الحُكم الحلو ..
عندما وصلت الحفلة إلى ذروتها ، اختفى الأزواج إلى أماكنهم السرية المعدّة مسبقًا ،
أو ، كما في حالة الغبي “كِيشا سيرينادي”،
فضلوا البقاء حتى النهاية والمشاركة في لعبة جائزة مالية بالملايين ..
لكن ، السيدة وزوجها لم يظهرا مجددًا حتى نهاية الحفل ، حتى بعد أن بدأ الضيوف المتعبين يتمايلون متجهين نحو الإفطار ..
نارد ، التي كُلّفت بإيصال ملابسهم ،
امتطت حصانها وتوجهت نحو المكان الذي حددته لها “جيرينيسيس”…
كان صباحًا مشرقًا ، وركوب الحصان في الجبال منحها شعورًا بالحيوية بعد غياب طويل ..
ببراعة أمسكت بلجام الحصان لتهدئته ،
وعند وصولها إلى أسفل شلال “هيربون” رأت العربة الكبيرة التي أقلّتهم بالأمس ، مركونة داخل الغابة ..
…حتى رأت بقايا ما حدث الليلة الماضية …
النافذة كانت مغطاة ببخار كثيف وآثار يدين ، كبيرة وصغيرة ، تلطخ الزجاج ..
شهقت نارد وكادت تختنق من السعال وهي تحدق بالمشهد المريع ..
العربة بدت كأنها بحاجة للإتلاف الفوري ، وإلا ستصبح رمزًا خالدًا للتحرش في تاريخ “هيربون”…
من حسن حظ “دافني” أن “كيشا سيرينادي” كان فاقد للوعي من شدة صداع الكحول ..
“أي نوع من الوحوش كانوا هنا…؟”
إحدى أبواب العربة كانت ممزقة بالكامل ،
قشعر بدن نارد وهي تتجنب النظر إلى مكان نوم الاثنين ..
ثم رمت حزمة الملابس وقفزت على ظهر الحصان وغادرت مسرعة ..
❖ ❖ ❖
الاستيقاظ لم يكن مؤلمًا بعد الآن .
(همم… ما زلتُ على قيد الحياة.)
فكرت دافني ، تشعر بانتفاخ وجهها ..
لا تعلم كم الساعة ، لكن من المؤكد أن وقت الظهيرة قد مرّ منذ زمن ..
خاصة وأنها كانت عارية تمامًا ، بينما الأمير الكسول بجانبها كان قد ارتدى ملابسه كاملة ..
“صباح الخير ، دافني ..”
هزّت دافني رأسها بلا كلمة ، مشيرة إلى أن صباحها لم يكن جيدًا ..
رغم أن المقعد واسع ، ورغم وجود مساحة في الطرف المقابل ، لماذا اختار أن يتمدد بجانبها تمامًا؟
تأملت عينيه المتورمتين الحمراوين ، ثم جلست وهي تغطي صدرها بالبطانية المشتركة ..
جسدها السفلي صرخ من الألم ، لكنه لم يكن الوقت المناسب لإظهار الضعف أمامه ..
اقتربت من باب العربة الممزق ، محاولة النزول ، لكن فجأة ، أمسكها من خصرها وأعادها للنوم ..
رفعت بسهولة ، كما في الليلة الماضية ،
ما أثار انزعاجها قليلًا ، لكن لم يكن هناك ما يمكن فعله ..
رغم عزيمتها الحديدية ، إلا أن قوتها الجسدية لا تضاهي أبدًا قوة أمير كان سابقًا فارسًا ..
وقد شعرت بوضوح ، كم كان يرحمها بكل ما تحمله الكلمة من معنى ..
نظرت دافني إلى باب العربة الملقى أرضًا ،
وتذكّرت الساعات الماضية ..
كانت ممسكة بمقبض الباب ، تحاول الهروب ،
عندما سألها إن كانت تود الخروج ، أومأت برأسها ..
لكن بدل أن يفتح لها الباب…
“همم…”
لقد ندمت على سنوات الباليه التي تدربت فيها ، من شدة ما تعرضت له من ضغط ..
ورغم ذلك ، لم تترك المقبض ،
فنظر إليها بعينيه الخضراوين المجنونة ،
ثم مزق الباب كما لو أنه قطعة ورق ، وقال:
— “تمسكي بي ، لا بهذا الباب التافه ..”
شعور بالعجز الحاد ..
لأول مرة في حياتها ، شعرت دافني بذلك النوع من العجز ..
جسدها اقشعر بمجرد أن تذكرت ، تلك النظرات ، وتلك العيون الخضراء الحنونة أمامها الآن ، لم تتطابق أبدًا مع ما رأته في تلك اللحظة ..
