**الفصل 37**
ظنّت سيبيليا أن قلبها توقف عن النبض حين رأته. عينان ذهبيتان وشعر كثيف داكن اللون، أنف حاد كأنه منحوت بعناية وشفتان مغلقتان بعناد، كأنهما يشبهان ديهارت كما لو كانا توأمين متطابقين.
لكن عندما دققت النظر، تبين لها أن شعر الرجل لم يكن أسود بل بنياً عميقاً، وكان انطباعه ألطف وأكثر هدوءاً من ديهارت. وفوق ذلك، كان هناك فرق حاسم بينهما.
كان ينظر إليها طوال الوقت بعينين مبتسمتين.
“جئتُ لاستقبال الضيوف نيابة عن السيد واتس. هل يمكنني مساعدتك؟”
أضاء ضوء الفانوس وجه سيبيليا، فأدركت حينها أن الظلام قد عاد يغمر المكان من جديد. لقد اختفت البرق الأبيض الذي كان يطرز السماء منذ زمن، تاركاً وراءه فراغاً بلا أثر. نظرت سيبيليا إلى ديهارت الذي فقد وعيه، ثم أومأت برأسها.
“أرجوك، افعل.”
“إذن، للحظة فقط… هل يمكنكِ حمل هذا؟”
ناولها الرجل الفانوس ثم رفع دي هارت بسهولة ووضعه على كتفه. بدا أن قوته تفوق ما يوحي به جسده النحيل.
“إلى أي اتجاه يجب أن نذهب؟”
رفعت سيبيليا الفانوس، فغمرتهم جميعاً دائرة من الضوء البرتقالي. التفت الرجل إليها معبراً عن امتنانه.
“إذا هززتِ الفانوس مرتين، سينبعث ضوء يرشدك إلى الطريق. توجهي حيث يقودك.”
فعلت سيبيليا كما قال، فتشكلت خيوط من الضوء كالخيط المتشابك فوق الإضاءة الخافتة التي كانت تملأ المكان، شبيهة بالضوء الذي انبثق من مظروف الشهادة الطبية.
“إذن، هذا الضوء كان دوره أن يقودنا إلى مكان السيد واتس.”
عند تعجب سيبيليا، انحنت عينا الرجل اللطيفتان بابتسامة رقيقة.
“بالمناسبة، لم نتبادل الأسماء بعد. أنا كاردي، أعيش مع واتس وأساعده في أبحاثه.”
كان صوته ناعماً يبعث الطمأنينة في النفس. لكن سيبيليا شعرت بشيء غريب منعها من الرد بسهولة. كان الأمر كما لو أنها تواجه ديهارت يتظاهر بأنه شخص آخر.
“كيف يمكن أن يكون الشبه بينهما بهذا الحد؟”
كان هناك شيء لا يستقيم في الأمر.
صحيح أن العينين الذهبيتين هما سمة عائلة إنفيرنيس، لكنهما لم يكونا حكراً عليهم فقط. ففي الشمال، كان هناك من يمتلكون عيوناً صفراء مشوبة بالذهب. لكن…
نظرت سيبيليا إلى كاردي الذي كان يراقبها بعينين ودودتين، وابتلعت سؤالاً كاد يفلت منها.
“هل يمكن أن يكون هذا الرجل من عائلة إنفيرنيس؟”
إذا كان من فرع جانبي للعائلة، فقد يكون هناك رابط دم يفسر هذا الشبه المذهل. لكن سؤاله في لقاء أول كان يعد وقاحة، فضلاً عن أنه ليس من شأنها أن تعرف. كبحت فضولها المتصاعد وفتحت فمها أخيراً.
“نادني بيلا.”
لم تستطع أن تذكر اسمها الحقيقي، سيبيليا. ذلك الاسم الذي تخلت عنه وتركته خلفها. أخفت مرارة شعورها وخطت خطوة إلى الأمام. قادها الضوء المرشد عبر الغابة المظلمة. وهكذا، سار الثلاثة في صمت متوتر، يتقاسمون أنفاسهم.
ثم فجأة، قطع كاردي الصمت.
“الذين يبحثون عن واتس عادة ما يكونون من نوعين.”
فغرت سيبيليا عينيها ونظرت إليه متفاجئة ببداية الحديث المفاجئة. واصل كاردي كلامه وهو يسير خلف الضوء.
“إما يائسون، وإما متعجرفون.”
“أفهم معنى اليأس، لكن من تقصد بالنوع الآخر؟”
كان واتس رائداً في دراسة الأمراض النادرة والمستعصية وتطوير علاجاتها. لذا كان من المنطقي أن يلجأ إليه شخص يعاني مرضاً نادراً في حالة يأس. لكن المتعجرفون؟ ما المقصود بذلك؟
لم يطل انتظارها للحصول على الجواب.
“أولئك الذين يعتقدون أن الموت نفسه يجب أن يخضع لهم. يغضبون ويتساءلون كيف يجرؤ شيء بهذا السخف على الاقتراب منهم. في الحقيقة، الذين يأتون إلى واتس بدافع الغطرسة أكثر عدداً من اليائسين.”
“هل هناك مثل هؤلاء…”
“والأكثر من ذلك، أن هؤلاء ينظرون إلى واتس كخادم وليس كطبيب. شخص يجب أن يتعاون معهم ليعيدوا حياتهم إلى طبيعتها الهادئة، خادم ملزم بخدمتهم.”
أضاف كاردي بنبرة لطيفة:
“لهذا السبب تم إعداد تلك الفخاخ لهذا الشاب المسكين. إن إظهار أسوأ الحقائق التي يرفضها المتعجرفون دون وعي هو أكثر الطرق فعالية.”
ثم أردف أن ذلك قد يعني رؤية أنفسهم وهم يموتون ببؤس، أو مشاهدة أحبائهم يفارقون الحياة أمام أعينهم دون حول أو قوة.
“عندها يصبحون أكثر ليونة قليلاً. وإن كان هناك من يتمسكون بكبريائهم حتى النهاية.”
“آه.”
أطلقت سيبيليا تنهيدة متفهمة. لهذا كان هناك الكثيرون يهرعون خارجين وهم يبكون ويصرخون. وبالنسبة لدي هارت، كان أسوأ كابوس له هو رؤيتها تموت أمام عينيه…
“كفى، لا داعي للتفكير في ذلك.”
حولت نظرها عمداً إلى جانب وجه كاردي. من هذه الزاوية، لم يعد يشبه دي هارت كثيراً. بل إنه، على عكس دي هارت، كان يشرح أموراً لم تسأل عنها، مما يدل على عمق تعاطفه.
ألقت نظرة سريعة على دي هارت المعلق على كتف كاردي كحمل ثقيل، ثم أشاحت بنظرها. لم يكن قد جاء إلى هنا بحثاً عن واتس، لكن تصرفاته هي التي قيدته في النهاية.
“حتى الموت يجب أن يخضع أمامه.”
كان هذا الوصف ينطبق على حال دي هارت بطريقة ما. في تلك اللحظة التي تقابلت عيناهما في الساحة، أدركت سيبيليا بوضوح أنه لم يتقبل موتها أبداً.
“وإلا…”
كيف استطاع أن يركض نحوها دون تردد؟ لو كان شخصاً عادياً، لصُدم وارتبك عند رؤية من ظن أنه مات.
لكنه لم يتفاجأ، ولم يبدُ عليه أي ارتباك. اندفع نحوها كما لو كان ينتظر تلك اللحظة، كوحش جائع ينقض على فريسته.
فركت سيبيليا ذراعها التي انتابتها القشعريرة تلقائياً. تلك اللحظة المرعبة، حتى تذكرها الآن جعل قلبها يهوي في صدرها.
“كل تلك الجهود لتزييف جثتي وإقامة جنازة ذهبت سدى.”
الإنسان لا يتراجع بسهولة عما دفنه في قلبه وأقر به كحقيقة. والموت كذلك. الجنازة في جوهرها كانت لأجل الأحياء.
طقس يدفن الراحل في الماضي ويجبر الأحياء على قبول موته. هذا هو معناها ودورها.
لكن دي هارت، حتى بعد أن أقام جنازتها بنفسه، لم يكن قد تقبل موتها في قرارة نفسه. لم تصدق سيبيليا ذلك بعد، وشعرت بالذهول. كيف يمكن لإنسان أن يتربى ليفكر بهذه الطريقة؟
“هل هناك من يستحق وصف المتعجرف أكثر منه؟”
كبرياء عالٍ، غطرسة لا تلين، برود يليق بزعيم إنفيرنيس الذي يقود الشمال. كان هناك وقت بدت فيه هذه الأوصاف رومانسية. كان ذلك الرجل المتغطرس يظهر لها وحدها جانباً ألطف قليلاً. لكن…
[“لو تذكرتِ تحذيري بمعرفة حدودك، لما حدث هذا.”]
عندما وجه طباعه الحادة نحوها، أدركت سيبيليا مدى رعبه وقسوته.
[“أجئتِ مرة أخرى لاستخلاص معلومات لصالح عائلتك؟ حسنٌ، ليس لديكِ سبب آخر للبحث عني.”]
كلماته الحادة كالسيف المسنون طعنت قلبها مجدداً. حكمه، بصيرته، قراراته، كلها كانت تخدمه هو فقط. نعم، كيف نسيت؟ غطرسته كانت دائماً تعمل لمصلحته وحده.
لم يتقبل موتها لهذا السبب بالذات. شعرت سيبيليا أن شكوكها تتحول إلى يقين.
“ها.”
تسربت تنهيدة خافتة من شفتيها، نفس بارد كريح الشمال.
“لا شيء أثمن للمتعجرفين من إجبارهم على مواجهة الحقائق التي يرفضونها.”
كان صوتها خالياً من التقلبات، بعيداً كالصدى. ضحك كاردي بخفوت عند سماع كلماتها.
“ما تقولينه صحيح، يا ضيفتنا.”
استمر الضوء المرشد في قيادتهم ببطء، ممداً ذيله الرفيع. كان ديهارت يتململ أحياناً، لكن قبضة كاردي كانت قوية بما يكفي لتهدئته.
“آه، هل ترين ذلك السقف الأخضر هناك؟”
حين نظرت إلى حيث أشار كاردي، رأت شيئاً أبيض باهتاً يظهر بين الأشجار الطويلة. بعد تركيز أكبر، تبين لها أنه منزل من ثلاثة طوابق. بدا نظيفاً ومحافظ عليه جيداً، لا يوحي بأنه بيت منعزل في غابة.
“لم نستقبل ضيوفاً منذ زمن، لذا قد تكون الضيافة ناقصة، أرجو المعذرة.”
فتح كاردي الباب الأمامي بابتسامة، وتبعته سيبيليا بحذر.
لم يكن التصميم الداخلي يوحي بأنه معمل لعالم بارز في الأمراض النادرة. مدفأة تحترق فيها الحطب، ووسائد مريحة متناثرة هنا وهناك. كان المكان أشبه ببيت جدة تنتظر أحفادها، لا منزل طبيب.
لكن في اللحظة التالية، تحطمت أفكارها.
“سأربط هذا المريض في الطابق العلوي.”
“…ماذا؟”
شعر كاردي باضطرابها، فطمأنها قائلاً:
“لا تقلقي. لقد رأيت كيف كان يعبث بالغابة كالمجنون، يبدو أنه شخصية عنيفة. لكنه لن يفعل شيئاً أمامي. لدي سرير مجهز بإطار من الحديد الأسود لهؤلاء المرضى بالذات.”
“…”
نظر كاردي إلى سيبيليا التي كانت تحدق فيه مذهولة، ثم أنهى كلامه بنبرة واثقة:
“سأربطه بحيث لا يستطيع الحراك، فاطمئني وانتظري واتس هنا.”
“…حسناً.”
حمل كاردي دي هارت ككيس على كتفه واختفى إلى الطابق العلوي. وبعد ساعات، تمكنت سيبيليا من لقاء واتس، بينما استيقظ ديهارت متأخراً.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
فصول متقدمة على قناتي في التيلغرام رابطها في حسابي عالانستا اليوزر: annastazia__9
التعليقات لهذا الفصل " 37"