الحلقة مئة و واحد وثلاثون.
شعرت كأنني أستمع إلى لغة غريبة لا أفهمها، فلم أستطع الرد على الفور.
السعادة، حقًا…؟
لقد مضى زمن طويل منذ أن توقفت عن جعل السعادة هدفًا في الحياة.
كنت فقط… أعيش لأجل البقاء، لا أكثر، في حياتي السابقة، وفي هذه الحياة أيضًا.
أمسكت بكفّ ليو الصغير المتململ بين يدي كما لو كان سمكة استوائية تتحرك بخفة في راحتي، وقبضت عليها بإحكام.
كان وهج الغروب قد اشتد، لينفذ بنعومة إلى أعماق قلبي…ذاك المكان الذي ظننت أنه لن يتسلل إليه النور يومًا.
وهناك، أدركت أن الظلام الخاوي لم يكن كل ما يسكنه.
بل كانت هناك شتلة صغيرة، خضراء مورقة، قد رسّخت جذورها عميقًا.
عندها فقط، أدركت.
أن الأشهر الستة التي قضيتها هنا، لم تكن مجرّد حياة لأجل النجاة.
بل كانت كافية لأن تنبت في داخلي خضرة بهذا الجمال…!
“طبعًا، منذ اللحظة التي التقيتك بها، وحتى الآن… لم يمر عليّ لحظة واحدة لم أكن فيها سعيدة.”
أدركت أن تلك الأيام الماضية، كانت حقًا… مليئة بالسعادة.
وانفرج وجه ليو المتوتر أخيرًا.
ثم شدّ قبضته الصغيرة داخل راحتي، كمن استجمع شجاعته فجأة.
“إذًا… أريد أن أستخدم بطاقة أمنيتي التي ادخرتها من قبل!”
بطاقة أمنية؟
بعد لحظة، تذكرت الجائزة التي فاز بها في مسابقة الطهي التي أُقيمت في القصر.
“أخبرني، ما هي أمنيتك؟ سأحققها، أيًا كانت.”
“أمنيتي… أن تصبحي عائلتي، يا آنسة بليندا!”
رغم أن الضوء كان يخبو تدريجيًا في الأفق، إلا أن عيني ليو بقيتا تتلألآن كما لو كانتا تختزلان ضوء النجوم.
“لا أريد منكِ شيئًا… فقط، فقط أن تبقي كما أنتِ الآن، منزلي وسعادتي.”
كلماته جعلت صدري ينقبض بقوة، واندفعت موجة من المشاعر تغمرني من الداخل.
ما زلت راشدة ناقصة… وقد أرتكب أخطاء لا يمكن إصلاحها وأنا أربي ليو… ربما…
لكن…
“إن كان هذا الطفل يشعر بالسعادة لمجرد وجودي إلى جانبه، فممَ أخاف؟”
وما إن استقر هذا الفكر في ذهني، حتى ظهرت نافذة نظام لم أتوقعها.
[تم رفع مستوى الألفة بين “الوصية المؤقتة” و”النجم البطل” بمقدار +1.]
“لماذا ظهرت الآن فجأة؟”
ثم انتبهت… أن مستوى الألفة هذا، لم يكن مجرد انعكاس لمشاعر ليو تجاهي.
ما كان ينقص علاقتنا… كان قلبي أنا.
جُبني، الذي ظل يتحجج بجراح الماضي، فبقي على مسافة خطوتين من هذا الطفل دائمًا.
ومع ذلك، ليو كان دومًا هنا، إلى جانبي.
لم أتمالك نفسي أكثر، وعانقته بشدة.
وانساب ليو إلى أحضاني كما لو أنه معتاد على أن يُحَب… كأن الحب هو بيته.
ربما الآن فقط، بدأت أُدرك ما كان يشعر به عمي في اليوم الذي تبناني فيه.
فكما فعل هو ذات يوم، أجبت هذا الطفل…
“شكرًا لك، لأنك أصبحتَ عائلتي.”
شعرت بذراعي ليو تشتدّان حول عنقي.
لم أكن أرى وجهه، لكن الدفء الذي انساب من جسده إلى صدري… كان كافيًا تمامًا.
