الحلقة مئة وثلاثون.
غالبًا ما يقضي خدَم الأسر النبيلة الرفيعة حياتهم في خدمة سيدٍ أو سيدين اثنين على الأكثر، قبل أن يُقبلوا على شيخوختهم.
وبالمقارنة، فإن كبير خدم عائلة بلانش كان يُعدّ خادمًا حديث الخبرة، رغم بلوغه الخامسة والستين من عمره، إذ لم تتجاوز سنوات خدمته الخمسة عشر عامًا.
لكن خلال تلك الأعوام، تغير عليه السادة ثلاث مرات، واجه خلالها تقلبات الزمن وتقلبات السلطة.
ورغم كل ما رأى، وجد أن بليندا بلانش كانت، وعلى نحو مدهش، سيدة كفؤة بحق.
فهي لم تكن لطيفة مع الخدم مثل جوناس لكن حضورها وحده كان كفيلًا بإرساء الانضباط داخل القصر،
كما لم تكن دقيقة حد الوسواس وتعالج كل الأمور بنفسها كما فعل شوفيل بلانش، كانت ماهرة في اختيار الأشخاص المناسبين، ووضعهم في الأماكن التي يبرعون فيها.
ولم يكن هذا فحسب.
“ما أروع انسجامها هنا…”
نظر كبير الخدم إلى بليندا وهي تعالج الأوراق في المكتب منذ ساعات، تجلس بانضباط في مقعدها، ظهرها مستقيم وعيناها ثابتتان، دون أن يظهر عليها أي اضطراب.
رغم أن خمسة أيام فقط مرّت منذ أن دخلت هذا المكتب لأول مرة.
إلا أنها لم تترك للمكان فرصة لابتلاعها أو إخافتها، بل اندمجت فيه بسلاسة وكأنها تسكنه منذ زمن بعيد.
مشهدٌ ما كان ليتخيله أحد في الماضي، حين كانت تجتاح المجتمع الراقي وتثير الفضائح أينما حلّت.
رجا كبير الخدم في نفسه، أن تكون هي آخر من يخدمهم، دون حاجة لأن يواجه ربًا رابعًا للبيت، ثم قال:
“صاحب السمو ولي العهد أرسل لكِ رسالة حضرتك.”
“صاحب السمو؟”
توقفت بليندا عن الكتابة، وتناولت الرسالة الموضوعة في الصينية الفضية، ثم همّت بفتحها بسكين ورق.
لكنها توقفت فجأة، وعيناها علقتا في الفراغ، تحدقان إلى مكان غامض.
لحق بها كبير الخدم بنظره، لكنه لم يرَ سوى الفراغ نفسه.
وكأنها كانت تنظر إلى عالم لا يراه سواها.
ثم فجأة، همست:
“أنا مرهقة.”
وبهذه الكلمات، سلّمت رسالة ولي العهد إلى مساعدتها، ونهضت من مقعدها دفعة واحدة.
“غدًا ستُقام مراسم الخلافة في القصر الملكي، لذا سأعود إلى الجناح للراحة.”
رغم أن إعلانها للراحة جاء مفاجئًا، إلا أنه كان مبررًا إلى حد بعيد.
وغادرت القصر بخطى ثابتة أنيقة، وسط توديع الخدم، لكنها ما إن اختفت عن أنظارهم حتى أمسكت بتنورة فستانها، وبدأت تجري بأقصى ما تستطيع.
وخلفها، تيري تلحق بها على مهل، تسألها:
“سيدتي، هل تركضين بأقصى سرعتك الآن؟”
“أتريني ازحف إذًا؟”
“أمم… نعم، لو كنتِ على عجلة، أيمكنني أن أحملك وأركض بك؟”
“… لا داعي.”
نظرت إليها بليندا نظرة حادة، وواصلت الركض حتى وصلت إلى الجناح، ثم صعدت مباشرة إلى الطابق الثاني.
كان الكلاب الثلاثة، كيربيروس، يتبعونها فرحين، لا يعلمون أن الربيع قد أتى ولا أن الموقد انطفأ، كل ما يهمهم هو اللحاق بها إلى الأعلى.
ثم وقفت أمام غرفة دراسة ليو، وطرقت الباب طرقتين خفيفتين، ثم فتحته على مصراعيه:
“يا كستناء الفئران!”
