في ليلة لا يعود فيها من نريد رؤيته ..
كانت دافني تسير ببطء على ضفاف بحيرة أولدن ، تلوّح بيدها لمن يحييها ، وفي النهاية ، تسلّمت زجاجتي نبيذ من آخر من قابلتهم ..
رغم تأخر الوقت ، لم يكن الناس يشعرون بالتعب واستمروا في الاستمتاع بالمهرجان ،
وبينما كانت دافني وسيلستيان قد تبادلا التحية للوداع قبل أكثر من ثلاثين دقيقة ، ظل يتبعها بهدوء دون أن يصدر صوتاً ، وكأنه يحاول إخبارها بأنه ما زال خلفها ..
“لماذا تستمر في ملاحقتي؟ لقد ودعنا بعضنا للتو …”
لكن دافني ، بوجهها الذي أظهر بوضوح أنها مستاءة ، التفتت إليه قائلة:
“لأن البقاء وحدكِ خطر ..”
“أنا بأمان تماماً هنا ، لكن وجودك الآن يجعلني أشعر بالخوف قليلاً …”
“…”
“إذا أخبرتني من أنت أو لمن تعمل ، سأشعر بالخوف أقل ، هل أتيت من الخارج؟ …لا أعتقد أنني دعوتك.”
لكن دعوتكِ إلى تيريوسا وصلت بالفعل ..
تجاهل سيلستيان الإجابة ، وضعت دافني قبضتها تحت ذقنها وأخذت تفكر بجدية ، كان من الواضح أنها لم تتوقع أن تصل تلك الدعوة بالفعل ..
“هل كنت لطيفة للغاية معك فتجرأت وبدأت تسيء الفهم؟”
عند هذا الهمس البسيط ، تصلّبت ملامح سيلستيان قليلاً ..
“أوه ، أم أنك جئت لتأخذني؟ أخبرتني أن نذهب معاً منذ قليل… هل هو اختطاف؟”
عبارتها ، التي كانت نصف صحيحة ونصف خاطئة ، جعلته يتردد للحظة ، عند رد فعله المحرج ، بدت وكأنها فهمت فجأة ، فطقطقت أصابعها بأصوات خفيفة وأخذت تنظر حولها ، لكنها لم ترَ سوى أشخاص تعرفهم ، ولم يكن هناك أحد يراقبها أو يثير الريبة ..
دافني استدارت تجاه سيلستيان واقتربت منه أكثر ، ونظرت إليه مباشرة من أسفل ذقنه ، عيناها الذهبيتان تلمعان بحدة ..
“هذه المرة سأطيعك ، سأعطيك كل ممتلكاتي وكل شيء ، فقط أتمنى أن تقتلني بدون ألم ..”
انعكس ظل سيلستيان المتوتر على سطح المياه ، بالقرب منهما ، كانت أصوات الحشرات الخافتة تتداخل مع الموسيقى الصاخبة للمهرجان من بعيد ..
“أحمق ، كنت أمزح فقط ، استرخِ ، حتى لو لم أستطع رؤيتك ، يمكنني أن أشعر بوجهك المتجهم …”
ابتعدت دافني قليلاً وهي تهمهم ، كانت تركل الحصى الصغيرة على ضفاف البحيرة ، وتقذفها إلى الماء واحدة تلو الأخرى ، ثم نظرت إلى ساعتها وهمست:
“منتصف الليل ، ولم يعودوا بعد ..”
جلست على مقعد خشبي وخلعت حذاءها ، ثم أشارت بيدها إلى سيلستيان كأنها تدعوه للجلوس بجانبها ، أخرجت عملة ذهبية من جيبها ووضعتها على المقعد بجوارها ..
انتظر سيلستيان أن تدعوه للجلوس مرة أخرى ، لكنها لم تفعل ، فقط رفعت زجاجة النبيذ الحمراء إلى شفتيها وأخذت تشرب بهدوء ، تراقب الوقت يمر ..
عندما تغيّرت الأغنية التي تُسمع من بعيد مرتين تقريباً ، فتحت دافني فمها مرة أخرى ..
“أيها الضيف ..”
رسمت دافني بوضوح مسافة وحدوداً في حديثها ، مما جعل سيلستيان يعبس ، وإن كان ذلك مخفياً تحت قناعه …
“آسفة لأنني ظننتك خادماً ، لكن تلك العملة الذهبية ليست من سكراديون أيضاً ، لم أتوقع أن يأتي أحد من الخارج إلى حفلة صغيرة كهذه ، أنا آن ، وأنت جيلبرت ، أليس من الأفضل أن نعتبر هذا تمثيلاً؟ هذه هي قواعد المهرجان ‘. لقد استمتعنا قليلاً ، أليس كذلك؟ حتى وإن اقتصر الأمر على المشي فقط…”
شرحت دافني بهدوء ، ثم قالت:
“خذ هذه العملة معك ، وأعد لي رباط شعري.”
