الحلقة مئة وخمسة وعشرون.
مجرد كون شوفيل قد سمّم جوناس بلانش، كان كافيًا لتبرير معاقبته.
لكنّ المشكلة كانت في غياب الدليل القاطع لإثبات ذلك.
تعلّمت من جوزيبي، الذي التقيت به ذات شتاء في رحلة بعيدة، أن غياب الأدلة لا يعني العجز، بل يمكن جعل المجرم يتحرك بنفسه، فيفضح ذاته.
كان من العبث أن تستمر بليندا في الصراخ لسنوات بأن شوفيل قتل عمها، لن يصدقها أحد.
لكن… ماذا لو أكّدت قوة الإله المطلقة أن كلماتي صادقة؟
منذ تلك اللحظة، ستنقلب الموازين.
ولأجل ذلك، كان لا بدّ لي من الوقوف في محكمة العدل.
لكن المعبد لا يتدخل في النزاعات الشخصية، لا يفتح أبوابه إلا لمعاقبة من يرتكب إثمًا يعارض عقيدتهم.
فما كان أمامي خيار سوى أن أقف على منصة الاتهام بنفسي.
لحسن الحظ أو لسوئه، كانت الشائعات تدور في القصر عنّي ، أني أقدّم قرابين حيّة، أو أتعامل مع الأرواح الشريرة.
وقد جعلت هذه السمعة من السهل جدًا أن أُتَّهم بكوني ساحرة سوداء.
خططتُ للأمر بدقة: دفعت شوفيل للتفكير في استغلال المعبد، وجعلت ماري تدخل عليّ في اللحظة المناسبة… في الوقت نفسه الذي استدعيت فيه كاو أمامها، وهكذا…
تم اتهامي علنًا بأنني ساحرة سوداء، وأُحلت إلى محكمة العدل.
وكان الجزء الأصعب من هذا المخطط كله هو نيل تعاون سوغا.
فالجنيات بطبيعتهن لا يعرفن الكذب.
ولو حدث أن سألها أحدهم فجأة عن الحقيقة، وأجابت بلا تفكير… فإن خطتي كلها كانت ستنهار.
ولهذا، أعطيتها عملة ذهبية وطلبت منها ألّا تنطق بكلمة واحدة أثناء المحاكمة.
لكن للأسف، تبين أن سوغا تجيد فن المساومة.
دفعتُ لها العملة، لكنها دفعتها جانبًا وأشارت بأصابعها الأربعة.
كانت تطلب… أربع قطع ذهبية.
كنت مستعدة أصلًا لدفع خمس، لذا لم أمانع، حتى فتحت فمها وقالت:
“سوغا تطلب أربع قطع ذهبية… في الساعة.”
ماذا؟! بالساعة؟! في محكمة لا نعلم متى تنتهي؟! هذا أسوأ من فائدة المرابين!
“قطعة واحدة.”
“أربع.”
“قطعتان.”
“أربع.”
“ثلاث…!”
“أربع!”
كان ينبغي لي أن أعلم منذ البداية أن هذه الجنية لم تكن سوى بعوضة مجنونة بالمال.
“حسناً… موافقة.”
“أوكي، شكرًا! أربع قطع!”
كنت بحاجة لها أكثر مما كانت بحاجة إلي، فانتهى بي الأمر بالرضوخ.
وبعد أن حصلت على تعاونها، جرى كل شيء كما رأيتم…
“لقد تم تحديد موعد تنفيذ الإعدام.”
قال ولي العهد وهو يضع فنجانه برقيّ.
منذ أن أصدر القاضي حكمه، ظل مشهد شوفيل وهو يفقد أعصابه أمام الجميع، متجردًا من كرامته الأرستقراطية، موضوعاً للثرثرة في الأروقة لأسابيع.
بللت شفتيّ برشفة شاي، ووضعت الفنجان على المنضدة كما فعل هو.
“كل هذا بفضل جهود سموّك.”
“صحيح. لكن ما دامت الفائدة متبادلة، فلا حاجة لشكري.”
ابتسم ولي العهد بخفة وهو لا يُنكر فضله الكبير في الأمر.
بعد انتهاء محكمتي، قمت أنا باتهام شوفيل علنًا بقتل جوناس بلانش.
وكان ولي العهد، الذي نسّقت معه مسبقًا، مستعداً للتحرّك.
وانقلبت الأدوار بالكامل ، حيث اعتُقل شوفيل وأُرسل مباشرة إلى سجن القصر الملكي تحت الأرض.
فهو أحد رموز الفصيل الأرستقراطي الداعم للأمير الآخر، وإزاحته تصب في مصلحة ولي العهد.
“بالمناسبة، الحكم صدر أسرع مما توقعت. كنت أظن أن الأمر سيستغرق وقتًا أطول.”
انتشرت أخبار وقوف شوفيل أمام المحكمة بتهمة قتل والده بالتبني بسرعة البرق.
في البداية، ظن الناس أنه سيخرج منها بسهولة.
فالدليل الوحيد ضده كان شهادتي، بينما ظل هو يصرّ على براءته بثبات وثقة.
لكن مسار المحاكمة تغيّر بعد ظهور رسالة من إليانور، تكشف أن شوفيل لم يكن ابن جوناس البيولوجي… وأن لديه دافعًا حقيقيًا للقتل.
وجاء الأمس…
“المحقّق، وبشكلٍ… محظوظ جدًا، عثر على دليل يثبت أن شوفيل دسّ السم لجوناس، الدليل وُجد في مسرح الجريمة وكأنه موضوع بعناية مسبقة.”
وهكذا، صدر حكم الإعدام شنقًا بحق شوفيل.
ضحكتُ بخفة وأنا أملأ فنجان ولي العهد مجددًا.
“يبدو أن هناك من يكنّ له العداء غيري.”
“…ربما.”
ابتسم هو أيضًا، وسكب لي شايًا كما لو كنا طفلين نلعب بالدمى.
وحين برد الشاي في الفناجين…
“سموّ الأمير، أود مقابلة المحكوم عليه مرة واحدة أخيرة، هل لي بذلك؟”
نظر إليّ ولي العهد مطولاً.
في عينيه الخضراوين، كالتيه في غابة، لم أتمكن من تفسير ما بدا فيهما.
راقبتُ تعبيره بعناية، ثم سألت:
“ما الذي يجعلك تنظر إليّ هكذا؟”
“فقط… لأني تفاجأت.”
“بماذا تفاجأت،”
“أدركت للتو أن بليندا التي كنت أعرفها… لم تعد موجودة.”
لم أتمكن من الرد، لأن كلماته كانت صادقة.
ارتشفت قليلاً من الشاي البارد لأخفي صمتي، فهزّ رأسه بخفة، كأنه نادم على ما قاله.
“سأجعل الترتيبات مريحة قدر الإمكان.”
***
كان شوفيل يؤمن ذات يوم بأحلام الأطفال المستحيلة.
ربما… ذات صباح، سيوقظ قدراته النائمة ويُعترف به كأحد النبلاء الحقيقيين.
لكن ذلك لم يحدث أبدًا.
درس تقاليد النبلاء، واختلط بهم، وعاش حياتهم، لكنه ظلّ… دخيلًا.
لأن الدم لا يكذب.
ثم جاءه ذلك الخبر:
“أبي أصبح ماركيز بلانش؟!”
فرصة ذهبية لتصحيح كل عيوب ماضيه.
لو أصبح وريثًا، فسيستعيد كرامته، وينال اعتراف العالم.
وهكذا، بدأ يعزل بليندا ببطء، خطوة خطوة.
ورغم أنه كان يشعر أحيانًا بأن والده يفضّل بليندا عليه… لم يشك للحظة.
كان يؤمن بأن جوناس سيختاره وريثًا فهو من دمه اليس كذلك؟
حتى لو تظاهر جوناس بحب ابنته حفاظًا على المظاهر، فلا بد أنه سيمنحني الوراثة لاحقًا.
لكن… ذلك لم يكن سوى وهم.
“شوفيل، لا تتجاوز حدودك، لن أورثك اسم العائلة.”
قالها جوناس عندما لمح شوفيل إلى موضوع الوراثة للمرة الأولى.
صدمه الجواب، فضحك بمرارة.
“لا تقول إنك تفكر في منحهم لبليندا، أنت تعرف كيف تتصرف تلك الفتاة…”
كان يأمل أن يتفهمه والده، بعد كل ما تحمّله من إذلال كابن غير شرعي.
لكن…
“ما علاقة التصرفات بالوراثة؟ إن لم تكن بليندا مؤهلة، فلتتزوج من هو مؤهل.”
أيعقل أن يثق في رجلٍ غريب على حسابي؟!
