بينما كان العم وابن أخيه يستمتعان بلقاءٍ محموم بالدفء والقسوة معًا، جلست سيبيليا في غرفة المعيشة تنتظر واتس. دفنت جسدها بين الأرائك والوسائد المرتبة بعناية فائقة، فغمرها إحساس بالراحة أخفى عنها توترًا كان مختبئًا في أعماقها، لكنه لم يلبث أن عاد ليغمرها فجأة.
“يا إلهي…”
شعرت سيبيليا بأطراف أصابعها ترتجف. ما إن أدركت أنها وصلت إلى مكان آمن حتى انفجر الضغط المكبوت بداخلها كالبركان. أدركت متأخرة كم كانت مشدودة الأعصاب طوال الوقت.
“أطرافي تؤلمني وتنبض.”
عضت سيبيليا شفتيها بقوة. لم تكن تعلم أنها أرهقت جسدها إلى هذا الحد. شعرت لأول مرة بمدى قسوة حياة الهارب.
الهروب من ملاحقٍ يطاردها كان أمرًا أشد وطأة بما لا يقاس مقارنة بمجرد الفرار من قصرٍ ما.
“هوو…”
أمسكت سيبيليا كوب الشاي الذي حضره لها كادي قبل أن يغادر، محاولة تهدئة الارتجاف الذي يعتريها. ولحسن الحظ، لم يكن هذا الارتجاف نابعًا من الخوف الذي يجعلها ترتعد.
لقد أنهكت جسدها في لحظات قصيرة من أجل البقاء، وما تعانيه الآن ليس إلا رد فعل طبيعي لذلك الجهد.
“لا بأس، كل شيء على ما يرام الآن…”
حاولت ألا تفكر في ديهارت، لكن الظروف الحالية جعلت ذلك مستحيلاً. ففي النهاية، لولا مطاردته لها، لما وصلت إلى هذا الموقف أصلاً.
رفعت سيبيليا رأسها لتنظر إلى السقف. ربما في مكان ما بالطابق العلوي، يرقد هو الآن فاقدًا للوعي، مقيدًا إلى سرير من الحديد الأسود.
لكن هذه الحقيقة لم تعد تثير فيها الرعب كما كانت من قبل. فدي هارت الذي حاصرها في النزل مع فرسانٍ تحت إمرته للقبض عليها لم يعد موجودًا. الآن، هو عاجز تمامًا… وأكثر من ذلك:
“سيعود إلى مكانه.”
بل لابد أن يعود. السيد واتس سيجبره على المغادرة. نطقت سيبيليا بهذا اليقين بثقة راسخة. كان مجرد تخمين، لكنه مدعوم بأسباب منطقية.
فديهارت، على عكسها، لم يكن ضيفًا مدعوًا رسميًا إلى هذا المكان.
“بمجرد أن يستعيد قوته، سيُعاد إلى حيث أتى.”
استنتجت من حديث كادي أثناء رحلتهما إلى المعهد أن ديهارت لن يتمكن من البقاء طويلاً. فقد أخبرها كادي أن واتس لا يقبل عادةً سوى المرضى اليائسين مثلها، ويرفض الآخرين.
كان ذلك واضحًا منذ البداية: من اختياره لإقامة معهده في سلسلة جبال شاهقة، ومن حمايته للمكان بحاجز يبعث الكوابيس في نفوس الداخلين، كل ذلك يؤكد نفوره من الناس. لذا، من أتى مثل ديعارت لسبب آخر غير العلاج، لن يُقبل على الأرجح.
“نعم، يجب أن يعود كل شيء إلى أصله.”
سيغادر إلى حيث ينتمي، إلى هيليند هول، ذلك القصر المنعزل الذي يعشقه، حيث لا وجود لزوجة غير شرعية مزعجة مثلها.
مع انتظام أفكارها، شعرت براحة تسكن قلبها، وهدأ الارتجاف تدريجيًا. ارتخت شفتاها المتصلبة، وأصبح لديها أخيرًا متسع لتتذوق رشفة من الشاي.
“هوو…”
كانت أمنية عابرة لا طائل منها، لكن سيبيليا تمنت أن يكون ديهارت، في لحظة رحيله، خفيف القلب مثلها. لم تعرف لماذا تعقب خطاها ورفض قبول موتها، لكنها أرادت أن يتقبل أن الأمر انتهى، ولا عودة للوراء.
