الحلقة مئة وستة وعشرون.
“لابد أنك تتذكر الطفل الذي أرسلته لي ، كان أذكى وألطف مما توقعت، فوجدت متعة حقيقية في تربيته.”
طبعًا أتذكره.
كان قطعة شطرنج وضعتها لأثير غضب بليندا وأشوه سمعتها… لكنّه تحوّل مع الوقت إلى نقطة ضعفها.
بليندا أنهت عبارتها وهي تربت بخفة بمروحتها على وجنة شوفيل المتشنجة، وكأنها لا تفهم لماذا بدا وجهه مشوّهًا هكذا.
“هو الشيء الوحيد الذي أعجبني من بين ما أعطيتني إياه، أخي العزيز… ولهذا أنوي أن أورثه كل ما أملك.”
في تلك اللحظة، شعر شوفيل وكأن دماغه يذوب بفعل غضب لا يوصف.
انقض بجنون نحوها، غير مكترث إن قطعت قيوده مع يديه، فقط ليمسك بها.
“أنتِ مجنونة! هل تعلمين ما هو هذا اللقب؟! كم فعلتُ لأحصل عليه، ثم تهبينه لذاك الفقير الحقير؟!”
رنّ صوت سلاسل القيود بشدة، لكنه لم يتمكن من لمس شعرة منها.
حتى بليندا التي بدت طوال الوقت هادئة، عقدت حاجبيها قليلاً، وقالت ببرود:
“اخفض صوتك يا شوفيل ، ذلك الطفل يستحق أن يكون في مكان أعلى منك… ومني أيضًا.”
لكن كلماتها سقطت في آذان مغلقة.
شوفيل، بعينين جاحظتين ووجه محمر، أخذ يصرخ وكأنه كلب مسعور:
“أتعلمين؟ أعلم أنك لفّقتِ الأدلة ضدي! وبمجرّد أن أخرج من هنا، سأقتل ذلك الصغير أولاً! لترَي كم تحبينه حينها!”
قالها بقصد جرحها… لكن بليندا انفجرت ضاحكة.
ضحكت طويلاً، ثم مسحت دموعها بخفة وهزّت رأسها بأسى:
“كنت أظن أن آخر كلماتك في المحكمة ، حين صرخت بأنك بريء كانت مزرية بما فيه الكفاية… لكن يبدو أنك أغبى من أن تدرك ما يحدث حولك.”
نظرتها صارت حادة وباردة من جديد، ثم استدارت وغادرت الزنزانة.
“لا أعلم ما هو الحلم الزائف الذي ما زلت تتعلق به، لكن على الأقل ستموت وأنت تائه فيه، لن تملك حتى وقتًا لتطلب الغفران من الرب.”
لم يكن شوفيل ليتخيّل أن آخر كلماتها، التي ألقتها بصوت منخفض بينما كانت تنظر إليه من خلف القضبان، ستظل ترن في أذنه حتى النهاية.
***
كان السجن الملكي الأعمق، المخصّص للمحكومين بالإعدام، يعجّ بالبكاء والصلوات المتوسلة لرحمة الإله.
وكان الوحيد الذي بدا ثابتًا فيه هو شوفيل.
حتى في يوم إعدامه، بدا متماسكًا، ما جعل الحراس يتهامسون بدهشة:
“لأنه عاش كنبيل، يظن أنه سيموت كواحد منهم؟”
“بل لأنه فقد عقله، أراهن أنه ندم لرفضه التوبة أمام الكاهن حين أُتيحت له الفرصة.”
شوفيل سمع الهمسات، وصرّ على أسنانه من الداخل.
“دعهم يهذرون كما يشاؤون، حين أخرج من هنا، سيعضّون أصابعهم ندمًا.”
كان واثقًا أن مساعده سيأتي.
فذلك الكلب الذي تركته له إليانور كان مخلصًا بارعًا لم يخيّب ظنه يومًا.
أخفى خادمة بليندا المقربة من دون أن يترك أثرًا، وأفقد صانع المجوهرات الأشهر في العاصمة بصره، بل وحتى تخلّص من كلب بليندا الحبيب.
بل وقضى أيضًا على أبناء العمومة الذين خططوا لقتل جوناس طمعًا في اللقب.
“صحيح أنه فشل في استرجاع رسالة أمي… لكن يمكنني التغاضي عن ذلك.”
كانت ثقته به كبيرة لدرجة أنه لم يفكر أبدًا في احتمال موته فعلاً.
“سنعطيك وقتًا لتتهيأ، ستُعدم قريبًا أمام العامة.”
حين زجّوه إلى زنزانة منفردة نائية، شعر بالأمل ينبض فيه من جديد.
الآن، هذه اللحظة.
فقد بدأ الحراس يغفلون عنه.
وحين رفع عينيه نحو الباب، رأى أخيرًا وجهًا انتظره طويلًا.
“مساعدي! علمت أنك ستأتي!”
ظهر وجهه من الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة.
“علينا مغادرة العاصمة فورًا، رغم أن تلك العاهرة سلبتنا كل شيء، إلا أنني إن نجوت.”
“قبل ذلك، لدي سؤال واحد.”
كان ذلك أول مرة يقاطعه فيها مساعده.
“حين قررت تسميم السيد جوناس… لماذا لم تطلب مني تنفيذ الأمر؟ لماذا فعلتها بنفسك؟”
تجمد شوفيل للحظة، وهو لا يزال متمسكًا بالقضبان.
“تسميم أبي؟ هذا هراء! بليندا ألصقت بي تلك التهمة! كنت أمزح معها فقط… لكنها استغلتها في محكمة الإله!”
كرّر ذات الأعذار البائسة التي قالها مرارًا في المحكمة.
“وأصلاً، لا يوجد دليل ضدي، أليس كذلك؟”
“ولم لا؟”
“لأنني…”
…أخفيت كل الأدلة بعناية.
لكن الحقيقة هي أنه لم يشرك مساعده في جريمة التسميم… لأنه خاف ألا يوافق.
تردّد، ثم رفع صوته غاضبًا:
“سنناقش هذا لاحقًا! الآن، افتح هذا الباب فورًا!”
“قرأت سجلات محاكمتك التي دونها كاتب المحكمة.”
“ماذا؟! الآن وقت القراءة؟!”
“قلتَ حينها إن والدك أهان والدتك قبل الزواج، وإن هذا هو سبب زواجهما.”
“لو لم أقل ذلك، لكنت انتهيت من البداية!”
رغم أن كل ما قاله انهار أمام شهادة كونت باربيت… إلا أنه فعل ما بوسعه.
لكن كلما تذكر تلك المحاكمة المذلة، شعر بالغضب يتصاعد.
ثم..
“كيف تجرؤ على تلطيخ سمعة السيدة إليانور بهذا الشكل؟”
أخيرًا، أدرك شوفيل أن ملامح وجه مساعده تغيّرت.
وجهٌ لم يكن يعرف الغضب… صار الآن متقدًا بالنار.
“أهنت شرف والدتك… السيدة إليانور… كيف لك أن تفعل ذلك؟”
وهنا، أدرك هاوند الحقيقة التي قالتها له تيري يومًا:
ردّ الجميل للميت لا يترك في القلب سوى فراغ.
وأخيرًا، فهمها.
“هاوند، اعتنِ بشوفيل جيدًا، تحمّل دلاله بدلاً عني.”
كانت هذه وصية إليانور الأخيرة، السيدة التي أنقذته يومًا.
سفك دماء الكثيرين لينفذ وصيتها… لكنه لم يشعر يومًا بالرضا.
والآن، حان وقت إنهاء دينه.
“ردّي الأخير للجميل لم يكن من أجل السيدة إليانور… بل من أجل السيد جوناس، أتمنى لك السلام، سيد شوفيل.”
كانت كلماته باردة، لكن وقعها كان كصفعة.
من أجل… جوناس؟
تكرار الجملة داخله جعله يرتجف.
“أنت… أنت مَن لفّق الأدلة ضدي! أيها الخائن!”
ركض إلى الباب، لكنه لم يرَ أحدًا، هاوند اختفى كالدخان.
لم يبقَ سوى صراخ شوفيل يتردد بين الجدران.
خطى الحراس بدأت تقترب.
ارتجف جسده بالكامل، وكأن ساقيه توقفتا عن حمله.
“لا… لا يعقل…”
فتحوا الباب أمامه.
“حان وقت الإعدام، تفضّل.”
إعدام؟ أنا؟!
انكمش بصره.
“لا… هذا مستحيل! لم أفعل شيئًا! دعوني! دعوني أذهب!!”
بدأ يصرخ ويقاوم.
“لا، لا! أنقذوني! هذا خطأ! هذا خطأ!!”
“أخيرًا أدرك الحقيقة، الكل ينهار قبيل الإعدام.”
“نادوا الكاهن! أريد الاعتراف! أعطوني وقتًا للصلاة!”
“آه، فات الأوان، لو كنت مؤمنًا حقًا، لصليت قبل الآن.”
ودفعه الحارس إلى منصة الإعدام.
وكما قالت بليندا… مات شوفيل معلقًا دون أن يُمنح حتى فرصة لطلب الغفران.
مات شوفيل بلانش كـ شوفيل فقط.
وأُعدم علنًا بتهمتي قتل أحد أقربائه والادّعاء كنبيل زورًا.
وقد صرخ وهو يتوسل الرحمة، باكيًا، متبولاً على نفسه، غير قادر على الاحتفاظ حتى بأبسط كرامة.
‘يبدو أن سجلات المحكمة التي أعطيتها لهاوند أدّت دورها جيدًا.’
هكذا فقط علّقت بليندا حين قرأت الخبر في الصحيفة.
وفي اليوم نفسه، أمرت ببناء شاهد قبر صغير بلا اسم، قرب قبر عمها.
سيظن من لا يعرف القصة أنه قبر شوفيل… لكنه لم يكن له.
فلم يُدفن أحد فيه.
بل كان قبرًا رمزيًا يخص بليندا بلانش نفسها.
خلعت العقد الذي حول عنقها، ووضعته فوق القبر بهدوء.
كان حجر يضم ياقوتة صقلها والدها الراحل خصيصًا، وتحمل صور والديها الحقيقيين وجوناس.
“أتمنى أن تنعم بالسلام، هناك.”
همست بتلك الكلمات، ووضعت الزهور أمام شاهد القبرين.
ومن خلفها، حلّقت ظلال لطيور غراب.
ومن القصر، ركضت كلاب الكيربيروس الثلاثة في اتجاهها، ترحب بعودتها.
لكن بليندا لم تلتفت إلى الوراء ولو مرة.
***
في آخر لحظاته، قرر جوناس ألّا يغيّر وصيته.
ربما لأنه اعتقد أن ابنته لن تتحمّل عبء لقب عائلة بلانش.
لأن التاج إن أُثقل، كسر الرقبة التي تحمله.
ولذلك، تمنّى لها حياة هادئة مع من تحب.
وقد بدا حبه واضحًا في قراره.
لكن بليندا… لم تكن تنوي تحقيق تلك الأمنية.
لأنها الآن فقط، أصبحت مستعدة لحمل وزن التاج.
التعليقات لهذا الفصل " 126"