وارتفعت الأصوات خلفها: “نباح! وعواء! ونباح!” ثلاثية هارمونية من كيربيروس.
ثلاثية هارمونية، أي أصوات منسجمة بطريقة مرعبة، كما لو كانت مقطوعة موسيقية يؤديها كائن من الجحيم.
ليو، الذي كان يقرأ كتابًا، رفع رأسه بدهشة كبيرة عند دخولها المفاجئ:
“أوه؟ سيدة بليندا هل أنهيتِ عملك مبكرًا اليوم؟”
أسرعت نحوه بليندا، واحتضنته بشدة، وهمست في أذنه:
“رغم أنني كنت مشغولة، ولم أستطع مساعدتك في الدراسة كما ينبغي،
إلا أنك بذلت جهدك، ودرست بجد… أحسنت، صغيري.”
بينما كانت تربّت على ظهره، وقع نظرها على نافذة النظام التي لم تكن قد أُغلقت:
[“النجم البطل قد اخترق حدود الذكاء.
مجموع ذكائه قد ارتفع.”]
بليندا لم تكن تعلم أن ليو، في محاولته للتغلب على نفسه، انكبّ على الدراسة بكل قوته، مما جعله يحقق هذا الإنجاز العظيم.
كادت، من فرحتها، أن تحمله وتطير به كالطائرة، لكنها سرعان ما اكتشفت أن لياقتها لا تسعفها، وفشلت في المحاولة.
سعلت بخفة من الإحراج، ثم سألت:
“ما رأيك أن نهرب اليوم، أنا وأنت فقط، في نزهة سرية؟”
“نحن فقط؟”
“أجل، دون أن يعلم أحد، أحيانًا… نحتاج إلى القليل من الهروب من الواقع.”
ضحك ليو ببراءة، وغاصت غمازتاه في وجنتيه:
“أحب ذلك! أقصد… ليس أنني أحب الهروب كثيرًا، فقط… أحبّه بمقدار معتدل!”
***
رغم أنني كنت أركض ذات اليمين وذات الشمال لأنهي أمور شوفيل،
إلا أن ليو لم يُهمل دراسته، بل استمر في بذل الجهد.
وحين تفقدت لوحة حالته، كدت أطير من الفخر:
[الاسم: كستناء الفئران] ~
[العمر: 9 سنوات]
[الذكاء: 100/299]
[اللياقة: 110/299]
[القوة المقدسة: 76/99]
[الطاقة السحرية: 103/299]
رغم أن القوة المقدسة لا تزال قليلة، فإن المؤشرات الأخرى اصبحت كما كنت أتمنى تمامًا.
صحيح أن رفعها لاحقًا سيكون صعبًا، لكن… الآن وقت الاحتفال بالإنجاز.
اخترنا أنا وليو أبسط الملابس التي نملكها، لا زخارف ولا ألوان فاقعة،
ثم خرجنا سرًا من الباب الخلفي الذي يستخدمه الخدم.
لم أنسَ أن أطلب من السير بيناديل أن يتبعنا ويحرسنا من بعيد دون أن يلاحظ ليو.
واستأجرنا عربة أجرة، وانطلقنا إلى سوق العاصمة.
قد تبدو كلمة هروب مبالغًا فيها، لكنّ مغامرتنا كانت بسيطة متواضعة.
اشترينا خبزًا ضخمًا من أشهر مخبز في العاصمة، وأكلناه بينما نتجول،
ثم ذهبنا إلى حيّ الرحالة، وشاهدنا عرضًا سحريًا بالكريستالات جعل رجال الدين يصابون بالذهول،
ودخلنا مكتبة صغيرة مخصصة للطبقة المتوسطة، قضينا وقتًا طويلًا نختار كتابًا واحدًا فقط من قصص الأطفال.
مشينا كثيرًا، لأننا لم نُحضر عربة العائلة معنا.
رغم بساطة مغامرتنا، مضى الوقت كأننا طويناه طيًا.
فجأة وجدنا الشمس تغيب، والنهار يشحب.
جلسنا في ميدان الساعة على مقعد حجري لنريح أرجلنا.
أو لأكون صادقة… أنا وحدي من كانت بحاجة للراحة، ليو كان لا يزال مفعمًا بالنشاط.
