للحظةٍ عابرة، تقاطعت أنظارهما. صمتت سيبيليا، بينما اهتزت عينا ديهارت الذهبيتان كأوراق شجر تتمايل مع الريح.
“…؟”
أطرق ديهارت رأسه دون وعي، متجنبًا نظراتها. بعد أن كان يصرخ بلا توقف، تغيرت أجواؤه فجأة، فكان من الطبيعي أن تتجه أنظار الحاضرين إليهما.
“سيدي الدوق، من هذه؟”
كسر إيلاي الصمت أولاً. كان يحمل بين ذراعيه كومة من الأعشاب التي أخفاها جامعو الأعشاب، ونظر إلى سيبيليا بدهشة.
“هل هي… تلك السيدة؟ أعني، التي توفيت. لكن، إن لم يكن فخًا، فهي تشبهها تمامًا!”
“…؟”
“هل كانت لها توأم؟ هذا قد يفسر الأمر. آه، بالمناسبة، هل اعتذرت عن مطاردتها بتلك الطريقة المرعبة؟”
تمتم إيلاي، كأنه لا يفهم ما يقوله هو نفسه. رفع ديهارت رأسه، وحدق به بنظرة حادة.
“أغلق فمك.”
بينما كان ديهارت يحذر إيلاي بصمت، تفحصت سيبيليا مظهره بعناية. شعره المغبر المتشابك بالعرق، وآثار الدم الجافة التي تسربت من ذقنه إلى صدره، وزهرة العين الزجاجية التي يتمسك بها كأنها خط حياته.
“هاه…”
زفرت سيبيليا زفرة ثقيلة. على الرغم من المسافة بينهما، شعر ديهارت بتلك الزفرة العميقة بكل وضوح.
شد قبضته على الأعشاب، وتصلب فمه. عيناه الذهبيتان، التي كانت تتأرجح بلا هدف، اكتست فجأة ببريق العناد. أزاح نظره عن إيلاي، وحدق في سيبيليا.
كانت نظرته واثقة، متعجرفة، كأنه لم يرتكب أي خطأ. أدركت سيبيليا معنى تلك النظرة، فتعمقت التجاعيد بين حاجبيها. ثم خطت نحوه بلا تردد، وجهتها واضحة: ديهارت.
“أوه، سيدي الدوق، إنها تقترب!”
دفع ديهارت إيلاي جانبًا، متجاهلاً تهلله، واستقبل سيبيليا. تحت نظراتها الحادة، لم يطرق رأسه، بل رفع ذقنه بتحدٍ.
“ألتقي بك للمرة الأولى. جئت مع الطبيب لتفقد الموقع. اسمي بيلا.”
مدت سيبيليا يدها إلى إيلاي، متجاهلة ديهارت عمدًا. أطبق ديهارت شفتيه، وتجنب نظراتها. تردد إيلاي لحظة، ثم أمسك طرف أصابعها بلطف وأدى تحية الفارس.
“إيلاي هيرسفيلد، مساعد سيدي الدوق.”
كانت التحية مبالغ فيها لفتاة من عامة الشعب. لكن إيلاي كان يخفي نواياه. إن لم تكن سيبيليا، كما قال ديهارت، مجرد خدعة لتدميره، فربما يمكنها أن تشفي جراحه.
“لن يصل الأمر إلى الزواج، فهي من عامة الشعب، لكن قضاء وقت ممتع قد يكون مقبولاً.”
إذا أبقاها إلى جانبه لبضع سنوات، ثم أعطاها ما يكفي لتعيش مرتاحة، سيكون ذلك خاتمة مريحة ومربحة للطرفين. لذلك، عاملها إيلاي بكل احترام.
لو علم كل من سيبيليا وديهارت بما يفكر فيه، لاشتعل غضبهما. لكن لحسن الحظ، لم يكن لديهما قدرة على قراءة الأفكار.
“تشرفت بلقائك، السير إيلاي.”
