الحلقة مئة واربع وثلاثون.
لم أستطع معرفة معنى نقض العهد، لكنني أدركت أنّه لن يكون أبدًا لمصلحة السير بيناديل.
رفع الملك يده اليمنى بسرعة إلى مستوى وجهه.
تصفيق، تصفيق.
وبإشارة من يده، دقّ حراس القاعة الملكية الأرض برماحهم مرتين.
لكن التهديد لم يتوقف عند هذا الحد.
يد الملك بدأت تهوي ببطء، كما لو كانت شفرة مقصلة…
“جلالتك…”
اهتز الجو المتجمد بصوت هادئ، دافئ، ملأ المكان بالطمأنينة.
“الدوق بالواستين لم ينقض العهد.”
وقف ولي العهد بخطواته المعتادة المتزنة أمام اللورد بيناديل، مبتسمًا، ينظر إلى الملك بابتسامة ودودة.
“ألستم قد أوكلتم إليّ مسألة خطوبة العائلتين؟ لكن بما أنّ الأمور قد انقلبت فجأة، استدعيت دوق بالواستين إلى العاصمة لأستفسر عن الملابسات.”
استدعيت.
فور سماعي لهذا التعبير، شعرت على الفور أنّ مزاج الملك قد تلطّف قليلاً.
ثم جاء صوته، الحنون كما أتذكره في ذكريات بليندا.
“ميخائيل، كيف ستدير شؤون المملكة بقلب ضعيف كهذا؟”
“أعتذر لإزعاجك.”
أمسك ولي العهد بالتاج المتساقط على الأرض ووضعه برفق على رأسي، كما لو كان يعلق معطفًا على شماعة.
“جلالتك، هل لنُنهي مراسم التنصيب عند هذا الحد ونستعد لحفل الربيع الذي سيقام مساءً؟”
حول ولي العهد انتباه الملك بسلاسة، وأشار للخدم لطرد النبلاء المشاركين في الحفل.
ارتبك النبلاء المطرودون، يحدقون بي وكأنهم يطلبون تفسيرًا، لكن من كان الأكثر حيرةً في هذا المشهد كنت أنا.
ومع ذلك، كان هناك أمر واحد مؤكد…
“حضرة الدوق، ماركيزة بلانش، يطلب سموّ ولي العهد حضوركما إلى غرفة الضيوف.”
“حضرة… الدوق؟”
أيقنت أنّ السير بيناديل قد خدعني.
نظرت إلى السير بجانبي؛ كان لأول مرة بدون قناع، لكن لم أستطع قراءة أي شيء على وجهه لأول مرة.
“قل الحقيقة بِلسانك، هل هذا صحيح؟”
كان صوته جافًا، مثل الرمال الناشفة.
“…صحيح، لكن لم أكن أنوي خداعك منذ البداية….فقط…”
“لقد قدمت نفسك باسم بيناديل، والآن تقول إنك لم تنو خداعي؟”
“…أعتذر.”
ذلك الرجل الذي ظلّ ثابتًا كالصخر امام غضب الملك… بدأت ملامحه تتصدع لأول مرة.
كان بأمكاني أن أقدّر ثقل ذلك الأعتذار.
عرفته بما فيه الكفاية لأدرك طبيعة مأساته.
“إنه جبان… رجل يخشى قول الحقيقة رغم معرفته بخطئه.”
كان يتألم أكثر من أي شخص آخر بسبب خداعه للآخرين.
“هل يمكنكِ أن تمنحيني بعض الوقت بعد مراسم التنصيب لأبوح لك بالحقيقة؟”
لقد حاول أن يقول لي الحقيقة.
“وفق لشروط العقد، سأتولى حراستك أثناء إقامتك في العاصمة، لا أرتاح لبقية الفرسان.”
ربما كان سبب استمرار بالكذب يعود لطمعي الذي أظهرته أثناء عقد الأتفاق منذ البداية.
“لطالما ظننت نفسي شخصًا عقلانيًا، ولهذا أستطيع فهم سبب عدم قدرته على قول الحقيقة طوال الوقت.”
نعم، كنت أستطيع أن أفهمه تمامًا.
هو من تجرء على الوقوف أمام الملك لحمايتي.
فكم من السهل أن أغض الطرف عن أكاذيبه.
حلّلت رباط شعري الأبيض، فأنساب شعري الحريري إلى يدي، والتفت رباط الشعر حول يدي.
