الحلقة مئة و أربع و عشرون.
“هاه، جنيات؟”
رنّ صوت ضحكة ساخرة فجّة في أرجاء قاعة المحكمة، وكان ذلك كافيًا ليبيّن مدى الصمت الذي خيّم على المكان.
وسرعان ما بدأ الحضور يتهامسون بسخرية متزايدة:
“يبدو أنها فقدت عقلها وهي على وشك الإعدام.”
“هاه، جنيات؟ حتى ابني الصغير لن يصدق مثل هذا الكذب الواضح.”
لكن تلك السخرية لم تدم طويلًا، بل انقطعت فجأة كما تُطوى صفحة كتاب.
“سوغا، أثبتي وجودك.”
همست بليندا بتلك العبارة بنبرة هادئة، لكنها كانت كفيلة بإحداث معجزة.
لم يكن هناك نسمة هواء، ومع ذلك، تحرّكت خصلات شعرها الأحمر بانسيابية خفيفة، ثم، كما لو كانت ستزيح الستار، انسلّت من بين خصلات شعرها الصغيرة كائنٌ ما وأطلّ برأسه.
كان في حجم الإصبع، وأذناه مدببتين.
بمظهره الساحر وكأنه خرج لتوه من صفحات قصة خيالية، بدأ ذاك الكائن يدور فوق رأس بليندا وهو يرفرف بثلاث أزواج من الأجنحة الشفافة.
“…ج… جنية!”
لم يكن أحد في القاعة قد رأى جنية من قبل، لكن مجرد رؤيتهم لسوغا جعلهم يدركون على الفور…
أن الجنيات حقيقية.
ابتسمت بليندا بثقة وهي تتيح للجنية أن تجلس على طرف إصبعها.
“الجنيات تُعرف بأنها تبتعد عن الشر والفساد، لا يمكن لها أن تعقد عقدًا مع شخص يستخدم السحر الأسود أو يتحكم في الوحوش، وإن كان لا يزال لديكم شك، فلا تترددوا في سؤالي… هل عقدتُ عهدًا مع هذه الجنية؟”
وبعد أن قدّمت بليندا الجنية على الملأ لتثبت براءتها، لم يعد بمقدور القاضي أن يتغاضى عن الأمر دون سؤال.
“لكن… ألم يُقال إن لديها قدرة خارقة للتحكم في الوحوش؟!”
أطلق القاضي نظرة غيظ نحو شوفيل، ثم اضطرّ إلى استخدام عين الحقيقة.
“بليندا بلانش… أسألك بصفتي ممثل الإله: هل عقدتِ عهدًا مع جنية؟”
تلألأت عينا الكاهن الأكبر بلون ذهبي متوهّج، وانتشر في القاعة شعور جليل مع نفحة من السكينة المقدسة.
أجابت بليندا دون تردد:
“نعم.”
وكما في المرات السابقة، كشفت قوة الإله عن الحقيقة.
أعلن القاضي بنبرة متحفظة:
“إنها صادقة.”
لكن حتى “عين الحقيقة” التي تبدو معصومة… لها نقاط ضعف.
فهي تعتمد في النهاية على بشر، وعلى مدى سرعة بديهتهم، والكاهن الأكبر لم يكن ممن يُعوّل على ذكائهم.
لقد ارتكب خطأ جسيمًا للتو.
كان عليه أن يسأل: “هل تمتلكين قدرة خاصة للتحكم في الوحوش؟” لا “هل عقدتِ عهدًا مع جنية؟”
لكن الكاهن كان إنسانًا غبيًا، وسقط كما يسقط طفل في فخّ منزلي مصنوع من الحلوى.
في تلك اللحظة، نهض أحد الحاضرين فجأة من مقعده ليعترض:
“هذا كذب! سيدي القاضي، استخدم عين الحقيقة عليّ! أنا متأكد أن بليندا قد أيقظت قدرة للتحكم في الوحوش!”
“صمتًا! أتُكذّب قوة الإله جهارًا؟ وإن واصلت إثارة الفوضى، فسوف تُتهم بتدنيس المحكمة ومهاجمة سلطة الرب!”
لحسن الحظ، لم يقع جميع القضاة تحت تأثير شوفيل.