أزاحت سيبيليا نظرتها الحادة عن ديهارت، وتفحصت إيلاي بنظرة سريعة، مبتسمة بلطف. انحنى إيلاي قليلاً، وكأن نسمة من الأناقة الأرستقراطية قد انبعثت منها للحظة.
وفي اللحظة التالية، كاد قلب إيلاي يقفز من حلقه.
“سيدي الدوق.”
وضعت يد سيبيليا على قميصه. عينا ديهارت اتسعتا إلى أقصى حد بينما كانت يدها الصغيرة تتحسس صدره بلطف. لكن توهمه لم يدم طويلاً.
“كنت أعتقد أنك ستعتني به جيدًا.”
بدلاً من استكشاف صدره، سحبت أصابعها الرقيقة جيب قميصه. داخل الجيب الصغير، كان هناك جسد صغير متدلٍ بأسى. همست بصوت خافت يداعب أذنيه:
“ألم تعدني بأنك لن تتورط في أمور خطرة؟”
“أنا…”
“لست بحاجة إلى أعذار الآن.”
كانت عيناها الزرقاوان باردتين كالجليد. ابتلع ديهارت أنفاسه. أخرجت سيبيليا الطائر الأزرق من جيب قميصه، ومدت يدها الأخرى لتعدل ياقة قميصه حول عنقه.
رائحة الغابة الباردة التي تفوح منها، وأطراف أصابعها التي لامست صدره، جعلت ديهارت يتراجع دون وعي. لكن في تلك اللحظة، أوقفته عيناها الباردتان كبحيرة هادئة.
“ابقَ ساكنًا.”
لم تتحرك شفتاها المنضبطتان، لكنه شعر بكلماتها تتغلغل في كيانه. عيناها المتجمدتان سيطرتا على كل أعصابه.
“كما توقعت.”
انتهت اللحظة الساحرة القصيرة. سحبت سيبيليا يدها منه دون تردد، ممسكة بقطعة حمراء: بقايا ألوس.
“لقد تحطمت هذه الفراشة بينما تحميك.”
شد ديهارت فكه بقوة، وظلل الظل عينيه الذهبيتين. كادت كلمات “لم يكن بيدي حيلة” تخرج من لسانه، لكنه كبحها.
“لنتحدث بالداخل.”
مرّت سيبيليا بجانبه، وكلماتها المتبقية اخترقت قلبه كالسكاكين. ثم سمعت صوت القماش يرفرف عند مدخل الخيمة.
أغمض ديهارت عينيه ببطء ثم فتحهما، وتقدم نحو مدخل الخيمة.
صوت طقطقة.
همس إيلاي من الخلف “كُن قويًا”، لكنه تلقى صعقة خفيفة واختفى ليقوم بعمله. وأخيرًا، أصبح ديهارت وسيبيليا وحدهما دون أي مقاطعة.
* * *
تفحصت سيبيليا داخل الخيمة. كانت الخيمة، المبنية على دعامات قوية مغطاة بالخشب والقماش السميك، جديرة بأن تُسمى منزلًا. لو بقي ديهارت جالسًا بهدوء بداخلها، لكان بالتأكيد نجا من صدمة هزت الوادي دون خدش.
“لكنه لم يفعل.”
أطلقت سيبيليا بقايا ألوس في الهواء، ووضعت الطائر الأزرق على وسادة. تبعها ديهارت إلى الداخل. تحرك القماش الثقيل، وعيناه الذهبيتان المتوهجتان حدقتا بها.
تشوه فمه المتصلب. حاول التكلم عدة مرات، لكنه لم يستطع مناداة اسمها. اضطرت سيبيليا للتحدث نيابة عنه.
“ديهارت.”
أومأ برأسه قليلاً.
“كيف حدثت تلك الجروح؟”
“…؟”
“ما قصة الخدش على يدك، والدم الجاف على صدرك؟”
لم يجب ديهارت.
“ألم تعدني بأنك لن تعرض نفسك للخطر؟ قلت إنك تعرف حدودك الآن.”
وبعينين متجمدتين، وبخته سيبيليا.
