كان ديهارت في حيرةٍ من أمره. بل لنكن صادقين، كان على وشك أن يفقد صوابه. لم يكن يدرك سبب استيقاظه سليمًا معافى، ففي لحظةٍ كان يظنها نهاية معاناته، حيث كان يتوق إلى الراحة الأبدية، شعر وكأن قوةً غامضةً قد انتشلته قسرًا من تلك الهوة.
لم تكن رؤيته الضبابية تسمح له برؤية ما حوله بوضوح، لكن شيئًا واحدًا كان مؤكدًا: لقد نجا من مستنقع الكوابيس المظلم. تحرر أخيرًا من جحيمٍ متكررٍ لا ينتهي.
“لماذا؟”
ارتعشت عيناه بلا هدف، وتشوهت شفتاه الجميلتان تشوّهًا بائسًا.
“ظننتُ أنها النهاية.”
انفلتت آهةٌ من صدر ديهارت، فأغمض عينيه وهو يئنُّ في ألمٍ صامت. لم يكن يريد قبول هذا الواقع الذي فُرض عليه. لم يكن هذا ما يصبو إليه.
“ما أريده هو…!”
لكنه لم يجرؤ على النطق بهذا الشوق العميق. لم يكن أمرًا يمكن أن يُقال بسهولة، لأنه لم يكن بهذه الخفة. فلم يبقَ له سوى العجز. د
أغلق عينيه ليعزل نفسه عن العالم الخارجي، لكن ما إن أطبق جفنيه حتى بدأت صورة سيبيليا تطارده كاللعنة. سيبيليا مطعونة بحربةٍ حتى الموت، سيبيليا تتقيأ الدماء من كل جسدها بعد تناول السم، سيبيليا ممزقة الأشلاء على يد مجهول.
ثم سيبيليا واقفةً فوق برج الجرس، تعلق حبل المشنقة حول عنقها…
شعر بقلبه ينقبض وأنفاسه تختنق في صدره. لم يفهم لماذا عاد إلى الحياة مجددًا. كان يتمنى لو انتهى كل شيء هناك، حتى لو كان ذلك يعني البقاء أسيرًا للكوابيس إلى الأبد. تدفق الحزن المكبوت كالسم في عروقه، يغمر كيانه كله.
“آه…”
لكنه تقبل الوضع المفروض عليه. لم يكن ذلك اختيارًا بقدر ما كان عادةً راسخة. خيانة الآمال والتوقعات كانت جزءًا من حياته اليومية. ابتلع ديهارت أنفاسه وحاول رفع جسده، ليكتشف أن شيئًا غريبًا يحدث.
“أغ!”
مرَّ وميضٌ باردٌ فوق عينيه الذهبيتين. أدرك أن أطرافه الأربعة مقيدة تمامًا إلى السرير، بل ولم يكن ذلك كافيًا، فقد كان فمه مكممًا بقطعة قماش. كان من الغريب أن يلاحظ ذلك الآن فقط.
“كيف لم أنتبه لذلك؟”
بينما بدأت رؤيته تتضح، لمح أمبولة مهدئٍ على مقربةٍ منه. دواءٌ يُستخدم عادةً لتهدئة المتهمين المتمردين الذين لا يدركون وضعهم.
“لهذا السبب إذن.”
لهذا شعر بثقلٍ في جسده وبطءٍ في إدراك الواقع. هل وقع في فخٍ محكم؟ جال ببصره في الغرفة بهدوء، واستقرت عيناه الذهبيتان ببرودٍ قارس. أراد أن ينكر ذلك، لكن ربما كانت سيبيليا ذات الشعر البني مجرد طُعم.
[فكر جيدًا. من الذي سيستفيد من تدبير مثل هذا الأمر؟]
تذكر كلمات إيلاي قبل دخوله الممر السادس. سخر ديهارت في نفسه. كان هناك الكثيرون الذين يتوقون لسقوطه، حتى أنه يمكن أن يعتبر الجميع مشتبهًا بهم، باستثناء نفسه.
“حتى عائلتي طعنتني في ظهري.”
أطرق رأسه وهو يعضُّ شفتيه بقوة حتى سال الدم. فاحت رائحة الدم في أنفه، وتسرب فوق القماش الذي يكتم فمه. وخز الواقع جلده كالإبر. لقد انتهى وقت التيه في ظلال موتها.
مدَّ الواقع القاسي والبارد ذراعيه نحوه. لقد ماتت سيبيليا إنفرنيس، وقد أشرف بنفسه على دفنها، وما رآه في الساحة وتبعه كان مجرد فخٍ محبوك.
“حقًا، لقد متِّ بالفعل، أليس كذلك؟”
كان وجهك الهادئ الذي رأيته ذلك اليوم هو آخر ما بقي منك. ما التقيته في الساحة لم يكن سوى وهمٍ نسجته رغبتي المكبوتة.
أنَّ ديهارت تحت وطأة واقعٍ أراد تجاهله.
“بالطبع، لن تصل صلواتي إلى السماء أبدًا.”
طفلٌ أنانيٌ خائنٌ فرَّ من عائلته لينجو بنفسه، دمُ الدوق الملعون يجري في عروقه بكثافة، وحشٌ بلا قلبٍ أو رحمة. كيف يمكن أن تتحقق أمنية كائنٍ بغيضٍ كهذا؟
“لا يمكن أن يُمنح لي معجزةٌ سخيفةٌ كأن تكوني على قيد الحياة.”
أجبر نفسه على تقبل موتها، وشعر بأحشائه تتمزق من الألم. لكنه صمد. إذا لم يمنحه القدر موتًا هادئًا، فعليه أن يتحمل.
كان عليه أن يجعل من استغلَّ صورتها وسخر منها يدفع الثمن غاليًا.
“…أغ!”
تجمدت عيناه كالصقيع. انتشر ضبابٌ أبيض فوق عينيه الصفراوين، وتطايرت شراراتٌ صغيرة كالتيار الكهربائي على جلده. لكن الانفجار الذي انتظره لم يحدث.
“مستحيل.”
عضَّ على أسنانه ونظر إلى قبضته المرفوعة. كما توقع، لم يكن لديه حتى القوة لاستدعاء صاعقةٍ صغيرة. كان بإمكانه إحداث وميضٍ ضئيل، لكن أي محاولة أكبر ستكلفه ألمًا يعتصر أحشاءه.
“لا مفر.”
اعترف أن الوضع ضده. لكنه لم يكن ليستسلم بسهولة. حتى لو كلفه ذلك دماءه، كان مصممًا على الانتقام ممن استغلَّ موت سيبيليا. ضبط أنفاسه بهدوء، يحتاج إلى التركيز لجمع قواه.
في تلك اللحظة، انفتح الباب بنقرةٍ خفيفة.
دخل شخصٌ ما، ومن صوت خطواته الثقيلة بدا رجلاً ذا هيئةٍ قوية. تنفس ديهارت بهدوء، بينما اقترب الداخل من السرير دون تردد، ظانًا أنه لم يفق بعد.
“يا للأسف.”
ملأت زفرةٌ خافتة أذنيه. كان الصوت مألوفًا بطريقةٍ ما، فعقد ديهارت حاجبيه دون وعي. ثم جاءت الكلمات التالية لتجعله يفتح عينيه دهشةً وينظر إلى الواقف أمامه.
“كيف تحولتَ إلى رجلٍ شرسٍ كهذا، يا ابن أخي؟”
كلود إنفرنيس، الرجل الذي يُحب أن يُنادى بـ”كادي”، وضع طبق الحساء جانبًا وهو يوبخه.
—
كانت حياة كلود إنفرنيس جديرةً بالفخر. رغم أن أصله لم يكن موضع ترحيبٍ من الجميع، إلا أن وجوده كان يستحق الحب.
[أنا سعيدٌ لأن أمك تركتك لي هدية.]
في عيون الآخرين كان مجرد ابنٍ غير شرعي، لكن في عيني الدوق السابق لم يكن سوى طفلٍ متأخرٍ محبوب. بل إن هذا الصغير، بعد أن تعلم الكلام بوقتٍ قصير، أظهر تفوقًا جعله أكثر حبًا.
[أنت ابني. كل ما تعلمته وتربيتُ عليه يجب أن يكون لك أيضًا.]
كان أبوه حنونًا، وأخوه الأكبر لطيفًا. أما أخوه الثاني فنظر إليه بعينٍ مترددة، لكنه لم يبالِ، ظنًا أنها مجرد غيرة. ربما لهذا أصبح الطفل العبقري الذي حصل على كل شيء بسهولة مغرورًا بسرعة.
لم يكن يعلم أن غروره الذي يطاول السماء سيودي بحياة عائلته التي أحبها.
[لا-!]
في يومٍ هطل فيه المطر بجنون، كان يرافق عائلة أخيه الأكبر، الدوق الحالي، في عربةٍ تعبر الجبل. خاف ديهارت من المطر الذي ضرب النوافذ بعنف، واختبأت روزالين الصغيرة في حضن زوجة أخيه.
