قضى غراي أيامًا معدودة بجوار مارثا، لكنّ روحه التي اعتادت على همس الريح في ساحات التدريب، بدأت تتململ. بعد ثلاثة أيام، استبد به الشوق إلى استعادة تلك اللحظات الصامتة بينه وبين قواه. هزّت مارثا رأسها بابتسامةٍ حانية عندما رأت هذا اللهيب يتوقد في عينيه، كأمٍّ تعرف أنّ عصفورها الصغير يحنّ إلى التحليق.
كانت تعلم أنّه لن يجد السلوى في البقاء هكذا دون أن يلامس جوهر وجوده. لحسن الحظ، لم يعد إلى انغماسه الكامل في التدريب كما كان يفعل سابقًا. كان يكتفي ببضع ساعات يقضيها في استعادة الوئام مع العناصر، ثم يعود إلى دفء العش، كزهرةٍ تتفتح وتعود لتنطوي في المساء.
في إحدى عوداته من معبد قواه في الغابة، اعترض طريقه شبحٌ من الماضي، ممثل أكاديمية النجوم، كظلٍّ يلاحق ضوء النهار.
قال الممثل بنبرةٍ تحمل إصرارًا خفيًا: “ما زال بإمكانك تغيير رأيك، كما تعلم”.
أجابه غراي بأدبٍ جمٍّ يحمل في طياته تصميمًا راسخًا: “لقد حسمت أمري بالفعل. شكرًا لك على دعوتك الكريمة على أي حال”. أراد غراي أن يمضي في طريقه، لكنّ هذا الظلّ عاود الظهور ليحول بينه وبين خطواته، كعقبةٍ تعترض سبيل مسافر.
قال الممثل بغرورٍ مصطنع: “أكاديمية القمر ليست حتى في مصافّ الثلاثة الأوائل من حيث القوة. لقد بسطنا نفوذنا على أرجاء الإمبراطورية لسنواتٍ طويلة”.
كان غراي يعلم أنّ كلماته تحمل بعض الحقيقة، لكنّ قلبه لم يعبأ بتلك الموازين الدنيوية. لقد انجذب إلى نقاء تعامل السينير كريس، وهذا بدوره زرع في داخله انطباعًا طيبًا عن أكاديمية القمر، كمن يرى بصيص نورٍ في عتمة الليل.
لم يكن غراي يومًا من أصحاب الأنفس المتغطرسة، وقد تعلم الكثير خلال السنوات الأربع التي قضاها في انتظار صحوة قواه. لقد اكتسب فهمًا أعمق لتعقيدات الروح البشرية، كمن صقلته نار الانتظار.
قال الممثل ببرودٍ قبل أن ينصرف، وكأنّه يلقي لعنةً في الهواء: “ستندم على هذا الاختيار”.
نظر إليه غراي بعينين تحملان برودة الشتاء، لم يكن يطيقه. لحسن حظه، لن يراه بعد أن تطأ قدماه أسوار أكاديمية القمر، كمن يتخلص من قيدٍ ثقيل.
عاد غراي إلى منزله واستأنف روتينه الهادئ. قضى معظم وقته بجوار مارثا، ثمّ كان يلوذ بظل الغابة ليستعيد وحدته مع قواه. زار أيضًا جبل البرق مرةً أخرى، مستشعرًا ذلك الدفق الفريد الذي يمنحه إياه، كمن يستعيد ذكرىً عزيزةً تلامس شغاف قلبه.
همس غراي في داخله: “يا له من مكانٍ ساحر، أتمنى أن أجد ركنًا كهذا في الأكاديمية”. لقد أحب ذلك الشعور العميق بالسلام الذي يغمره كلما جاء إلى هنا للتأمل، كمن يجد واحةً هادئةً في صحراء الروح.
يزرع أصحاب العناصر قواهم عبر التأمل العميق، محاولين استدعاء جزيئات العناصر التي ينتمون إليها إلى داخل أجسادهم. ثمّ يقومون بتنقية هذه الجزيئات لتصبح جزءًا أصيلًا من كيانهم. يركز مستوى التجميع على استقطاب هذه الجزيئات ودمجها في نسيج الجسد، كمن يبني بيتًا حجرًا حجرًا.
بعد تجميع قدرٍ معين من هذه الجزيئات، تبدأ مرحلة الاندماج، حيث تتحد هذه القوى لتشكل نواة القوة الداخلية. سمع غراي أنّ جوناس قد اخترق بالفعل إلى مستوى الأركان، وهو نفس المستوى الذي يتربع عليه عمدة المدينة الحمراء، كمن سبق بخطواتٍ في سباق القوة.
كان غراي يتوق لبدء رحلته في عالم الزراعة الروحية، مجرد التفكير في الأمر كان يشعل حماسةً في روحه، كمن يستعد للانطلاق في مغامرةٍ طال انتظارها. أعدّ غراي نفسه لرحلته، وقريبًا لم يبقَ سوى يوم واحد قبل أن يودع مهده الصغير. كان السينير كريس يقيم في نزلٍ في المدينة، لذا فإنّ الوصول إليه لن يكون عائقًا، كان غراي على يقين أنّه لن يحتاج حتى للبحث عنه، كأنّ القدر سيقوده إليه.
في العادة، لم يكن الممثل ليسأل عن موعد مغادرته. كان سيخبره ببساطة أنّهم سينطلقون قريبًا، كأمرٍ مفروغٍ منه.
نادرًا ما يمكث أيّ ممثل أكثر من أربعة أيام في المدينة. لم يكونوا يحبون المجيء إلى هنا في المقام الأول، لذا كانوا دائمًا متذمرين إذا اضطروا للبقاء لفترة أطول، كطيورٍ حبيسةٍ تحنّ إلى السماء المفتوحة. لكن بسبب موهبة غراي النادرة، اضطر كريس للبقاء أسبوعًا كاملًا ليتمكن من تلبية رغباته، كدليلٍ صبورٍ يرافق كنزه الثمين. على الرغم من أنّه لم يكن يتملقه، إلا أنّه كان حريصًا على عدم إزعاجه، كمن يسير على حبلٍ رفيع بين الاحترام والود.
كان هذا أحد الأسباب التي جعلت غراي يكنّ له احترامًا أكبر. كان يعلم أنّه لو كان ممثلون آخرون، لكانوا قد حاولوا التملق إليه بشتى الطرق. هذا جعله أيضًا أكثر فضولًا بشأن أكاديمية القمر، كمن ينجذب إلى لغزٍ لم تُكشف أسراره بعد.
إذا لم تكن الأكاديمية كما وصفها الممثل، فسوف يشعر بخيبة أملٍ مريرة. على الرغم من أنّه لن يواجه صعوباتٍ كبيرة بصفته حامل عنصرين نادرًا، إلا أنّه كان سيحظى بمكانة مرموقة أينما حلّ. كانت القوة هي العملة الحقيقية في هذا العالم، والأفراد الموهوبون كانوا يحظون بتقديرٍ كبير، لأنّهم سيتحولون إلى قوى عظمى في المستقبل، طالما أنّ القدر لم يعاجلهم، كبذورٍ تحمل في طياتها غاباتٍ باسقة.
أخيرًا، حلّ يوم الرحيل المنتظر. شعرت مارثا بمزيجٍ من الحزن والفرح، كانت سعيدة لأنّ حلم غراي في النمو الروحي على وشك أن يتحقق، لكنّ قلبها انقبض حزنًا لفكرة بقائها وحيدة. فجأةً لاحت في ذهنها فكرةٌ واتخذت قرارًا سريعًا، كمن اهتدى إلى ضالته في لحظةٍ حاسمة.
سأل غراي بنبرةٍ تحمل دهشةً ممزوجةً بالأمل: “هل تعرفين مكان أبي؟”
قالت مارثا وهي تلامس وجنة غراي بحنانٍ أمومي: “في الواقع، كنت سأذهب معه لولاك يا بني. كنت أنت السبب الوحيد الذي يبقيني هنا. الآن وقد أوشكت على الذهاب إلى الأكاديمية، سأتمكن من الانطلاق بحرية دون أن أقلق عليك”.
فكر غراي في الأمر وشعر أنّه القرار الصائب. البقاء هنا لن يجلب لها السعادة، كطائرٍ لا يجد في قفصه ما يغريه بالبقاء.
سأل غراي: “إذًا، كيف سأجدكما؟” أراد أن يعرف مكانهما حتى يتمكن من الذهاب للقائهما بسهولة إذا أراد ذلك، كمن يسأل عن خريطة طريقٍ إلى كنزه.
طمأنت مارثا غراي بابتسامةٍ دافئة: “لا تقلق علينا الآن يا حبيبي. سأرسل لك رسالة عندما أصل إلى هناك. ركز على نموك الروحي الآن”. أرادت أن يكرس كل طاقته لرحلته الجديدة. لقد تأخر بالفعل، لذا فهو بحاجة إلى التركيز الكامل على تقدمه، كمتسابقٍ يسعى لتعويض تأخره عن الركب.
قال غراي بنبرةٍ قلقة: “حسنًا يا أمي، لكن لا تنسي أن ترسلي لي الرسالة، حتى لا أقلق عليك”. لقد مرّ وقت طويل جدًا منذ أن سمع عن والده، وإذا غابت والدته أيضًا، فسيكون الأمر مدمرًا بالنسبة له، كمن يفقد نجمتين في ليلةٍ حالكة.
جاء كريس بعد فترةٍ وجيزة وسأل بنبرةٍ ودودة: “غراي، هل أنت مستعد للانطلاق؟”
أجاب غراي ببساطة: “نعم”.
أجاب كريس قبل أن يخرج من المنزل متجهًا نحو بوابة المدينة: “حسنًا، تعال معي”.
عانق غراي مارثا عناقًا دافئًا قبل أن يخرج. وقف في الخارج ونظر إلى المنزل لبعض الوقت، مستعيدًا ذكريات طفولته، قبل أن يتبع خطوات كريس. عندما مروا عبر بوابات المدينة، شعر غراي فجأةً بحنينٍ غريب. لم يستطع إلا أن يلقي نظرةً أخيرة على المدينة التي احتضنته طوال حياته، كمن يودع جزءًا من روحه. عندما نظر إلى الوراء، رأى مارثا واقفةً ليست بعيدة عنه وعيناها تفيضان بالدموع، كقمرٍ يودع نجمه الصغير وهو ينطلق في رحلته.
كان فصلٌ جديدٌ من حياته على وشك أن يبدأ، كصفحةٍ بيضاء تنتظر أن تُروى عليها حكايات جديدة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات