كان ذلك اليوم الذي غادر فيه كيشا رسميًا قصر بوكاتور ، بعد أن أمضت وقتها باللعب مع شخص من ذلك النوع ..
لقد سدد دينه الكبير لدافني بجدية وأمانة ..
وعندما تردد في إخبارها بأنه سيرحل ، قالت دافني بالطبع “لا يمكنك ذلك”، ولكن…
لأنه أصبح بالغ ، ولأنه من خلفية مرتبطة بإدارة الجرائم ، فقد قرر أنه من الأفضل أن يغادر غرفة الآنسة ويبحث عن شيء يستحق القيام به في أنحاء القارة ، حتى إنه سلم دافني خطة حياة مكتوبة بخطٍ أعوج ، ولهذا ، لم تستطع دافني إلا أن تسمح له بالرحيل ..
“ومن سيحميني الآن؟”
“ذلك الشخص الذي يحدق بي بنظرة حادة.”
أشار كيشا إلى سيليستيان ، الذي كان متكئًا على السيارة بانحناء طفيف ، فضربته دافني بكوعها على خصره كأنها تطلب منه تخفيف تعبيره ..
“هل أستطيع أن أعانقك مرة أخيرة؟”
“…اللكمات من سموكِ مؤلمة جدًا.”
رفض بكل احترام ..
تساءلت دافني للحظة ، هل هذا ما تشعر به الأم عند إرسال ابنها إلى الجيش؟
كانت ناريد بجانبها تذرف دموعًا بصمت ، بتعبير لا يوصف ، أما ميشا فقد تهرب من وداعه بالذهاب إلى العمل ..
“لماذا لا تخلع تلك الضمادة عن عينيك؟”
“آه ، في طريقي سأمر بالمستشفى ، وعلى فكرة ، أشعر بالخجل لأنني سأستقلّ بنفسي قبلكِ ، آنسة.”
حاول كيشا تخفيف الأجواء بخفة …
نظرت دافني ناحية غرفتها ، حيث كان دائمًا هناك مكان يعود إليه المرء ، ثم التفتت مرة أخرى إلى فارسها ، لم تدرك كم كبر كيشا ..
“…إذا احتجت مالًا ، اتصل بي ، كن حذر من الناس ، وعندما تصل ، أرسل رسالة فورًا.”
“نعم ، سأرسل رسالة عندما أصل …”
كانت دافني ترغب بالبكاء ، لكنها لم تستطع.
❖ ❖ ❖
الآن ، كانت دافني تجلس في وسط حديقة قصر فلاديال ، بدعوة شبه قسرية من سايكي ….
بعد تجاوز موسم الحر ، بدأت الألوان تبهت قليلًا في أزهار وأعشاب حديقة القصر الملكي ، كان الجازيبو مزينًا بأمواج زرقاء تحبها دافني ، والحلويات المقدمة على الطاولة كانت منتقاة بعناية حسب ذوقها ، إذ لم تكن تحب السكريات كثيرًا ..
تماسكي ..
ذكّرت نفسها بأن “سايكي التي قتلتني” كانت سايكي السابقة ، حاولت تهدئة أعصابها في الطريق ، لكن ما إن جلست أمامها حتى شعرت بخوف غريزي ، فكرت أن تأكل شيئًا لتخفيف التوتر ، لكن معدتها كانت مضطربة ..
— آنسة دافني ..
العيون الزرقاء التي كانت تحتقرها في الماضي ، والعيون نفسها الآن ، تنتمي بلا شك لنفس الشخص ..
“داف …”
لكن نبرة المناداة واختيار الاسم كانا مختلفين تمامًا ..
ربطت سايكي شعرها الأصفر الليموني بعناية ورفعته إلى الأعلى في كعكة أنيقة ، وكانت ترتدي قلادة قدّمتها لها دافني سابقًا عبر روميو ، وجهها كان أكثر شحوبًا من آخر مرة رأتها فيها ، لكن وجنتيها منتفختان قليلًا كما لو كانتا متورمتين ..
“قلتِ إنكِ ستنتظرين ، لكنكِ رحلتِ دون كلمة واحدة ، وحتى أنكِ لم تذهبي للعمل… سمعت أنكِ سافرتِ مع ذلك الرجل إلى الخارج.”
جلست دافني كالمذنبة ، ضامة ركبتيها وراحتها فوقهما في وضعية مهذبة ..
كان من الأفضل ربما أن تقترب منها وتقول إنها آسفة وتلمس جسدها قليلًا لتخفيف التوتر بطريقة ما ، لكن “الخوف الغريزي” جعل علاقتها مع سايكي لا تزال متوترة ..
“رسائلي لم تتلقَّ ردًا حتى الآن…”
وفوق ذلك ، بدت سايكي وكأنها تصر على توجيه اللوم على تصرفات دافني التي سببت لها الألم ..
وباتت دافني لا تدري إن كانت مذنبة حقًا لتصرفها ، أم أن المشكلة في بساطة ووضوح مشاعر سايكي القوية التي تتجاوز حدود الصداقة وتربكها ..
هل أقول إنني كنت مشغولة؟
فدافني دائمًا ما تكون مشغولة ..
“هل استمتعتِ في هيربون؟”
“هم؟”
ظنت دافني أنها سمعت خطأً ، لأن ما قيل بدا مبتذلًا جدًا ، رفعت بصرها بتساؤل ..
أما سايكي ، فقد رفعت فنجان الشاي بهدوء لترطب حلقها ، بدا أن صديقتها التي ازدادت أناقة وسموًا قد أتقنت حتى أسلوب الحديث غير المصفّى الخاص بـ”كبار السن من العائلة المالكة” ..
“بما أنني استعملت صلاحياتي كزوجة ولي العهد لاستدعائكِ رغم انشغالكِ ، سأدخل في صلب الموضوع فورًا ..”
من الواضح أن سايكي خزّنت كل كلمة قالتها دافني سابقًا في قلبها ، والآن تعبر عنها بطريقة تُظهر بوضوح أنها “منزعجة”
وربما لهذا السبب ، بدأت دافني تشعر بشيء من الارتياح بعدما كانت متوترة ..
“حين كنتِ تحتاجين إلي ، كنتِ تقتحمين مكاني فجأة وتسببين لي الارتباك ، ثم تُهدينني هدايا لم أطلبها ، وأحيانًا تعاملينني كأني حمقاء لا أفهم شيئًا …”
“……”
“وبعد أن أحرجتِني بهذا الشكل… الآن حين أحتاجكِ أنا وأطلب رؤيتكِ ، لا تتجاوبين حتى بشكل لائق ، ولم أطلب مقابلتكِ عنوة ، بل كان لدي سبب وجيه لذلك …”
“لا ، الأمر ليس كذلك—”
“أنتِ أنانية يا دافني.”
كانت الكلمة الأخيرة “أنانية” مؤلمة ، لكنها لم تكن خاطئة ، بقيت دافني تحرك شفتيها كسمكة ذهبية ، غير قادرة على الرد ..
وبما أن سايكي لم تفعل شيئًا سوى سرد الحقائق ، بدا أن شخصية “دافني بوكاتور” كما قُدمت في هذا السياق لا تختلف عن كومة من القمامة ..
حين بقيت دافني صامتة تحدق فيها ، بدأت سايكي تدمع ، كأن الضغط العاطفي أصبح أكثر من أن يُحتمل ، وبدأت دموعها تنزل كحبات لؤلؤ ..
“لا تبكي …”
“ستقولين مجددًا إن الفتاة الباكية عديمة الفائدة ، أليس كذلك؟ وماذا لو رفضت هذا الأمر؟ هل ستقترحين أن نقطع علاقتنا من جديد؟”
لم تكن تلك أوامر بل محاولة تهدئة ، لكن دافني جمدت في مكانها وهي تحاول النهوض لتواسيها وتمسح دموعها ..
أما سايكي ، فلم تمسح دموعها التي تساقطت أسفل ذقنها ، بل استمرت في توبيخها بعينين محمرتين ..
“لم أتوقع أبدًا أن تتغيري بهذا الشكل… فقط لأنكِ تعرفتِ على ذلك الرجل التافه.”
بما أن دافني لم توقفها ، بدا أن الكلمات أصبحت أقسى فأقسى ، جلست دافني وأخذت تقاطع ساقيها ، وكأنها تتحدى سايكي لترى إلى أين ستصل ..
“تابعي …”
“…تشبهينه ، تمامًا مثل روميو ..”
شعرت دافني بجفاف في حلقها فرفعت فنجان الشاي لترطبه ..
همم… ما هذا؟
كان الطعم قابضًا وكأن فمها مليء بأشواك صغيرة ..
كانت تعرف هذا الطعم المزعج ، لكنها لم تتذكره تمامًا ..
تظاهرت برشاقة أنها تشرب الشاي ثم بصقت ما في فمها بلطف ، وتناولت قطعة حلوى لتزيل الطعم ..
لكن سايكي كانت تحتسي نفس الشاي وكأنه لا بأس به ..
تساءلت دافني إن كان نوع الشاي في الفنجانين مختلفًا ، فأشارت إلى فنجان سايكي وطلبته ..
أعطتها سايكي الفنجان دون تردد رغم وجنتيها المنتفختين ..
تأكدت دافني أن لا أحد حولهما ، ثم شربت رشفة منه ، كان الطعم ذاته تمامًا ..
أرجعت الكوب أمام سايكي وهي تميل برأسها في حيرة ..
ويبدو أن سايكي لم تنهِ كلامها، إذ تنهدت وبدأت جولة ثانية ..
“لا أعرف كم عليّ أن أتحمّل حتى تملّي من ذلك الرجل ، دافني دائمًا ما تفي بوعودها.”
“لا أظنني سأملّ منه ، ثم إنكِ تعلمين ، أنني…”
“أنتِ لستِ حاملًا.”
تجمدت دافني في مكانها ، لقد انكشفت ، كانت تحاول الهرب من المواجهة ..
مسحت سايكي دموع عينيها بظاهر يدها، ثم تنهدت ..
“كنتِ… تحاولين الكذب عليّ الآن ، أليس كذلك؟ تساندين ذلك الرجل ، وتتحججين بالانشغال ، ثم تذهبين إليه مجددًا.”
وفي عيني سايكي ، التي بدت وكأنها هدأت قليلًا ، عاد الغضب ليشتعل من جديد …
رغم أن دافني لم تذكر شيئًا عن الرجل الذي في غرفتها ، ها هي سايكي تعود لتفتح ذلك الموضوع مرة أخرى ..
“كما قلتُ مرارًا ، دافني ، ذلك الشخص سيء السمعة فعلًا و—”
“أريد أن أسألكِ شيئًا ، يا زوجة ولي العهد.”
مرّت أشهر ، ومع ذلك لا تزال نفس الكلمات تتكرر ، دافني تفهم جيدًا أن سايكي تكره سيليستيان بشدة، لكن “لماذا؟” كان سؤالًا ما زال يحيّرها ..
“أصبحتُ أعرف إلى حدٍّ ما ، أن سيليستيان لم يكن يتبعكِ أو يلاحقكِ كما ظننتُ سابقًا.”
