سرى خبر عزم غراي على خوض الاختبار في أرجاء المدينة سريان اللهب في الهشيم، كأنّ همسةً تحولت إلى صدىً مدوٍّ. كان غراي، بشهرته “المميزة” كرجلٍ لم يستطع استدعاء عنصره، لغزًا يمشي بين الناس، علامة استفهامٍ تثير الفضول والسخرية على حدٍ سواء. لم يتوقع أحدٌ حقًا أن يتمسّك هذا الشاب بحلمه الواهي في إيقاظ قواه الروحية بعد كل تلك السنوات العجاف، كمن يزرع بذرةً في أرضٍ قاحلةٍ وينتظر معجزة الإزهار.
لقد طال الأمد، ومع ذلك، ظلّ غراي متمسّكًا بأمله، كشجرةٍ وحيدةٍ تصارع الرياح العاتية. نظر إليه البعض بشفقةٍ ممزوجةٍ بالازدراء، ورأوا فيه مهرجًا يسعى لإضحاكهم على يأسه. بينما تسلّل إلى قلوبٍ أخرى شعورٌ خفيٌّ بالترقّب، ربما، ربما تكمن المفاجأة في ثنايا هذا الإصرار العنيد.
الجميع، بقلوبٍ متلهّفةٍ كقلوب جمهورٍ ينتظر إسدال الستار عن فصلٍ مثير، كانوا يعدّون اللحظات حتى يحين موعد الاختبار القادم. كان المستقبل في ذلك اليوم محجوبًا بغلالةٍ من الغموض، لكنهم كانوا على يقينٍ بشيءٍ واحد: مشهدٌ فريدٌ سيُعرض أمام أعينهم، وكانوا جميعًا يتوقون لمشاهدة فصوله.
يكره الناس رتابة الحياة، وعندما يلوح في الأفق حدثٌ ما، مهما صغر شأنه، فإنّ وخزات الإثارة تدبّ في أوصالهم كتيارٍ خفيّ. لا يبالون إن كانت سعادتهم مبنيةً على تعاسة الآخرين، طالما أنّ شرارة المصيبة لا تطالهم، فإنّهم يستمتعون بدور المتفرّج.
لم تشهد المدينة حدثًا جللاً منذ صعود نجم جوناس وسقوط آمال غراي في ذلك الاختبار المشؤوم قبل ثلاث سنوات، كأنّ الزمن توقّف عند تلك اللحظة. وعلى الرغم من أنّ إعادة غراي للاختبار لم تكن حدثًا تاريخيًا، إلا أنها على الأقل ستمنحهم مادةً دسمةً للحديث والتكهنات لبعض الوقت، كوجبةٍ شهيةٍ تُنسي مرارة الأيام الروتينية، بغض النظر عن النتيجة النهائية.
استأنف غراي تدريبه المضني، لكن هذه المرة، كان كل تركيزه مصبوبًا في محاولة فهم لغة عنصر البرق، تلك الشفرة المتوهّجة التي تكمن في أعماق روحه، كباحثٍ ينقّب عن سرٍ دفين. قبل أن يبدأ، كان يعلم أنّ الطريق سيكون شاقًا، كصعود جبلٍ شاهقٍ تغطّيه الثلوج. والآن، كان يلعن في سره ذلك الرجل الذي لم يوضّح له مدى قسوة هذا المسعى، كمن يكتشف فجأةً أنّ الخريطة التي بين يديه تقوده إلى متاهةٍ لا نهاية لها.
في الواقع، لقد أوضح الرجل الأمر بوضوحٍ تام، لكن ذهن غراي كان حينها يحلق في سماء النشوة، فلم يستوعب كلمات التحذير، كمن يستمع إلى لحنٍ عذبٍ ينسيه كلمات الأغنية. لم يتوقع الرجل أن يتذكر الشاب كل كلمةٍ قيلت له بدقة في تلك الحالة من الذهول، كمن يحاول الإمساك بفقاعةٍ صابونٍ وهي تطير في مهبّ الريح.
“تبًا! هذا ضربٌ من المستحيل! لقد درست هذا الأمر لوقتٍ طويل، ولا تزال لا توجد أي بارقة أمل!” شعر غراي بالإحباط يتسرّب إلى روحه كسمٍ بطيء، كمن يحاول عبثًا فتح بابٍ موصدٍ بمفتاحٍ خاطئ. من كان يظنّ أنّ الفهم سيكون بهذه القسوة؟ وما زاد الطين بلّة هو أنّ هذا كان العنصر الذي يتماشى مع طبيعته، فكيف ستكون العناصر الأخرى إذن؟ حسنًا، لم يكن يرغب حقًا في اكتشاف ذلك قريبًا، كمن يخشى فتح صندوقٍ قديمٍ لا يدري ما الذي سيخرج منه.