“إلى أين تظنين نفسكِ ذاهبة؟”
لم تحاول دافني حتى الهرب من بين ذراعيه ، بل استسلمت بسرعة ، وأخفت وجهها خلف شعرها ، الذي بات درعها الوحيد ..
أرادت أن تقول إنها ذاهبة لشرب الماء ، لكن حين أدركت أن صوتها قد اختفى تمامًا ،
أشارت بحركة بسيطة ، مقلدة شخصًا يشرب من الكوب ..
نظر إليها “سيليستيان”، وهو مستلقٍ على جانبه ، يسند رأسه بكفه ، ينظر إليها بتعبير يصعب تفسيره ..
لم يكن يبتسم ، ولم يكن عابسًا…
“هل تريدين المزيد من ذلك الشراب؟”
وكأن سؤاله يحمل تلميحًا…
هل تظنين أنه يمكنكِ التحمل لمرة أخرى؟
كان ذلك كفيلًا بأن يوقظ روح التحدي داخلها ،
لكنها تماسكت ، واكتفت بأن نكزت جبينه بقبضتها .
وللمرة الأولى ، لم يتظاهر بالألم كما كان يفعل دائمًا ..
مدّ ذراعه الطويلة ليغطي بطنها ، فأرتجفت بوضوح ، لكن كل ما فعله أنه أخرج زجاجة ماء من تحت المقعد ، وناولها إياها ..
“خادمتكِ جاءت هذا الصباح …”
“آه…”
أسندت نفسها على صدره ، وشربت الماء كله دفعة واحدة ، ثم مدّت ساقيها ودفعت الحقيبة الصغيرة نحوها ، بينما تلمّست ما بداخلها بقدمها ، رأت فستانًا جديدًا.
(آه… غيرت ملابسك فقط ، طبعًا.)
نهضت فجأة ، وارتدت الفستان بسرعة ، ثم رتبت شعرها على عجل ..
نظرت إليه بعينين ضيقتين ، فابتسم بخبث وأجاب قبل أن تسأل .
“لو كنتُ قد ألبستكِ ، لهربتِ مجددًا ، أليس كذلك؟”
“…واو.”
“لكِ سجل حافل في هذا الشأن ، أرجو تفهّمين حرصي …”
لو كانت تحبه بنسبة 1% أقل ، لكانت قد شتمته علنًا دون تردد ..
هزّت كتفيها ، ثم أمسكت بيده اليمنى ونظرت إليها
كانت آثار العضّات ما تزال واضحة ، مع جرح غائر لم يلتئم ..
اتكأت من جديد ، عابسة قليلًا ، متجاهلة الشعور بالذنب ..
غمرها مجددًا بالبطانية ، وضمّها بدفء ..
“بماذا تفكرين؟”
“بك.”
أجابته ببرود
فاحمرّت أذناه قليلًا ..
لكن ذهن دافني كان مشغولًا بـ”سايكي”.
شعرت بوخز في مؤخرة رأسها ، كأنها ما زالت تسمع صوتها وهي تصرخ: “سأنتظركِ!”
تذكّرت كيف كانت تعاتبها مرارًا عندما لا تستمع ، وتذكرت أيضًا نظرات “سايكي” المتعالية في الماضي ..
(حسنًا، ولم لا؟)
سبق لها أن فكّرت أن الصديقات ، عند الزواج ، غالبًا ما يبتعدن تدريجيًا ..
وإذا تواصَلن من حين لآخر لتبادل بعض الأحاديث ، فذلك كافٍ للحفاظ على ما يُسمّى “صداقة” ..
“سايكي” كانت فتاة لطيفة وظريفة ، وإن كانت صورتها تلك تمثيلًا متقنًا ..
فهي تستحق تصفيقًا حارًا ..
وربما كان هذا السبب في وقوع “روميو” بحبها بجنون ..
(…هل أبيع قصر “ساتورن ميريل” وأهاجر مع الأولاد إلى “آيرين”؟)
رغم أنها تملك ما يكفي من المال ،
فإن احتاجت ، يمكنها العمل كخادمة لتكسب لقمة العيش ..
ستحرص على إطعام الجميع ..
لكن “سايكي”، كما قالت سابقًا ، أصبحت زوجة ولي العهد ، وبهذا أصبح بإمكانها الذهاب حيثما شاءت …
وإذا ما قررت دافني الهرب مع سيليستيان ،
فمن المؤكد أنها ستعثر عليها وتلقنها درسًا ..
كانت “سايكي” من أولئك الأشخاص الذين لا يرون شيئًا سوى الهدف عندما يضعونه نصب أعينهم ..
(حتى الشهرة أصبحت جريمة ، يا إلهي.)