مسحت الدم على خد اللورد بيناديل بلطف باستخدام جانب الرباط النظيف، ثم تحدثت.
” هذا غريب، أفهمك، لكن لا أستطيع مسامحتك.”
اعتقدت أنّني سأتمكن من مسامحته، لكن غضبًا ضائعًا اجتاح داخلي.
اهتزت عيناه بقلق، وسقط رباط الشعر على الأرض.
نظرت إليه، وقلت بصوت جاف.
“أحتاج لبعض الوقت للتفكير، وخلاله، ليس عليك… لا، ليس على سموّك أن تحميني.”
***
كان ميخائيل يشعر بالقلق من أن تتحمل بليندا وحدها غضب الملك خلال مراسم التنصيب، لذا طلب من سيزار حضور الحفل لتخفيف حدة غضب الملك.
اعتقد أنّ تقاسم المسؤولية سيقلل من غضب الملك تجاه أي شخص.
لكن قبل أن يعلن ميخائيل استدعاء الدوق بالواستين، تقدم سيزار لحماية بليندا، فواجه الدوق الغضب وحده.
بفضل كذب ميخائيل، لم يتعرض سيزار لغضب شديد، لكن الملك أصدر أمرًا يمنع جميع فرسان الشمال من دخول العاصمة لمدة عام.
وهذا يشمل سيزار نفسه.
حتى مع اقتراب الفراق المفاجئ أو المخطط له، لم تتمكن بليندا من تحديد مشاعرها بسهولة.
كانت لا تزال غاضبة من سيزار، لكن ليس بسبب خيانته، بل لأنها أدركت أنه لا يستطيع البقاء إلى جانبها.
في ليلة مظلمة، وقفت بليندا على شرفة غرفتها، تحدق في حديقة الأزهار التي أشعلها ليو بسحره.
كانت السماء مظلمة بلا قمر، الليل قاتم وصامت. حتى لو خرج سيزار إلى شرفته، لما كان بالإمكان رؤية وجوه بعضهما البعض.
تحدثت بليندا عن الزائر الذي جاء إلى المنزل نهارًا، محاولة تهدئة قلبها المترنح.
“جاء رسول من العائلة الملكية إلى القصر… سيغادر العاصمة قريبًا.”
لم يرد سيزار، لكنها تابعت.
“سمعت أن حكام الشمال لا يغادرون أرض الشمال، هذه المرة، ستفعل الشيء نفسه، أليس كذلك؟”
لم يظهر دوق الشمال في العاصمة من قبل، وأصبح واضحًا أنّه بعد رفض بليندا للزواج، سيغادر قبل وصول أوفيليا، ولن يعود أبدًا.
كانت بليندا غير راغبة في مواصلة الحديث، وكانت على وشك دخول غرفتها حين سمعته يسأل.
“هل يمكنني الاقتراب؟”
أومأت بلا وعي، ليظهر بعد لحظه ظله بشكل خافت. لو لم تسمح بليندا، لما تجاوز سيزار سور الشرفة.
“آنسة بلانش.”
” انا مُتعبة، تحدث بإيجاز.”
ردت بلا مبالاة، لكنها توقفت عند قوله..
“إذا سمحتِ لي، أريد العودة إلى جانبك في ربيع العام القادم.”
“لكن… هل هذا ممكن؟ أنت… سيد الشمال.”
هل يمكنه مغادرة الشمال؟ هل ستسمح العائلة المالكة بزيارته؟
ابتعدت كل المخاوف عندما تابع..
“إذا سمحتِ لي، سأعود، بل، سأعود بالتأكيد.”
ضحكت بليندا بخفة، وشعرت أنها قد تستطيع أخيرًا أن تسامحه. وأدركت سبب غضبها طوال هذا الوقت.. ليس لخيانته، بل لأنه أصبح شخصًا لا يمكن أن يبقى بجانبها.
ومع تلاشي الغيوم، انكشف ضوء القمر.
حدقت بليندا في وجهه العاري من القناع وسألته..
“دوق، لماذا لم تخبرني بهويتك الحقيقية منذ البداية؟”
رد بسرعة، بعد أن طال تفكيره في هذا السؤال…
“لأنني لو كشفت هويتي، لما استطعت البقاء بجانبك.”
“سأسألك شيئًا آخر.”
“اسألي.”
“لماذا من المهم لك أن تبقى بجانبي؟”
في تلك اللحظة، اهتزّ نظر سيزار، لأول مرة منذ البداية.
التعليقات لهذا الفصل " 134"