كانت تمسك بكاحلها المتعب ، تدلكه مرات عديدة ، عندها فقط ، نقل سيلستيان خطواته ليقترب منها ، رباط شعرها كان لا يزال في جيبه ، ولم يكن ينوي إعادته ..
“اليوم ، لم أكن أرغب في التحدث بطريقة رسمية أو الالتزام بالآداب ، فقط شعرت بالكسل …”
لم يعرف ماذا يقول ، فبقي صامتًا ، ساد المكان هدوء مطبق ، لم يُسمع فيه سوى صوت تدفق المياه ، وبعد مرور بعض الوقت ، قالت:
“كنت أعتقد أن عمّي الكونت الحقيقي المدفون في القبر سيظهر فجأة ويتبعنا ليعترض…”.
تنفست دافني بعمق وكأنها على وشك البكاء ، فشعر سيلستيان وكأن ثقلاً كبيراً قد أُلقي على قلبه ، جثا على إحدى ركبتيه أمامها ..
“هل تعرف شعور أنك تريد رؤية شخص ما ولا تستطيع رؤيته عندما ترغب بذلك؟”
كان هذا ما يشعر به سيلستيان في كل مرة يبحث فيها عنها ويشعر بأنه فقدها في الحياة السابقة ، كان إحساساً مليئاً بالحنين ، ليس عميقاً كاليأس ، لكنه بالتأكيد لم يكن خفيفاً ، أومأ برأسه بصدق ، ثم أمسك كاحلها ، وضعه على فخذه ، وبدأ يضغط على المكان المجاور لعظمة الكاحل بإبهامه …
“ما الذي تفعله…؟”
حاولت دافني المقاومة للحظة ، لكنها استسلمت عندما أدركت أن لمساته تخفف من الألم ..
“ظننتُ أنه ذهب إلى إيرين ، كنت أواسي نفسي بذلك منذ شهور ، لكنه لم يعد حتى الآن ، لا يرد على رسائلي ، ولا يظهر في أحلامي أبداً ..”
يبدو أن النبيذ الأحمر الذي شربته كان ذو تركيز كحولي عالٍ ، حيث تفوح منها رائحة مثل الورود مع كل نفس ..
“…لن يعود ، نعم ، صحيح أنني لن أراه مجددًا.”
تمتمت دافني بتلك الكلمات ، ثم أطلقت تنهيدة وكأنها اكتشفت شيئاً فجأة ..
“يا إلهي ، هذا صحيح ، لن أراه مجددًا.”
بدأ كاحلها يرتجف بخفة ، لم يكن على سيلستيان أن يرفع رأسه ليدرك أنها تحاول كتم بكائها ، لم يستطع أن يرفع عينيه للنظر إليها ، تدحرجت زجاجة النبيذ الأحمر التي وضعتها إلى الجانب ، وسكبت ما تبقى منها ..
“أريد أن أراه… أريد رؤيته ، لماذا لا يأتي؟ لماذا تركني ، أنا فقط ، ليموت أمام عيني…؟”
انفجرت دافني في بكاء محموم وهي تعبر عن شوقها الذي لم تستطع تحمله ..
“الرحيل… لا ، فقط ألا يمكنهم ألا يفعلوا أي شيء؟ أليس من الممكن أن يبقوا فحسب؟ لماذا يكون ذلك صعبًا؟ فقط البقاء بجانبي…”
صرخت دافني بصوت مليء بالغضب ..
تساقطت دموعها على مريولها كقطرات مطر ، لم يجرؤ سيلستيان على مسح دموعها ..
‘لقد عدت ، دافني ..’
“لا أحد يعود لي…”
‘لكنني عدت ..’
“الآن سيرحلون جميعًا… من سيأتي لرؤيتي بعدها…؟”
‘أنا هنا دائماً ، بجانبكِ …’
❖❖❖
بوم!
انطلقت ألعاب نارية على شكل زهور مرة أخرى ، تجعدت المسافة بين حاجبي سيلستيان وهو ينظر إلى النبيذ الذي رآه منذ سنوات ولم يكن متناسقاً مع ما أمامه الآن ..
تمتم قائلاً:
“إكسير الحب …”
“آه ، أرجوك! لا تنطقها!”