ثم في لحظة، انقلب العالم. عندما أفاق، كان كل شيء قد انتهى. الحراس أُبيدوا، وزوجة أخيه ماتت بعيونٍ مفتوحة على بعد خطوات منه.
[لا، لا. لا يمكن. لا…!]
ضرب المطر جسده بلا رحمة. اختنق صراخه في حلقه، وارتجفت يداه وانهارت ركبتاه. أدرك كلود حينها أنه لم يكن سوى سيدٍ متعجرفٍ ضعيف.
غروره وكبرياؤه أصبحا الآن مجرد هشاشةٍ لا قيمة لها.
[ها… ها.]
فجأة، سمع صوت سيوفٍ تتصادم من بعيد. أيقظه الصدى الحاد. كان هناك من يقاتل بعد. إذن…
[أخي.]
جيلرند إنفرنيس، الدوق الحالي وسيد العائلة، لا بد أنه أخوه. استعاد كلود رباطة جأشه. كانت وفاة زوجة أخيه مأساةً لا تُطاق، لكن لم يكن الوقت للغرق في حزنها.
الأطفال. كان عليه إيجاد الأطفال. بينما يواجه أخوه الأعداء، كان عليه تأمين سلامتهم.
[دي هارت، روزالين…]
شق طريقه عبر المطر الغزير، يفتش بين الجثث بحذر. لحسن الحظ، لم يكن الأطفال بينهم. شعر براحةٍ عارمة، كاد أن يركع شكرًا .
ثم سمع صوتًا خافتًا يناديه من بعيد. لن ينسى كلود تلك الرعشة مدى حياته.
“كلود.”
طفلٌ مختبئٌ تحت جذع شجرة، يناديه دون دمعة، لكنه ما إن اقترب حتى انفجر باكيًا. تذكر كلود ذلك الطفل الصغير الهش، وغرق في الندم.
“سأقتلك، أيها الوغد…!”
لكن أين ذهب ذلك الطفل، ومن أين جاء هذا الرجل الشرس الذي يتوعد بقتله؟ لم يكن الأمر غريبًا تمامًا. لا بد أن راش قد زرع فيه فكرة أن كلود خان جيلرند.
“ها.”
تنهد كلود، وفي تلك اللحظة، سقطت شرارةٌ صغيرة بجانب قدمه، محرقةً شجرةً ومبعثةً رائحة احتراقٍ نفاذة. عقد حاجبيه وهو يتأفف.
“لا تُجهد نفسك، تعلم أن ذلك لن يجدي نفعًا.”
“هل أنت من دبَّر كل هذا؟ هه، كنت أعلم!”
منذ أن رأى وجه كلود، ظل ديهارت في تلك الحالة، يصارع غضبه ككلبٍ مسعورٍ يحاول الانقضاض عليه.
“من طعن أخاه في قلبه بيده لن يتردد في قتل ابن أخيه!”
بدت لديه كلماتٌ يريد قولها، فأزال كلود الكمامة، لكن ذلك كان خطأً. مسح وجهه بتعبٍ، كما توقع، لم يتغير شيء.
كان ديهارت قد فقد ذكريات ذلك اليوم بالكامل.
تأفف كلود وهو يعقد ذراعيه متكئًا على الحائط. مرت ساعات حتى هدأ ديهارت، أو بالأحرى، نفدت قواه من التمرد.
“لن تصدقني حتى لو رويت لك قصتي الآن، لذا لن أضيع جهدي.”
“…”
“لكن اعلم شيئًا واحدًا. أنا لست شخصًا عظيمًا. لست بذلك الدهاء لأنصب فخًا للقبض عليك.”
حدَّق فيه ديهارت بنظرةٍ كأنها ستبتلعه. ضحك كلود بخفة وهو يبتعد عن الحائط. كان هو نفسه يومًا كهذا، يجوب الأزقة بحثًا عن من قتل عائلته ولفق له التهمة.
لكن الغضب وحده لا يكفي. الكراهية العمياء لا تهدي الطريق، بل تفترس صاحبها. كان لديه الآن ما هو أهم من الانتقام.
قال كلود بصوتٍ هادئ:
“بصراحة، ألم تكن أنت من تتبع ضيفي بغباء فوقعت في الفخ؟ تحكم في غضبك يا ديهارت.”
“لا عجب أنها خافت.” أضاف كلود ببرود، فابتلع دي هارت أنفاسه، وغرقت عيناه الذهبيتان في الظلام.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 38"