أن النمو معًا قد يُفسد مشاركتهما في شؤون الحكم ، تم فصلهما لفترة ..
تلك الفتاة ، دافني ، كانت آنذاك حقًا لا تُطاق ،
حتى الزوجين المكلفين بتعليمها آداب السلوك واللياقة الجسدية كانوا يصفونها بـ”المشاكسة المجنونة” و”الوحش الصغير”.
ولم يكن هناك مكان يفرض الانضباط مثل القصر الملكي ، لذا كانت دافني ، ولسنوات ، تذهب مباشرة إلى القصر بعد المدرسة لتجلس بجانب روميو ..
كلما كبرت ، ازدادت عنادًا وثقة بالنفس ، حتى أنها لم تكن تهتم إن كان الشخص أمامها بالغًا ،
كانت تبكي أو تصرخ إذا لم يعجبها شيء ، وتُشير بإصبعها وتحتقر وتتجاهل ، حتى لو كان ذلك الشخص هو الأمير الوحيد للمملكة ، روميو رودريغيز ..
“أنت أمير ، لكن شعرك ليس أشقر ..”
“……”
“وفوق ذلك ، شخصيتك مقرفة فعلًا ، كيف تكون هكذا؟ أنا أعرف السبب ، لأنك لست أميرًا حقيقيًا ، أين أميري الأشقر اللامع؟ كيف أُخطب لهذا الشخص الباهت؟ هل أخبرك بطريقة تصبغ بها شعرك بالذهبي؟”
“آه… رجاءً ، اخرسي ..”
“سيدة لينتي! الأمير الوحيد لمملكة سيكراديون استخدم الآن لغة سوقية
وهابطة! ألا يستحق العقاب؟”
روميو ، الذي وُلد كوريث شرعي من الملكة ، لم يرَ قط فتيات نبلاء سوى وهنّ يحنيْن رؤوسهنّ أمامه ويُبدين الطاعة ، لذا فإن فتاة مثل دافني لم تكن لتبدو له كأنثى أبدًا ..
ومع ذلك ، كان لا بأس بوجودها إلى جانبه يوميًا ..
فدافني ، على الرغم من شبهها الكبير بوالدتها الضعيفة ، كانت قوية ..
رغم أن رغبتها في التدريب الجسدي بجانب الأمير بدت تعسفية ، فإنها لم تكن تتراجع عن أي قرار اتخذته ، وكانت تفي بوعودها بأي ثمن ، لم تقدم أعذارًا أو تتذمر أمام الآخرين ..
حتى حين كانت تُضرب بسيف خشبي ، كانت تنهض والكدمات تغطي جسدها ، تصرّ على الفوز ولو بالصراخ ..
ومع ذلك…
“…ديدي ، هل جننتِ؟”
تجمدت دافني وهي تمسك بشفرة صغيرة بحجم الإصبع ، كان من الواضح أنها خالفت القواعد بإحضار شيء حاد …
لكن روميو انفجر ضاحكًا ، ليس سخرية بل دهشة من أن فتاة أقصر بثلاث رؤوس منه باغتته بهذا الشكل ..
“كنت سأقوم بترتيب حاجبيك فقط… هل أنت بخير؟ أوه لا …”
ربما لأنها فوجئت بكمية الدم التي خرجت ، أسرعت بوضع منديل على جرحه ، رغم أنها لم تستطع إخفاء ابتسامتها المرتجفة …
“لماذا هناك كل هذا الدم؟ ألم يقولوا إن الأمير روميو لا دم له ولا دموع؟”
وقد جرحت حافة حاجبه مباشرة ، فمن الطبيعي أن ينزف كثيرًا ..
روميو الصغير كاد ينفجر غضبًا ، لكنه تمالك نفسه ..
كانت يدها في وقف النزيف خشنة جدًا لدرجة أنها زادت الوضع سوءًا ، فتنهد وأخذ المنديل ليقوم بالأمر بنفسه ..