لم تخبر دافني أحدًا لماذا يُسمى هذا النبيذ “إكسير الحب”. كان نبيذًا فاكهياً احتفاليًا بتركيز كحولي عالٍ للغاية ، وطعمه حلو للغاية ، صُمم بفتحة صغيرة مناسبة للشراب مباشرةً من الزجاجة ..
“عندما كنت في سيريناد ، صنعتُه للمرة الأولى كاختبار فقط ، دعمني راعٍ ليجعلني أجرب شيئًا ما ، أعتقد أنني تخلصت من كل الزجاجات ، لكن لا أعرف كيف وصلت إلى
هنا ، حقًا ، لا أعرف ..”
“فكرة لطيفة لتلك السن الصغيرة ، ولكن لماذا سُمي ‘إكسير الحب’؟”
في الحقيقة ، لم يُسمَ النبيذ بـ”إكسير الحب” منذ البداية ، لكنه حصل على هذا الاسم لأن اثنين من الشباب في سيريناد شربا هذا النبيذ ، وبعد فترة قصيرة ، زاد عددهم من اثنين إلى ثلاثة ..
تكررت القصة ست مرات أخرى ، مما دفع الناس إلى منح النبيذ هذا الاسم كنوع من المزاح ..
“أنا وأنت ، الوردي…”
كان سيلستيان هو الرجل الوحيد الذي جعل دافني في ذلك الوقت تفكر للمرة الأولى أن لون النبيذ “رائع”. وبالنسبة لدافني الصغيرة ، لم يكن هناك لون يمكنها ربطه سوى لون البلاتين ، كانت قد نسيت كل ذلك كأنه ذكرى سوداء من الماضي ، ولكن بمجرد أن رأت النبيذ ، عادت الروابط إلى ذاكرتها على الفور ..
كانت تلك الذكرى بالنسبة لها بمثابة أول حب ، أول قبلة ، وأول رقصة ، وبينما كانت تفكر في تلك اللحظات الرومانسية ، أحاطت ذراعيها حول عنق سيلستيان وهمّت بالنظر إليه ..
“تكذبين مجددًا.”
أفسد اللحظة كما لو كان يسكب ماءً بارداً عليها ..
فتحت دافني عينيها نصف فتحة وابتعدت عنه ، كان سيلستيان يبدو جادًا للغاية ..
“قلتِ إنكِ صنعته عندما كنتِ في سيريناد ..”
“إنه لون عيناي ولون شعري ، أحب نفسي كثيراً ، هل هذا كافٍ؟”.
كانت السيدات الأخريات يميلن زجاجات النبيذ الخاصة بهن ، وكن يتأملن بدهشة كيف يتحول النبيذ إلى اللون الوردي ، أما دافني فقد شربت كأسها دفعة واحدة ، لأنها تؤمن بأن الكأس الأولى تُشرب دائمًا دفعة واحدة
“يا إلهي… هذا جنون…”
لكنها ندمت على ذلك على الفور ، كان الطعم الأول حلوًا ولاذعًا ، ولكن بمجرد أن وصل إلى حلقها ، شعرت بحرارة حارقة تصعد إلى أنفها ، لا بد أن دافني ذات السابعة عشرة كانت مجنونة تمامًا لتصنع مثل هذا الشيء ..
رؤية إحدى السيدات الأخريات تتفاعل بالطريقة نفسها جعلت دافني تشعر بالحرج ، سواء كان ذلك بسبب النبيذ أو إحساسًا بالخجل ، فقد شعرت بالحرارة تملأ وجهها ..
“إذن ، ألا يجب أن تشرحي لماذا يُسمى ‘إكسير الحب’؟”
“أنتَ غبي في كل شيء ، ولكن حدسك يعمل فقط عندما لا يكون له داعٍ.”
تمتمت دافني بصوت منخفض وهي تشعر بالانزعاج ، في الواقع ، لم يكن الأمر يتعلق بحدس سيلستيان الجيد ، بل لأنه كان يجد ارتباكها لطيفًا ويستمتع بإلحاحه عليها للإجابة …
ارتشف سيلستيان رشفة من النبيذ الوردي الذي قدمته له دافني ، ثم انحنى نحوها محاولًا تقبيلها ، ولكنها رفعت يدها التي كانت تمسك بها الكأس لتمنعه ..
“آه ، توقف! الجميع يراقبون ، أرجوك ..”
“ثم ، أين يمكننا فعل ذلك؟”
“عندما نكون بمفردنا ، حيث لا يوجد أحد ..”
رفع سيلستيان رأسه قليلاً وكأنه يفكر للحظة ، ثم ابتسم ابتسامة عريضة ..
“أعرف مكانًا مناسبًا لذلك ..”
ترجمة ، فتافيت ..
التعليقات لهذا الفصل " 102"