نظرت مجددًا إلى سيليستيان ، الذي ما زال يحدّق بها ..
نظراته الخضراء البريئة كانت مختلفة كليًا عن نظراته في حياته السابقة ، حين كان ملكًا ،
كانت باردة ، مليئة باليأس ..
أما الآن ، فقد كانت بريئة ، دافئة ، مفعمة بالحب…
رغم أن ، في الحقيقة ، ما من شيء خلف هذا الجمال الساحر سوى…
“آه… أنا التي جعلتكَ هكذا.”
“همم؟”
من الأفضل؟
لو سُئلت دافني عمّن تفضّل ، لأجابت دون تردد ، لديها كل ما تحتاجه تقريبًا ، لذا كل ما عليها فعله هو أن يكون سيليستيان إلى جانبها ..
(لكن… النسخة الثانية منه مغرية قليلًا أيضًا…)
تمتمت بصوت منخفض ، وهي بالكاد تتمسك بعقلها:
“لا… مع ذلك ، أظن أنك الأفضل …”
“…مقارنةً بمَن ، وبماذا؟”
لكن بدلًا من أن ترد ، اختارت دافني الهرب إلى النوم ، تاركةً معدتها المحترقة جانبًا ..
“دافني ، أجيبي قبل أن تنامي ..”
ما إن أغلقت عينيها ، حتى غفت خلال ثلاث ثوانٍ.
سيليستيان رمش بعينيه مرارًا ، على غير عادته ، بسبب التوتر ..
حاول استفزازها بتحريك إصبعاته على خاصرتها ، ثم بدأ بتقبيلها في محاولة يائسة لإيقاظها ، لكنها لم تستجب .
نامت حتى وقت متأخر من الظهيرة ، دون أن تتحرك ..
❖ ❖ ❖
“تكاليف إصلاح العربة سيتم إرسالها إلى تيريوسا ، أيها الدوق .”.
نظر سيليستيان إلى “جيرينيسيس” بوجه خالٍ من التعبير ..
“بيعها لي فقط .”
“وماذا إن طلبت خمسة أضعاف السعر؟”
“فليكن…”
“حتى الحديث البسيط مثل هذا يزعجك ، فكيف تدير علاقة حب؟”
هزّت جيرينيسيس رأسها بتأفف ، لكنها سرعان ما كادت أن تبصق من شدة الاستفزاز ،
حين رأت كيف أشرق وجه سيليستيان فجأة بمجرد أن لمح دافني تخرج من الداخل ،
كأنه فتى مراهق وقع للتو في الحب …
كانت دافني بالكاد تجرّ قدميها ، نصف نائمة ، تسير ببطء وتثاقل ..
ربما بسبب آثار الكحول ، أو لأسباب أخرى ، لم تكن بكامل وعيها ..
ولذا ، لم يكن هناك من يحملها سوى سيليستيان نفسه …
حتى بعد أن استلقت على سرير القطار الفاخر ، لم تتوقف عن التذمر ..
وعندما لمس جبينها بقلق ، لوّحت بيدها تطلب منه الابتعاد ، لكن سيليستيان لم يبتعد ، بل تراجع قليلًا فقط ..
عادت دافني إلى النوم ، تتنفس بهدوء ،
فضمّها سيليستيان من خصرها ، وأسند أذنه إلى صدرها ، يستمع لدقات قلبها .
ثم رفع يده التي ما تزال تحمل آثار عضّات دافني ، ونظر إليها ..
تذكّر اللحظة التي أمسك بها دافني وهي تسقط من أعلى برج “شامباخ”،
حين عادت إليه كل الحواس التي كان قد فقدها…
لكنه لم يعد شابًا في العشرين من عمره ..
“ميشا” القادم من الإمبراطورية تخلّص من قميصه بعدما رأى عليه آثار غريبة ،
و”جيرينيسيس” سرعان ما تخلّصت من “أوسكار”
ثم أحضروا له قميصًا جديدًا يناسب بدلته ، وكأن شيئًا لم يكن ..
كل الكوابيس اختفت ..
وبقي فقط المتغيّر الوحيد:
اختيار دافني ..
—”عانقني …”
كانت تلك كلماتها ، حين عادت من الموت ،
فتحت له ذراعيها ، تدعوه ليمسك بها ، لا ليفلتها ..
—”فلنمت ونحن نفعلها ، سويًا.”
كان ذلك… أجمل حكم حب سُمعه على الإطلاق ، ابتسم سيليستيان بخفة ،
ثم أغلق عينيه ، متشبثًا بنبض قلبها الذي ما زال يطمئنه ، وغفا بين ذراعيها.
ترجمة ، فتافيت ..
التعليقات لهذا الفصل " 109"