ثم ظهرت نافذة نظام جديدة في ظلام الليل الحالك:
[تم رفع مستوى الألفة بين “الوصية المؤقتة” و”النجم البطل” بمقدار +1.]
[تهانينا! لقد بلغ مستوى الألفة 100 نقطة.]
[لقد حصلت على صلاحية استخدام “وثيقة التبني ذات القوة الخاصة”.]
هل السبب لون النافذة الوردي؟ لا أعلم…
لكن من خلفها، ظهرت شجرة الروزيل وكأنها بلغت ذروة ازدهارها، تستقبل الربيع بأبهى حُلله.
كما لو أن بليندا وليو، في لقائهما هذا، قد أصبحا عائلة بحق.
***
تلك الليلة، ولأول مرة منذ زمن، أُقيمت في غرفتي قلعة وسائد سرّية.
أضاء ليو القلعة بسحره، فغمرها ضوء دافئ وهادئ.
وطارت حولنا فراشتان من أحجار المانا السحرية، هدية من تشاشر، كأنهما يرقصان كيراعات وسط الظلام، يرسمان الظلال على جدران القماش.
كان ليو مستلقيًا على الأرض التي فُرشت بالوسائد، بانتظار أن أبدأ بقراءة قصة له.
فتحت الكتاب على ركبتي، وبدأت أستعرض صفحاته، كأنني أفتح فصلاً من ذاكرتي القديمة.
“كان هناك يومًا، طفل فقد عائلته في سن صغيرة… طفل من عامة الشعب، لحسن الحظ، لم ينتهِ به المطاف في دار الأيتام، بل استضافه أحد أقاربه.”
كنت أقرأ بصوت هادئ، وكأنني أستعرض قصة خيالية… لكنها كانت حياتي السابقة، سطرًا بعد سطر.
“لكن، وللأسف، لم تكن حياته مع قريبه سعيدة، فكان وحيدًا دائمًا، لذلك أراد أن يكبر بأسرع ما يمكن، لم يدرك أن الكِبر لا يعني انتهاء الوحدة.”
حتى بعد أن كبرت، لم تختفِ تلك الليالي التي تمنعني من النوم.
تلك الليالي التي يتحرك فيها عقرب الثواني ببطء قاتل، كأن كل ثانية تمرّ عامٌ كامل…
تشعر وكأنك الوحيد الباقي في هذا العالم.
في تلك اللحظات، أدركت أن الوحدة قادرة على قتل الإنسان.
كان عليّ أن أتشبث بشيء… أي شيء، كي أحتمل ثقل الحياة.
وحينها، وجدت “هيرومي”.
“وفي أحد الأيام، أُعطي ذاك الطفل، وقد أصبح بالغًا، مرآة سحرية.”
نعم… مرآة، مرآة سحرية لها قدرة عجيبة على عرض عالمٍ آخر.
“فكلما شعر بالوحدة، كان ينظر إلى تلك المرآة.”
رغم أنها كانت مجرد لعبة… إلا أنني وجدت فيها عزاءً لا يوصف، وفي ليو خاصة.
حين أغرق في عوالم “هيرومي”، لم أكن أستسلم لتلك الفكرة القاسية: “أنا وحدي في هذا العالم.”
سألني ليو، وهو يرمش بعينين يغلبهما النعاس:
“هل… أمم… هل أصبح ذاك الشخص سعيدًا؟”
“نعم، لقد دخل إلى المرآة، وصنع له عائلة جديدة هناك.”
نعم… إنها قصة كهذه.
قصة تنتهي بسعادة البطل.
أغمضت عينيّ، وقبّلت جبين ليو، وقد غطّ في نوم عميق، وهمست:
“أحلامًا سعيدة يا ليو.”
***
منذ الفجر، كان الجناح الفرعي لعائلة بلانش يعج بالحركة.
فاليوم هو يوم دخول سيدتهم إلى القصر الملكي لحضور مراسم التنصيب.
تانيا، التي رُقيت بسرعة إلى رئيسة الخادمات رغم صغر سنها، كانت تراجع ملابس بليندا لتقديم تقريرها إلى تيري.
“رغم ضيق الوقت، أنهيتِ كل شيء بدقة سَتُسّر السيدة بذلك.”