على مدى الأيام الثلاثة الماضية، كان غراي يتردّد على فضاء الفوضى، باحثًا عن مفتاح فهم عنصر البرق، لكن الأبواب ظلت موصدةً في وجهه، كمن يحاول التحدّث إلى صدى صوته. لقد حدّق فيه مطولًا لدرجة أنّه حتى عندما يغمض عينيه، كانت ومضات البرق ترقص أمام بصره كأشباحٍ ضوئيةٍ تعذّبه، كمن يرى السراب في قلب الصحراء.
غادر غراي فضاء الفوضى محاولًا تصفية ذهنه من تلك الصور المتوهّجة، كمن ينفض الغبار عن مرآةٍ صدئة. بدأ يفكر ببطءٍ في طبيعة البرق، في قوّته الجامحة وجماله الخاطف، كمن يتأمل لوحةً فنيةً غامضة. لكن بعد ساعةٍ كاملة، لم يحصد سوى خواء، كمن يبحث عن نجمةٍ في سماءٍ ملبّدةٍ بالغيوم. “هل سأضطر إلى إذلال نفسي أمام الجميع مرة أخرى؟” حتى مع إيقاظه لعنصر، كان بالفعل يتجاوز الوقت الذهبي للزراعة الروحية، كزهرةٍ تفتّحت متأخرةً في موسم الجفاف.
الشيء الوحيد الذي ربما كان قادرًا على مساعدته هو عنصره النادر، لكنه لم يرغب في ذلك، كمن يملك جوهرةً ثمينةً لكنّه يفضّل البحث عن حصاةٍ لامعة. كان يريد دخول الأكاديمية بمركزٍ مرموق، وموهبةٍ واعدة، وبكبرياءٍ يملأ صدره، كفارسٍ يدخل ساحة النزال برأسٍ مرفوع. كيف سيشعر الطلاب إذا كان شخص يمكن وصفه بالمتأخر في النمو لا يزال يتمتع بموهبةٍ متواضعة؟ سيصبح أضحوكةً مرة أخرى، كقصةٍ مملةٍ تُعاد حكايتها على مسامع الجميع.
هدأ غراي من روعه، كان لا يزال لديه وقت، كفنانٍ لديه متّسعٌ من الوقت لإكمال تحفته. لا داعي للتفكير في كل هذه الهواجس الآن، كمن يرمي بأعباء الماضي خلف ظهره. لم يكن يريد أي شيء يثبط عزيمته، لذا كان طرد الأفكار السلبية هو الخيار الأمثل، كإزالة الأعشاب الضارة من حديقة الروح. قد يكون الأمر صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا، كمن يتسلّق جبلًا وعرًا بعزيمةٍ لا تلين.
كانت مارثا أقل قلقًا بشأن غراي منذ أن علمت أنّه أيقظ عنصرًا، حتى لو كانت موهبته ضعيفة، فإنّ تلك القدرة الفريدة التي يمتلكها كانت بمثابة ورقةٍ رابحةٍ مخبّأةٍ في كُمّه. كانت تعلم أنّه طالما عقد غراي العزم على شيءٍ ما، فإنّه سينجح بالتأكيد، كتيار ماءٍ يشقّ طريقه بثباتٍ نحو البحر. كانت تعرف مدى عناده عندما يريد شيئًا ما، وعرفت أيضًا مدى رغبة غراي الشديدة في تحقيق هذا الهدف، كمن يتشبّث بحلمٍ عزيزٍ على قلبه.
أثار القلائل المقربون منها موضوع رغبة غراي في إعادة الاختبار، بل ونصحها البعض بحذرٍ شديد بعدم السماح له بذلك. شعروا أنّه إذا تكرّرت النتيجة المخيبة للآمال، فقد ينهار غراي حقًا، كزجاجٍ هشٍّ يتحطّم عند أوّل صدمة. لقد كانت سنواتٌ صعبةٌ عليه، وإذا أظهر الاختبار مرة أخرى نفس النتيجة بأنه لا يمتلك أي تقارب، فإنّ العواقب ستكون أسوأ من المرة الأولى، كجرحٍ قديمٍ ينزف من جديد.
أخبرتهم جميعًا أنّ القرار ليس قرارها، وأنّ غراي لم يعد طفلاً، كطائرٍ تعلّم الطيران ويستطيع اختيار مساره. يمكنه اتخاذ بعض القرارات بنفسه الآن، وبما أنّه قال إنّه يريد إعادة الاختبار، فمن المؤكد أنّ لديه أسبابه الخاصة. وقد أكّد لها أنّه بغض النظر عن النتيجة، فلن تؤثر عليه كثيرًا، كصخرةٍ صلبةٍ لا تهزّها الرياح.