“أنا ميتة بالفعل.”
سيبيليا إنفيرنيس، التي كان يمكن أن تقبل ندمه الغامض وتغفر له، لم تعد موجودة في هذا العالم.
“لم أعد تلك الشخصية التي كنتها. لذا، لم يعد لدي… ذلك الحق.”
دفنت سيبيليا نفسها أعمق في الوسادة، وأغمضت جفنيها المرتجفين. احتضنها الظلام بلطف دافئ.
* * *
بعد أن أنهى أبحاثه وخرج من القبو، توقف واتس فجأة أثناء مروره بغرفة المعيشة. استقرت عيناه على امرأة مدفونة بين الوسائد الكبيرة.
كانت سيبيليا نائمة.
“…”
جالت عيناه السوداء الباردة على جسدها بنظرة ميكانيكية. شحوبها المَرَضي، معصمها النحيل الذي يكاد يظهر عظمه، والرعشة تحت جفنيها، كل ذلك تحول إلى أرقام ومعطيات سُجلت في ذهنه بسرعة.
“مريضة.”
لكي تصل إلى هنا بجسدٍ سليم رغم مرضها الواضح، لا بد أنها تلقت توجيهًا من أحد أصدقائه القلائل. قبل واتس علاقاته الإنسانية الضئيلة بلا مبالاة، وتابع عبوره لغرفة المعيشة.
وفي تلك اللحظة، صادف كلود الذي كان يهبط الدرج.
“آه، واتس. هل انتهيت من عملك اليوم؟”
“كادي.”
التفتت عينا واتس نحوه، ثم استقرتا على سيبيليا. بنظرة تطلب التفسير، هز كلود كتفيه.
“لم أحصل على تفسير واضح أنا أيضًا. قلت لها أن تنتظر حتى تخرج، لكن يبدو أنها أنهكتها الرحلة فنامت.”
“…”
“لا تنظر إليّ هكذا. لم أتعمد ذلك. كان هناك ما يبرر هذا.”
تبع كلود واتس، الذي ألقى عليه نظرة متشككة واتجه إلى المطبخ، وهو يحتج.
“هل تعلم أن الحاجز كاد أن ينهار بينما كنت منغمسًا في مختبرك؟”
توقفت يد واتس، التي كانت تخرج وعاءً من المربى، عن الحركة. التفتت عيناه السوداء نحو كلود. ابتسم كلود ابتسامة عريضة وانتزع الوعاء من يده.
“كانت الصواعق تهطل كالمجانين. بدا أنها ستحرق الغابة الحقيقية بعد أن تجاوزت الأوهام، فاضطررت للتدخل.”
“تقصد…”
“نعم. كان عليّ مواجهة ذلك الشخص، فلم يكن لدي وقت لأستجوب المريضة عن تفاصيلها.”
نظر واتس إلى كلود بعينين متعمقين. بمعرفته بأصل كلود، لم تبد كلماته عادية بالنسبة له.
“من يستطيع أن يطلق صواعق تكسر الحاجز…”
باستثناء الظواهر الطبيعية، كلمة “الصواعق” تعني عادةً شيئًا واحدًا في الإمبراطورية: كائن يراقب ساحة المعركة بعينين ذهبيتين، ينزل العقاب السماوي، وأثار بذلك غضب الحكام.
إنفيرنيس الملعون.
ودوق هذا العصر هو ابن أخ كلود. أطلق واتس تنهيدة خافتة.
“هل أنت بخير؟”
أدرك كلود القلق الخفي في صوت واتس الهادئ، فضحك بخفة. كان واتس يبدو غير مبالٍ بالعالم، لكنه في الحقيقة يملك قلبًا قلقًا وعاطفيًا.
“لذلك هو من التقط شخصًا مثلي وأنقذه.”
أومأ كلود برأسه مطمئنًا واتس الذي ينظر إليه بقلق، ثم تكلم بنبرة متفاخرة:
“بالطبع أنا بخير. دوق صغير لا يقارن بخبرتي. بينما كان يُدلل في هيليند هول، كنت أنا أكافح في القاع.”
“لكن يبدو أن مزاجه عنيف.”
ذكّر واتس بقوته التي كادت تحرق الغابة الحقيقية، وقال:
“مثل العم مثل ابن الأخ، على ما يبدو.”
عبس كلود، ثم فتح غطاء الوعاء بقوة متعمدة وأعاده إلى واتس. بينما كان يهم بالخروج من المطبخ، قال واتس:
“لكن… هل أتيا معًا؟”
نظر واتس نحو غرفة المعيشة حيث تنام سيبيليا، فسأل. توقف كلود فجأة. بدا أن لديه الكثير ليقوله، فأمال واتس رأسه نحو ظهره.
“يبدو أن ابن أخي تتبع هذه المريضة إلى هنا…”
“ماذا؟”
“إن لم يكن كذلك، لما جاء إلى هنا. أعلم أن أرقه شديد نوعًا ما، لكن…”
عبس واتس وهو يدهن المربى على الخبز. هل من المنطقي أن يطارد دوق امرأة مصابة بمرض مستعصٍ حتى هذا المكان؟ شيء ما بدا غير مريح.
“لا تعرف علاقتهما بالضبط؟”
“ليس بعد. حاولت استدراجه بخفة، لكنه أغلق فمه بإحكام. لكنه توقف عن لعني، وهذا تحسن…”
تنهد كلود بوجه متضارب.
“لكن لا يبدو أنها علاقة خطيرة. لم يرفض مرافقتها إلى هنا. بمعنى آخر، ليست علاقة سيئة لدرجة تركها تموت.”
“همم.”
“إن كنت غير مطمئن، اسأل المريضة بنفسك.”
عند الإشارة إلى سيبيليا، تعمق التجعيد بين حاجبي واتس. لكنه لم يكن من النوع الذي يتدخل في شؤون شخصية لمريضة التقاها للتو.
“لا مفر إذن.”
على أي حال، ابن الأخ هذا سيغادر المعهد قريبًا، وعندها لن يضطر للتفكير في هذه الأمور مجددًا.
أكل واتس قطعة خبز مغطاة بالمربى وبدأ يتكهن بمرض سيبيليا.
* * *
كم من الوقت غفت فيه؟ بدأ الجوع الخفيف يوقظها من نومها.
“أمم…”
في تلك اللحظة، داعبت رائحة ناعمة ولذيذة أنفها. فتحت سيبيليا عينيها دون وعي. تبعت الرائحة بنظرة غير متعمدة، فاصطدمت عيناها برجل يجلس عند طاولة المطبخ.
“استيقظتِ.”
نهض رجل ذو شعر أخضر طويل مربوط بعشوائية وتقدم نحوها. أدركت سيبيليا هويته من ردائه الأبيض.
“آه، أنا…”
رائد مبتكر في مجال الأمراض المستعصية والنادرة. ربما الشخص الذي سيعالج مرضها ويهديها مستقبلاً تخلت عنه، إنه واتس.
“مرحبًا. أنا، أعني…”
احمرّت خدّا سيبيليا من خجلها من وقاحتها. كيف نامت في غرفة معيشة مضيفها قبل أن تحييه؟
كان يجب أن تترك انطباعًا جيدًا، لكنها بدأت بهذا اللقاء المحرج. نظرت إلى وجهه البارد ثم أطرقت رأسها، تغمرها مشاعر الندم واللوم.
لكنه لم يوبخها.
“لا داعي للإجهاد. لنبدأ بالتعارف أولاً.”
“آه، شكرًا. أنا بيلا.”
“حسنًا، بيلا.”
جلس واتس أمامها بوجه خالٍ من التعبير. هدأت سيبيليا تدريجيًا أمام موقفه غير المبالي.
استقر تنفسها. نظر إليها واتس مرة أخرى بتمعن، ثم انتقل إلى صلب الموضوع.
“إذن، ما مرضكِ؟”
ابتلعت سيبيليا ريقها أمام سؤاله المباشر. عيناه السوداء الغامضة اخترقتاها. شعرت بجلدها يلمس حقيقة أنها دخلت مفترق طرق لا رجعة فيه. لم يعد هناك مهرب.
هل هو مرض ليخس أم لا؟
هل سأعيش أم لا؟
الجواب سيأتي قريبًا. هذا الرجل ذو الوجه القاسي سيخبرها متى سينتهي عمرها.
حتى لو لم يكن الجواب كما تتمنى… قررت ألا تندم على قدومها إلى هنا.
فتحت سيبيليا فمها بوجه هادئ.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 39"