نظرًا لنظرة القاضي الحادّة، جلس شوفيل وهو يعضّ شفتيه غيظًا، ونظرته تتصادم مع نظرتي الباردة.
‘إذًا، كان يعلم بأمر ايقاظ بليندا لقدرتها على التحكم في الوحوش…’
عندما استرجعت شظايا بليندا الثانية، تذكرت الحادثة في السيرك.
في تلك الذكرى، بدا وكأن شوفيل أنقذها… لكن التعب والإرهاق الذي شعرتُ به وقتها كان غريبًا، كأنما فرغ وعاء سحرها بالكامل.
‘ربما ايقظت قدرتها آنذاك…’
وبينما هدأ الهرج بصعوبة، نظر القاضي نحوي بنظرة ضيق، كأنه ينظر إلى عبء ثقيل.
سألني أحد القضاة الواقفين إلى يساره:
“كل من قدرتك على التحكم في الوحوش وعقدك مع جنية… حقيقتان ، هل لديك تفسير لهذا؟”
“بالطبع، سيدي القاضي ، هل سمعت من قبل بأن الجنيات تمنح من ترتبط بهم… بركة واحدة؟”
توقفت قليلًا، لأمنح الجميع وقتًا لهضم كلامي، ثم تابعت:
“لقد منحتني الجنية بركة الإغواء ، لذا فإن تحكّمي في الوحوش لا يستند إلى سحر أسود، بل إلى هذه البركة.”
“تتحكّمين في الوحوش ببركة جنية؟ ما هذا الهراء؟ وكيف تنوين إثباته؟!”
صرخ القاضي الذي تلقّى رشوة من شوفيل، وقد بدا عليه التوتر.
أن تُخضع الوحوش عبر عقد شيطاني شيء، وأن تخضعهم بقوة عقد مقدّس… هذا شيء مختلف تمامًا.
في الحالة الأولى، يكون الأصل في القوة سحر اسود، أما الثانية، فتكاد تُعتبر قُدرة مقدسة تقف في وجه الشر.
ولأنه كان مصممًا على وصفي بساحرة سوداء، فلا بد أن دمه كان يتجمد.
“لقد رأيت بأم عينك الكائن المقدّس، سيدي القاضي، ألا يكفيك هذا؟ أما عن البركة، فأعتقد أنني أُجسدها أمامك.”
رفعت رأسي باعتزاز، ناظرة إليه بتحدٍّ.
“أنظر إليّ، وستعرف أن بركة الجنيات حقيقية.”
الرد الوحيد كان… الصمت.
“حتى أنا أعترف بأن جمال بليندا خادع بشكل لا يُصدّق.”
خصوصًا في تلك اللحظة، حيث كانت أشعة الزجاج الملوّن تنساب على ملامحي لتجعلني تبدو وكأنني لوحة مقدسة حية… مجرّد تخيُّل المشهد يثير القشعريرة.
“وإن كان لا بد من تحقق إضافي، فلتسألني بقوة الإله، فأنا دائمًا صادقة أمامه.”
ثبتّ نظري على القاضي من جديد.
“اسألني سؤالك الثالث والأخير، سيدي القاضي.”
كنت أعلم أنه لن يفعلها بسهولة.
منذ أن لم يسأل إن كنت أستخدم السحر الأسود من البداية… كان كل شيء في هذا المسرح الرديء واضح النهاية.
تردّده أحرج الجميع ، أحد القضاة بجانبه تنحنح ليحثّه، لكنه ظلّ صامتًا.
لقد استهلك سؤالين من أصل ثلاثة، وربما لم يجرؤ على هدر الثالث.
إن كان كذلك… سأجعله يتكلم رغمًا عنه.”
وتكلمت بما كنت أعدّه طيلة هذا الوقت.
“إن كان القاضي مترددًا، فأنا سأبدأ بآخر دفوعاتي ، سيدي القاضي العزيز… لأثبت براءتي، أود أن أكشف السبب الحقيقي وراء الاتهام الذي وجهه لي شوفيل بلانش.”
شعرت بكل الأنظار تلتفت نحوي في آنٍ واحد.
استقمت بظهري، وأدرت رأسي نحو شوفيل الجالس في المقاعد.
“شوفيل بلانش اتهمني زيفًا بالسحر الأسود… لأنه يعرف أنني على علم بخطيئته الأصلية.”