“لا تقولي لأحد أنكِ تسببتِ في جرح على وجهي …”
“ولم لا؟ لقد فزت.”
“لنقل نعم… لأنني أمير. ..”
“أنت لست أميرًا.”
قالت دافني بوجه جاد ..
وبينما كان روميو يرفع يده ليضربها ضربة خفيفة على جبهتها ويشرح لها جريمة الاعتداء على العائلة الملكية ، صرخت إحدى الوصيفات التي كانت تراقب الموقف بقلق:
“صاحب السمو!”
وفي لحظة ، أُمسكت دافني من ذراعيها وسُحبت ..
كانت كالأميرة الصغيرة المذهولة ، عيناها الذهبية ترفرف بلا إدراك لما يحدث حولها ..
❖ ❖ ❖
بعد أن سُحبت من قبل الوصيفات ، أرسلت دافني رسالة مكتوبة بخط مائل تقول فيها إنها “عادت للمنزل”.
لذا ظن روميو أنها فعلًا غادرت ، لكن تلك الفتاة المشاكسة لم تُرَ منذ عشرة أيام ..
وبالنهاية ، مدفوعًا بقلقه على أخته ، ذهب روميو ليسأل عنها في جناح الملكة ..
حديقة المتاهية التي اكتملت مؤخرًا كانت تعجّ بالناس ..
عندما رأى الثريا تتدلى في المركز ، فهم ما يجري ..
للأسبوع السابع على التوالي ، حفلة ملكية تُقام بكل فخر أمام جناح والدته ..
الضحك الصاخب المتساقط تحت الأضواء الفاخرة جعله يمرر يده بجانب أذنه ، وكأن الضجيج يلوث سمعه ..
حينها ، سمع صوتًا يناديه من بعيد:
“أوه، أخي! أخي!”
“دافني؟”
“لا، صاحب السمو الأمير…”
خرجت دفنة من بين شجيرات المتاهة فجأة ، وشعرها أشعث بالكامل ، كانت فوضوية ومليئة بالأوساخ حول فمها ، وكأنه من غير الواضح ما إذا كانت قد أكلت شيئًا أم تقيأت
ركضت نحو روميو ، وعلى وجهها تعبير يائس لم يره منها من قبل ، ففتح ذراعيه واحتضن شقيقته المرتجفة ..
رأى تنورتها غير المرتبة ، وحذاء الباليه الذي لم تربط شريطه حتى ..
كان قد سمع كثيرًا عن أن فتيات النبلاء عادة ما يكنّ مشغولات بحصص الباليه كنوع من التهذيب واللياقة ، ولكن في هذا الوقت من اليوم ، داخل القصر الملكي؟
“جلالتك ، لقد أخطأت… أرجوك سامحني …”
“ماذا؟ تحدثي بهدوء يا دافني …”
“أني حاولت إيذاء الأمير… من أنا حتى أفعل ذلك…”
لأول مرة ، يرى روميو أخته غارقة في العرق البارد ..
وبطريقة غريبة ومربكة ، بدأ يربت على ظهرها ، لكنها التوت متألمة وبدأت تبكي
بشدة ..
“يؤلمني كثيرًا ، أخي ، يؤلمني …”
فرفع يده بسرعة ، فقد آلمها بمجرد لمسة ، رغم أنه لم يستخدم أي قوة ..
“دافني ، أين أنتِ؟”
“تعالي وأكملي الرقصة التي كنتِ تؤدينها~”
“ويجب أن تنهي وجبتكِ أيضًا ، أليس كذلك؟ لقد مضى عشرة أيام لم تأكلي فيها! لدينا هنا لحم بقري تحبينه.”
“اوهف…”
جاءت أصوات نساء من العائلة المالكة من خلف الجدار ، بنبرة مشؤومة ..