“شكرًا جزيلاً!”
أخفضت تانيا رأسها بابتسامة مشرقة.
“سأتوجّه الآن إلى السيدة، أحضري الملابس واتبعيني.”
“ن-نعم!”
فور سماعها اسم بليندا، ارتبكت تانيا قليلًا، وتبادلت النظرات مع زميلاتها.
أخذت الخادمات صناديق الملابس والإكسسوارات وسرن بترتيب نحو غرفة بليندا.
توقّفت تيري لحظة عند الباب، ثم التفت إلى تانيا خلفه وقال:
“سأتفقد مزاج السيدة، عندما أعطيك الإشارة، ادخلي.”
“نعم، حذارِ يا سيدة تيري.”
فتحت لها الباب وكأنها تودّع ضابطًا داخل إلى عرين نمر.
وما إن أُغلق الباب خلفها، حتى هزّت تيري كتفيه وقالت مازحة لبليندا التي أنهت فطورها لتوّها:
“الخادمات يتصرفن وكأنكِ كلبة شرسة، ألا يزعجكِ هذا؟”
“لا بأس، إدارة الطبقات الدنيا من شأن رئيسة الخادمات، ورئيسة الخادمات موالية لك، وأنتِ موالية لي، أليس كذلك، يا مساعدتي؟”
بعد المحاكمة المقدسة، شهد الجناح حملة تطهير جديدة.
أولئك الذين وقفوا مع تانيا لم يُستدعوا للمحاكمة، فاحتفظوا بمناصبهم.
أما خدم ماري، فقد شهدوا ضد بليندا، فطُردوا.
ثم تبيّن لاحقًا أن اللؤلؤ الذي استخدمته ماري لرشوة الخادمات، كان مسروقًا من بليندا.
رغم أنها ادّعت أنه هدية منها، لم يصدقها أحد.
وفي النهاية، اتُّهمت بسرقة ممتلكات النبلاء، فصُودرت أملاكها، وضُربت وطُردت.
قال البعض إن نجاتها من الإعدام كانت معجزة بحد ذاتها.
أما تانيا، فقد وهبت ولاءها لتيري منذ أن وقفت إلى جانبها حين لُفّقت لها التهم زورًا، وظلّت تدعمها في مواجهاتها مع ماري.
نسميها خطة :
“الرئيس الطيب والرئيس الشرير”
” قالت بيليندا ذلك وضحكت كأنها شريرة محترفة.”
أما تيري، فأشفقت على نفسها، قائلة إنها الضحية الحقيقية في هذه المعادلة.
“سأتزيّن بعد قليل، فدعيني وحدي الآن.”
وما إن انسحبت تيري، حتى حلّ ليو مكانها.
بشعره الأشعث وملابسه المبعثرة، وقف أمام المكتب بعدما أشارَت إليه بليندا.
“لقد أعددت شيئًا خاصًا لتحقيق أمنيتك التي أخبرتني بها البارحة.”
نظر ليو إلى الورقة الصلبة الموضوعة على المكتب، بتوجيه من إصبعها.
لكن الكلمات الصغيرة المليئة بالمصطلحات القانونية المعقدة بدت له كأنها طلاسم غير مفهومة.
“لكي نصبح عائلة، يجب أن أتبنّاك رسميًا، وهذه هي الأوراق اللازمة لذلك.”
أصغى ليو بانتباه وهي تشرح له الإجراءات.
وحين بلغت السعادة قلبه، عضّ على شفته السفلى محاولة منه لكتم فرحته.
“ولأننا سنصبح عائلة، علينا أن ندوّن اسمك في الوثيقة، فماذا لو منحناك اسمًا جديدًا؟”
“اسم جديد؟”
“نعم، في الحقيقة، كنت أفكر بهذا الاسم منذ وقت طويل… وأرجو أن يعجبك.”
وبخط يدها الجميل، دوّنت بليندا الاسم على الورقة الموضوعة أمامها:
[ليو بلانش]
ظلّ ليو ينظر إلى الاسم طويلًا، وكأنه يخشى أن يطير من الورقة مثل طائر خائف إذا ما تنفّس بصوتٍ عالٍ…
التعليقات لهذا الفصل " 131"