“خطيئته الأصلية؟”
وفجأة، تغيّر محرك المسرحية بالكامل.
في خضم فيضان النظرات، كان شوفيل يحدق بي بوجه عدائي لم يعتد الآخرون رؤيته.
تلذذت بتلك النظرة، وقلت:
“لقد سمّم والدَي، جوناس بلانش… عمي وأبي في آن واحد.”
سواء كانت الحقيقة أو لا، المحكمة انقلبت رأسًا على عقب.
“كذب! إنها تكذب كذبًا وقحًا!”
“يا للفظاعة!”
“هدوء! هذه المحكمة مخصصة للنظر في قضية بليندا بلانش، لا في اتهامات جانبية!”
“بل هو مرتبط تمامًا، سيدي القاضي، أنا كمُتهمة من حقي أن أشرح لماذا اتُّهمت ظلمًا.”
نظرت نحو القاضي الذي لم يعد يُخفي ارتباكه.
“استخدم عين الحقيقة، يا سيدي القاضي، لتسألني: هل أنا ساحرة سوداء… أو…”
غصّت بالكلمات، إذ شعرت بنشوة تشبه الغضب تغلي داخلي.
ثم تنفّست بعمق، ورفعت صوتي:
“…أو لتسألني إن كنتُ قد سمعتُ بأذنيّ ان شوفيل بلانش يعترف بتسميم جوناس بلانش ، فأنا مستعدة دائمًا لأن أُجيب بصدق.”
“أ… أمهلوني وقتًا للتفكير.”
قالها القاضي، وتراجع خطوة إلى الوراء.
لكني كنت أعلم ما الذي سيفعله.
لأنه كان يثق في شوفيل، أو بالأحرى، كان يعلم مدى دهائه واحتياطه.
فقد حرص شوفيل على التأكد من أن القاضي لن يسألني أبدًا إن كنتُ ساحرة سوداء.
لأنني، ببساطة، لستُ كذلك، وعين الحقيقة ستكشف هذا.
وبذلك… ستنهار كل خططه.
“لذا، لا بد أنه منع القاضي من أن يسأل هذا السؤال بالتحديد.”
وبعد دقائق، بدأ القاضي كأنه شاخ عشر سنوات.
ثم أعلن، أخيرًا:
“…بصفتي ممثلًا للإله، أسأل الآن…”
تجوّلت عيناه بين الحاضرين، واستقرت على شوفيل.
هزّ شوفيل رأسه بصمت، ثم نظر إليّ.
“بليندا بلانش، هل سمعتِ باعتراف شوفيل بلانش بأنه سمّم جوناس بلانش؟”
أخيرًا…
تسلل إلى وجهي ابتسامة انتصار.
استمتعت بتلك اللحظة كما ينبغي، ثم أجبت كما فعلت دومًا:
“نعم.”
خيّم على القاعة صمت خانق، وكأنك تسمع فيه صوت سقوط إبرة.
ثم…
“…إنها صادقة.”
“مستحيل!”
“يا إلهي!”
لقد استُخدمت الفرص الثلاث التي منحها الرب.
وامتلأت القاعة بفوضى لا تهدأ.
لم يحاول القاضي ولا القضاة تهدئة الناس، بل بدا أنهم يتشاورون فيما بينهم.
ثم صدر الحكم الإلهي:
“يُثبت المعبد، استنادًا إلى قوة إلهنا آريا، أن بليندا بلانش لا علاقة لها بالسحر الأسود، وأن قوتها للتحكم في الوحوش نابعة من عقدها مع كائن مقدّس.”
وعند سماع الحكم، انحنيت برقيّ احترامًا.
“لقد منحتني الآلهة الرحيمة ثلاث فرص لكشف الحقيقة، وما تبقى ليس من شأن الآلهة، بل من اختصاص قوانين البشر.”
رفعت رأسي، ونظرت نحو شوفيل.
“أليس كذلك، شوفيل؟”
وفي الختام، التفتُّ إلى راشيل دوكوف، التي حضرت المحاكمة.
كان وجهها شاحبًا من وقع الخيانة.
“أظننا سنلتقي مجددًا… في المحكمة الملكية.”
التعليقات لهذا الفصل " 124"