“تثق بالرجل الذي تختاره تلك الفتاة أكثر مما تثق بي؟!”
“شوفيل! لا تتحدث عن أختك بهذه الطريقة!”
صرخ جوناس، لكن من كان يريد الصراخ حقًا… كان شوفيل.
“لماذا لا يمكنني وراثة اللقب؟ لا تقل لي لأنني لست من دمك! ألم تر كم تعبت؟!”
وما كان من جوناس إلا أن صمت، وهو بذلك أجاب.
“هاها… حقاً؟ بسبب الدم؟ وأنت جالس في هذا الكرسي! كيف تكون قاسيًا إلى هذا الحد؟! هل تدري ما الذي فعلته لأصل إلى هنا؟!”
“ماذا فعلت، يا شوفيل! لا تقل إنك…”
“شوفيل! أجبني!”
“لقد فات الأوان.”
كان خطأه الأول أنه وثق بأبٍ رقيق القلب.
لكن إن لم يختره والده طوعًا، فسيجبره على ذلك.
حين لا يتبقى سواي، لن يكون له خيار.
استدار نحو الباب، يائسًا.
“شوفيل! قف مكانك!”
لكنّه لم يتوقف.
أمسك بمقبض الباب، عازمًا على عبور الخط الذي لا رجعة منه.
“لن ينفعك شيء، شوفيل، دم بلانش لا يجري في عروقك!”
تجمد.
ثم استدار ببطء.
“أبي، لا تقول كلامًا كهذا… أنت تمزح، أليس كذلك؟”
“حين التقيت بإليانور، كانت حاملاً بك. اسأل هاوند، كان دائمًا بجانبها.”
هل كان يهذي؟ أو يتكلم الحقيقة؟
“لكنني لم أعتبرك أبدًا… غريبًا، ألا يكفيك هذا؟”
كيف له أن يقول ذلك؟!
“يا بني… حياة أخي لم تكن سعيدة ، هذا المقعد ليس لنا، لا يجب أن نطمع فيه.”
هذه أفكاره هو… ليست أفكاري.
كم كان ينوي الاحتفاظ بهذا السر؟
هل كان يخطط لفضحه في وجهي حين اسقط؟!
الشكوك تغلغلت حتى نخاعه.
“أبي… من غيرك ومن هاوند يعرف سرّ ولادتي؟”
“قلت لك… اعتبرتك ابني، من يتحدث عن أصل ابنه أمام الآخرين؟”
“فهمت… شكرًا لك.”
ابتسم شوفيل.
لكن عزيمته لم تتغير ، فقط هدفه.
أمر هاوند بسرقة الوصية من الخزنة، تلك التي تمنح بليندا الوراثة.
ثم زوّرها وأعادها إلى مكانها.
هل شعر بالخيانة؟ ربما.
حتى عندما دسّ السم في طعام والده، ودبّر له حادث السقوط من الحصان، لم يشعر بتأنيب الضمير كما كان يتوقع.
بل شعر… بالعدالة.
“لن تدركي أبدًا كم كانت حياتي بائسة.”
كل ما فعله كان، برأيه، لتصحيح مصيره البائس.
نظرت بليندا إلى شوفيل، الذي كان قد فقد هيبته، وتحدّث إليها بصوت ضعيف.
“ماضيك؟”
فتحت باب الزنزانة بالمفتاح الذي أعطاها إياه ولي العهد، ودخلت.
شوفيل كان مقيّدًا بالسلاسل، رأسه منخفض، وكأنه لا يقوى على رفعه.
أجبرته بمروحتها على رفع رأسه.
“ما زلت غارقًا في أوهامك المقرفة ، لماذا تظن أنني سأكترث بماضيك القذر؟”
كان شوفيل بارعًا في التظاهر بأنه ضحية بريئة.
لكنه لم يكن يتوقع…
“الحقيقة أنك شخص حقير قتل والده بدافع عقدة النقص.”
الناس لا يهتمون بقصص المجرمين.
بدأ الغضب يتسلل إلى نظراته، كأنما لا يزال يؤمن ببراءته.
لكن بليندا فقط ابتسمت بسخرية، وكأنها ترى أخيرًا القاتل الحقيقي.
“أتعلم، شوفيل؟ سأسلّم هذا اللقب لطفل… لا يحمل دمي، ولا يحمل قطرة واحدة من دماء النبلاء.”
“…ماذا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 125"