وفور سماع كلمة “لحم بقري”، بدأت دافني بالتقيؤ ، تسعل وتحاول التماسك ، ثم فجأة تقيأت كل ما في معدتها ..
قطع من اللحم الأحمر ، غير المطهو تمامًا ، سقطت على أرضية الحديقة ..
“آه ، دافني ، تبصقين ما كنت تأكلينه؟ التقطيها وأعيدي أكلها، هيا.”
عندها ، خرج أحد أفراد العائلة المالكة ، “يوليوس”، وكان واضحًا عليه تأثير الكحول ، فابتسم باستهزاء عندما رأى روميو ..
“أوه ، أليس هذا سمو الأمير؟”
“ما الذي تفعله هنا؟”
“كنت أؤدب الفتاة التي حاولت قتل الأمير ، صحيح أن المحاولة فشلت ، لكن من يدري ما الذي كان ليحدث لو تأخرت الخادمات؟ أمر مروع حقًا.”
“لكن لم يحدث شيء.”
“ومن يدري؟ أتحامي عنها لأنها خطيبتك؟ حتى السيدة أمبر غرين وافقت على هذا التأديب …”
دافني ، التي كانت تحتضن خصر روميو بشدة ، كانت ترتجف كأوراق الشجر ..
أحاطها روميو أكثر بذراعه ، ونظر إلى الرجل الذي أمامه بنظرة مشتعلة بالغضب ….
“لقد عاملناها كأميرة ، لكنها نسيت مكانتها ، فقط أردنا أن نُذكرها ، سمعت أن سموك لم يُصدر أي عقوبة بحقها ، وهذا غير مناسب ، فالحيوانات لا تفهم إلا بالضرب ، يجب أن نعلّمها الأدب منذ الصغر …”
لم يرد روميو بشيء ..
خيم الصمت على المكان ، ولم يُسمع سوى صوت أسنان دافني وهي تصطك ببعضها من شدة الذعر ..
بسبب جرح صغير للغاية في وجه أحد أفراد العائلة الملكية ، حُبست شقيقته الصغيرة وعوملت كحيوان جامح لا يطيع الأوامر طوال عشرة أيام ..
كل هذا ، بينما روميو نفسه لم ينبس ببنت شفة ..
وكأن ضبابًا دهنياً بدأ يغطي نظره ، إذ تصاعد شعور بالغثيان والاشمئزاز في صدره ..
“يوليوس ، يبدو أن هناك رائحة كريهة هنا.”
“أعتقد أنها رائحة ما تقيأته تلك الحيوانة ، هاها.”
“لا أظن أنني كنت أقصد ذلك بالضبط…”
قال روميو بضيق وهو يفرك حاجبيه ، فتراجع الرجل النبيل المرتبك خطوة إلى الوراء ، متوترًا من نبرة الأمير ..
لم يكن روميو يرغب في سماع المزيد من أعذار “يوليوس” وهو يذكر أن عائلة غرين هي من وفّرت المكان لهذا “التأديب”.
وفي تلك اللحظة ، لمح “روز” تقف وحدها في الطابق الثاني من جناح الملكة ، تلوّح له من النافذة ، ورأى أيضًا دافني ، لا تزال ترتجف بجانبه ..
عندها ، رفع روميو ذراعه إلى الوراء ، وأمسك بذراع شقيقته الرفيعة وسحبها إليه ..
“آه!”
صرخت دافني بصوت حاد ومرتجف ، تنظر إليه بعينيها الذهبيتين وقد فقدتا التركيز ..
روميو كان يعرف جيدًا مدى إصرار الكبار في العائلة الملكية ، ولم يكن يجهل أن الطريقة الوحيدة لإجبارهم على التراجع هي بأن يُنزل بنفسه عقوبة أقسى من تلك التي أنزلوها ..
“ألَا تبدو خصلات شعر أختي وكأنها فتيل قنبلة؟”
كان الدم يغلي في عروقه ، وكأنه على وشك الانفجار ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 111"