“لا أعرف بالضبط ما حدث هنا، لكن إن كانت ألوس قد تحطمت لحمايتك واستعديت مرة أخرى، فلا بد أن الأمر كان خطيرًا. شيء يهدد حياتك.”
“…؟”
“لو كنت أعلم أن الأمر سيصل إلى هذا، لما سمحت لك بالذهاب. لما تركتك تبحث عن الأعشاب من أجلي.”
فكر ديهارت في كيفية وصول الأمور إلى هذه النقطة. لكنه، مهما فكر، لم يجد سوى عبارة “لم يكن بيدي حيلة”. لأن أولئك الأوغاد كانوا يعبثون بحبل نجاتها لأجل جشعهم.
مع هذا الفكر، شعر ديهارت بغضب يعتمل بداخله. احترق داخله، وسخنت عيناه. تسرب نفس ساخن من بين أسنانه، وارتجف جسده. كاد ينفجر برغبة في إلقاء أولئك الأوغاد من حافة الهاوية.
لكنه لم يفعل. حتى دون علمه بقدوم سيبيليا، لم يفعل. لأن…
“كان هذا أفضل ما يمكنني فعله. فعلت ما كان يجب عليّ فعله.”
خرج صوته خشنًا ومنخفضًا كأنه يمضغه. اتسعت عينا سيبيليا. مرت نظرته بينها وبين الطائر الأزرق للحظة، وومض شعور يشبه الذنب لثانية.
ثم عاد وجهه إلى سابق عهده: متعجرف، أناني، قوي، ولا يهاب شيئًا.
“أنتِ تموتين يومًا بعد يوم في مكان لا أراه، وهذا المرض اللعين ينهش جسدك لحظة بلحظة. هل كان عليّ أن أظل محبوسًا هنا، أدفع لأولئك الأوغاد وأتوسل إليهم ليجدوا عشبة تنقذ حياتك؟”
تصاعدت حدة صوته حتى أصبح كالصاعقة. حاولت سيبيليا ابتلاع زفرة وتهدئته، لكن دون جدوى.
“ديهارت، انتظر…”
“أنتِ تموتين، وكان عليّ أن أظل هنا أتملق أولئك الأوغاد في هذه الخيمة المريحة؟ هه!”
“يوم، يومان، نعم، كنت سأتحمل. لكن مرت عشرة أيام! خلال تلك الأيام الطويلة، كنت محبوسًا في هذا المكان الخانق، أقلق كل يوم أنك ربما سقطتِ اليوم، أو أن الدواء فقد مفعوله، أو أنني سأسمع خبر وفاتك هذا الصباح. لم أستطع أن أرتاح للحظة!”
تدفق صوته الحار إلى قلب سيبيليا عبر أذنيها. أمام حرارته التي تكاد تحرق، قبضت يديها بقوة.
“لكنني تحملت. نعم، تذكرت وعدي لكِ وتحملت. حتى عندما كان أولئك الأغبياء يرددون كل مرة أنهم لم يجدوا شيئًا!”
كأنه لا يستطيع التحكم بمشاعره. خط أبيض كالبرق عبر عينيه الذهبيتين.
“لكن الطباع لا تتغير. لم أستطع تغييرها. هكذا أنا. لذا، رميت وعدك الثمين جانبًا. لم أستطع أن أترك حياتك بأيدي اولئك القمامة.”
ابتسم ديهارت ابتسامة ملتوية ومد يده نحوها. نظرت سيبيليا إليه بهدوء. لكن يده تجاوزتها، وأمسكت بشيء خلفها.
“لن أعتذر عن كسر الوعد.”
فقدت سيبيليا الكلام وهي ترى الصندوق الصغير في يدها. فوق القماش الناعم، كانت زهرة العين الزجاجية موضوعة بعناية.
“لكنني سأعتذر لأنني هكذا.”
“…؟”
“أنا آسف.”
بعد هذه الكلمات، استدار ديهارت. أمسكت سيبيليا معصمه بسرعة
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 78"