“هل قال لكِ هذا بنفسه؟”
دافني لم تكن تحاول الدفاع عن الرجل ، فقط أرادت أن تعرف لماذا تصر سايكي على فتح هذا الموضوع كل مرة ، أو ما إذا كانت تعتقد فعلاً أن دافني يمكن أن تُخدع بتلك السهولة ،
لكن فجأة تغير تعبير سايكي …
كان تعبيرًا رأته من قبل… ذلك الوجه المحتقن حتى أطراف العين ، عندما طعنتها بخنجر أمامها…
شعرت دافني بوخز في عنقها ، ولمسته بلا وعي ، ثم همست لنفسها مجددًا أن تبقى هادئة …
“قال ماذا؟”
“…عنّي.”
“عنكِ ، قال عنكِ ماذا؟”
قطّبت دافني جبينها ، بينما خفضت سايكي عينيها إلى الأسفل ، يبدو أنها ظنت أن دافني تحاول استدراجها للحصول على جواب محدد ، شعرت دافني بثقل في صدرها ، وكأن كتلة من الرصاص استقرت في رئتيها …
“أعلم أن لديكِ الكثير مما يزعجك مني ، أعدكِ لن أقول مجددًا إننا يجب أن نقطع علاقتنا ، ولن أقول أيضًا إن البكاء لا يفيد ، لكن… سأظل أتجاهل رسائلكِ أحيانًا ، كما كنت أفعل دائمًا.”
“بذريعة أنكِ مشغولة باللهو مع ذلك الرجل؟”
“لنعش كلٌ منا بطريقه ، حسنًا؟ حين تحتاجينني بحق ، سأكون موجودة.”
“لكني أحتاجكِ الآن ، كما كنا دائمًا… كل يوم معًا …”
هل تعني أنها تريد أن تُعذب كما في السابق؟
“هل أنتِ… مريضة في الفترة الأخيرة؟”
“هل يجب أن أمرض حتى تبقي بجانبي؟”
سايكي تمتمت بهذه الكلمات وهي تشدّ على فنجان الشاي بقوة ، ولم يمض وقت طويل حتى سُمع صوت “تشقّق” خافت ، وتحوّل الفنجان إلى شظايا متناثرة ..
هاه؟
بدأ الدم يسيل ببطء من يد سايكي ، وكأن الشظايا قد غرست أو جرحت جلدها مباشرة ، اتسعت عينا دافني بدهشة من تصرفها ..
(هل يتحطم بهذه السهولة؟)
أمسكت دافني الفنجان مثلما فعلت سايكي ، وضغطت عليه بقوة ، لكن مهما حاولت ، لم يكن من الممكن تحطيمه بتلك السهولة ، خاصة وأنه لم يكن حتى مصنوعًا من زجاج رقيق …
نظرت سايكي إلى يدها الملطخة بالدماء ثم قالت بهدوء:
“لقد جرحتُ نفسي ، دافني …”
ثم قامت بهزّ الجرس الزجاجي بيدها المصابة ، وكأن شيئًا لم يكن ..
كانت دافني تنوي عندما جاءت إلى القصر أن تصغي سايكي لكل ما تقوله ، أن تواسيها بشأن رحيل كيشا ، وتناقش معها كيف ستتعامل مع مسألة عدم حملها ، كأنها جلسة فضفضة ..
بل كانت تنوي أخيرًا أن تخبرها بما كانت تتوق لمعرفته ، عن سبب مناداة روميو لها بـ”ديدي”، وعن سبب خوفها الشديد من جريمة قتل أفراد العائلة الملكية ..
مرت في خاطرها صورة روميو ووجهه المجروح ، وكيف عوقبت حينها على محاولة اغتيال أحد أفراد العائلة الملكية من قبل “كبار القصر” ..
أضاء مصباح أحمر في ذهن دافني ، إشارة تحذير ..
سايكي رودريغيز ..
ذلك الاسم الأخير “رودريغيز” الذي يرافق اسمها…
“بسببكِ ، دافني …”
لأنها ، في هذا البلد الذي يُدعى فلاديال ، أياً كان الفعل الذي ترتكبه ، سيقف الجميع دائمًا في صفّها ..
ترجمة ، فتافيت …
التعليقات لهذا الفصل " 110"