تناول منّي قطعة حلوى اشتراها من السوق، والتصقت يداه بسكّرها، فغسلتها له بمنديل مبلل وسألته:
“هل قضيت وقتًا ممتعًا اليوم؟”
“نعم!”
ردّ بحماسة لا تخفى، وبدأ يسرد، وكأنه يكتب في دفتر يوميات، كيف كانت رائحة الخبز لذيذة،
وكيف تألق الكريستال في عرض الرحّالة، وحتى كيف كانت أصوات خطوات الزبائن في المكتبة…
كان يتحدث بلا توقف، كعصفور دوري لا يعرف الصمت، تنبعث منه رائحة السكر الحلو.
استمعت إليه وشاركت ضحكاته، ثم همست بما أردت قوله منذ زمن:
“يا كستناء الفئران، أنا أملك أشياء كثيرة جدًا.”
قد يبدو هذا تباهيًا، لكن… هكذا هو الواقع.
تنحنحت، ثم تابعت:
“ومع ذلك، لا أجد شيئًا في هذه الحياة أغلى منك، حتى لو أعطيتك كل ما أملك، لما شعرت أنني خسرت شيئًا، ولو أردت عائلة بلانش، فسأضعها في كفّك دون تردد.”
رفع ليو رأسه، ونظر إليّ، بصمت.
وكانت عيناه الزرقاوان تعكسان ضوء الشفق، فتلمعان مثل حبّات الكرز ، كما كانت تفعل عينا شيري ذات يوم.
أحسست بشيء يخنقني، فحوّلت بصري إلى شجرة روزيل العظيمة في زاوية الساحة.
“أنا سأدعمك دائمًا، مهما كان ما تريد أن تصبحه، لستَ مضطرًا لأن تكون خادمي.”
“حين التقينا لأول مرة، لم يكن أمامك خيار سوى أن تصبح خادمي، لكن اليوم رأيت… كم هو واسع هذا العالم، وكم فيه من طرقٍ واختيارات.”
لو أراد، يمكنه أن يصبح صاحب أشهر مخبز، أو عرّافًا يقرأ المصير بكريستالات سحرية،
أو كاتبًا تملأ كتبه رفوف المكتبات…
إنه فقط لا يعلم كم يملك من الإمكانيات.
نظرت إلى شجرة الروزيل، التي تنبت أولى براعم الربيع ، تلك الزهرة الوردية التي تعلن بداية الموسم.
حين تكتمل تلك الزهور، ستأتي أوفيليا إلى العاصمة.
الراعية التي تملك من النور والرعاية ما يجعلها أفضل من يمنح ليو السعادة والحنان والنمو.
“ولهذا… إن كان هناك شيء تحلم به، أخبرني، أريد أن أعرّفك على شخص مهم… شخص لا غنى لك عنه كي تنضج كراشد… شخص من عائلتك…”
لكن ليو قاطعني:
“لكن… ألم تقولي إن عائلة بلانش هي بيتي؟”
استدرت إليه، كان لا يزال ينظر إليّ، عيناه صافيتان، كما لو لم يتحرك منذ سؤاله الأول:
“هل… لا يمكنني البقاء بجانبك، بليندا؟”
“يا كستناء الفئران، أنا لست مؤهلة لتربية أحد، أنا…”
بصراحة، لم أكن واثقة.
هل أملك حقًا الحق في تربيته؟ هل أستطيع أن أنجح في ذلك؟
كيف أعلّمه ما لم أجرّبه؟ كيف أُحبّه حبّ العائلة وأنا لم أختبره يومًا؟
كيف أضمن أن طرقي صحيحة؟ أنني لا أرتكب أخطاء ستدمّر مستقبله؟
هذه ليست لعبة، لا يوجد زرّ “إعادة المحاولة” هنا، كل قرار أتخذه سيترك أثرًا دائمًا…
ماذا لو أخطأت خطأ لا يُغتفر؟
قطعت أفكاري تلك همسة حزينة:
“عندما أكون معك…”
حبس ليو أنفاسه، كأنّه يمنع نفسه من البكاء، ثم قال:
“أشعر أن الفراغ في قلبي… يمتلئ،
فهل تشعرين بالشيء نفسه، آنسة بليندا؟ هل كنتِ سعيدة… معي؟”
التعليقات لهذا الفصل " 130"