نظروا إليها وشعروا أنّها متسرّعةٌ مثل طفلها، كأمٍ تثق بخطوات ابنها مهما كانت وعرة. حتى أنّ البعض غادروا غاضبين ظانّين أنّها لا تريد سماع نصائحهم الصادقة، كمن يقدّم هديةً ثمينةً تُرفض بلا اكتراث. لم تحاول مارثا إيقافهم، كانت تعلم أنّهم يريدون مصلحتها، لكنهم سيفهمون بالتأكيد عندما يحين الوقت، كقطع الشطرنج التي ستكشف عن حركتها الحاسمة في الوقت المناسب.
رأت مدى صعوبة محاولة غراي فهم العنصر، حتى يتمكن من زيادة موهبته، كطالب علمٍ يجتهد في فهم معادلةٍ معقّدة. وبغض النظر عن كل شيء، كانت سعيدةً حقًا لرؤية مدى اجتهاد غراي، كبستانيٍّ يرى بذوره تنبت وتشقّ طريقها نحو النور.
على العشاء، أخبرها غراي عن مدى صعوبة فهمه للعنصر، كمن يحاول فكّ لغزٍ قديمٍ نُقشت حروفه على جدران الزمن.
“ألا تتوقع أن تحقق النجاح من أول وهلةٍ يا بني؟ كل شيء يستغرق وقتًا ومثابرة، لا أحد يستيقظ ليصبح نجمًا بين عشية وضحاها، كشجرة بلوطٍ تنمو ببطءٍ على مرّ العصور. قد تكون موهوبًا ولكن كسولًا، وشخصٌ يتمتع بموهبةٍ متوسطةٍ سيتفوّق عليك بالتأكيد إذا كان مجتهدًا، كسلحفاةٍ تسبق أرنبًا في نهاية المطاف. اسعَ لتكون أفضل ما يمكنك أن تكون، ولا تقارن نفسك بالآخرين أبدًا، فكلّ زهرةٍ لها عطرها الخاص وجمالها الفريد. وراء كل فردٍ ناجح، أيامٌ لا حصر لها من العمل الجاد الخالص، كجبلٍ جليديٍّ يظهر قمّته فقط بينما يخفي تحته كتلةً هائلةً من الجليد. تذكّر هذا، الناس لا يهتمون بالمعركة، فقط بالنتيجة، كجمهورٍ يشاهد نهاية المسرحية ناسياً كلّ الفصول التي سبقتها”. نصحته مارثا بلطفٍ وحنان، كضوءٍ خافتٍ يرشده في عتمة الليل.
كانت تعلم أنّ ما يحتاجه غراي الآن هو الوقت، ومع الوقت، يمكنه تحقيق كل شيء، كبذرةٍ تحتاج إلى موسمٍ كاملٍ لتزهر وتثمر. لذلك أرادت التأكد من أنّه لا يستعجل عند القيام بالأشياء خشية أن يرتكب خطأ، كطاهٍ يتقن وصفةً سريةً ببطءٍ وتأنٍ.
نظر غراي إلى والدته لفترةٍ طويلة، وتردّدت كلماتها في رأسه باستمرار، كصدى حكمةٍ عميقةٍ تنبع من قلبٍ محبّ. في بعض الأحيان، شعر أنّ والدته كانت حكيمةً للغاية بالنسبة لعمرها، كروحٍ عجوزٍ تسكن جسدًا شابًا. لكنه لم يقل ذلك بصوتٍ عالٍ أبدًا، كان يعرف مدى شراستها عندما يتعلّق الأمر بحماية من تحبّ، كلبوةٍ تحرس شبلها. كانت هناك مرةٌ جمّدت فيها والده لأنهما كانا يتشاجران، كقوةٍ طبيعيةٍ توقف الزمن عند حدود غضبها.
(مارثا هي مستخدمةٌ لعنصر الماء، لذا لديها أيضًا القدرة على تجميد الأشياء، كملكةٍ جليديةٍ تملك زمام الشتاء).
لم تخبره أبدًا بدرجتها أو درجة موهبتها، لكنه كان يعلم أنّها بالتأكيد ليست أقل من الأرجواني، بل قد تكون أعلى، ككنزٍ مخفيٍّ قيمته لا تُقدّر. لكنه بالتأكيد كان يخشاها، حسنًا، الخوف ليس الكلمة الصحيحة حقًا، كان يفضل استخدام مصطلح “الاحترام العميق”، كاحترام قوة الطبيعة التي لا تُستهان بها.
لم يحاول غراي أبدًا إزعاجها، لأنها ببساطة كانت تجمد ساقيه على الأرض، ووفقًا لها، “تدربه” على هواها، كطائرٍ أسيرٍ لا يملك فرصةً للفرار من قفصه الذهبي.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات