الحلقة مئة واثنان وعشرون.
كما تُطفَأ شمعةٌ بلفحة هواء، كانت حياة تيري على وشك الانطفاء… لكنها فجأة اشتعلت من جديد بثبات لا يتزعزع.
عاد اللون إلى وجهها وشفتيها، بعدما كانتا شاحبتين كالرماد، وتمدّد صدرها بأنفاس عميقة، ثم انخفض بهدوء.
عادت الحياة تدريجيًا إلى عينيها التي كانت تفقد بريقها، لكن ملامح وجهها تشوّهت فجأة كما لو أن شيئًا ما سار على نحو خاطئ.
“تيري…؟”
هل حدث خلل؟ ما إن فكرت بذلك، حتى غطّت تيري فمها بيدها فجأة.
“أوغ…”
“تبًّا… تبّ تبّ تفوو! يا إلهي! ما هذا الطعم الفظيع…! هذا أسوأ من أي سمّ! أوغغ…”
كانت تخرج رأسها خارج السرير، تتقيأ وتصدر أصواتًا مقززة،
ثم ما لبثت أن وضعت يدها على بطنها، تحسّستها، ورفعت جسدها ببطء.
“هممم، لم أعد أشعر بالألم.”
عبثت بضمادات الضغط التي لفّها السير فيناديل على بطنها لإيقاف النزيف،
ثم لمست جلدها الذي بدأ بالتعافي، مع احمرار خفيف وبشرة خشنة كأنها تنمو من جديد.
تمتمت تيري بصوت غبي، كأنها لا تصدّق:
“أوه… أظنني شُفيت تمامًا، سيدتي، هل يمكنني إذًا متابعة ما كنت أريد قوله؟”
“أختي!”
“السيّدة تيري! أواااه!”
قفزت فيفيان نحوها، واحتضنتها بقوة، تبكي كما تبكي طفلة صغيرة.
ثم تبعها جيري، الذب كان يبكي أصلًا، وانفجر بالبكاء وهو يعانق تيري:
“كنت أظن أنكِ حقًا… قُتلتِ… كُح… لقد…!”
“أووه… أنا… أنا… لأول مرة أظن أن تعلمي للسحر كان فكرة ممتازة… لأول مرة حقا!… فكرت بهذا… أووووه!”
لم تستطع فيفيان أن تُكمل جملتها،
كانت تلهث وتبكي بعنف، لكن…
رغم ذلك، شعرتُ وكأني سمعت الكلمات التي لم تستطع قولها.
ربما، ولأول مرة في حياتها، اعترفت فيفيان بنفسها.
بعد أن رأت بأمّ عينيها أن الإكسير الذي صنعته قد أنقذ حياة تيري.
في النهاية، أنقذا كلٌ من تيري وجيري بعضهما البعض رغم أنهما، وفق اللعبة الأصلية كانا ميتين الآن.
لكن، على عكس ما حدث في اللعبة، لم تستطع تيري النهوض فورًا من السرير.
شعرت بالقلق، فسألت فيفيان عن آلية عمل منبع كل شي.
لكني ندمت فورًا على السؤال.
“إنه مثل تأثير استعادة الشكل! يعيد الجسم إلى حالته الأصلية كما كان قبل 24 ساعة، ويُرمّم أي ضرر حدث لاحقًا،
لو كانت السيدة تيري قد تلقت الإصابة منذ أكثر من 24 ساعة، لما كان النبع قادرًا على علاجها، لأنها ستكون قد تضررت بالفعل في الزمن الأصلي.”
ما هذا الكلام…
غمرني ذلك الشعور الكئيب مجددًا الشعور بأني أغبى شخص على وجه الأرض.
لكنني حاولت أن أفسّر كلامها بطريقتي:
“إذًا… كأنك تُعيدين الزمن إلى اليوم السابق؟”
فجأة، شحب وجه فيفيان تمامًا.
هل قلت شيئًا غبيًا جدًا؟
هممت بتحويل نظري بعيدًا عنها من شدة الإحراج،
لكنها بادرت بنفي متوتر:
“لا لا! ليس كذلك! إنها ليست عودة بالزمن!
السفر عبر الزمن من المحرمات السحرية!”
ثم دفعت نظارتها إلى أعلى أنفها وبدأت بشرح طويل عن آلية النبع مجددًا.
لكنني، بصراحة، لم أرَ فرقًا بين المحرّمات ومنبع كل شيء.
“إذًا باختصار، تعويض الضرر الجسدي يستهلك كمية ضخمة من الطاقة،
وبسبب الحالة المؤقتة من نقص الغذاء، تحوّلت المريضة المحتضرة إلى وحش جائع يلتهم كل ما حوله.”
“نعم، بالضبط!”
وراءها، كانت تيري تلتهم الطعام بنهم لا يُصدّق.
ليو كان يعمل كالسنجاب، ينقل الأطعمة إلى سرير تيري دون توقف،
لكن سرعة الأكل كانت تتجاوز قدرته على التوصيل.
“تعال إليّ، يا كستناء الفئران.”
جاء ليو إليّ بسرعة.
مسحتُ عرق جبينه، وأخذت لحظة لأنتقي كلماتي.
رغم أنني لم أشرح له كل التفاصيل،
لكنه بدأ وكأنه فهم أن ما مرّت به تيري كان خطيرًا للغاية.
“كستناء الفئران، خلال الفترة القادمة، ستحدث أشياء كثيرة من حولي.”
“نعم.”
أومأ ليو بوجه جاد للغاية.
“قد أضطر لمغادرة القصر أيامًا،
قد يأتي صباح لا أستطيع فيه أن أضمّك، أو ليلة لا أقول لك فيها تصبح على خير، لكن…”
“لكن ستعودين، أليس كذلك؟”
قالها قبلي.
احمرّت وجنتاه فجأة،
وتلفّت حوله، يبحث عمّن قد يكون يسمع.
وحين تأكد أن لا أحد يراه، وضع يديه على خصره وتباهى بصوت مرتجف:
“أنا… أنا فأر الآنسة بليندا الثمينة
بل الفأر الخارق.. الملك الأعظم للفئران!”
“… صحيح.”
“لهذا، لا تقلقي أنا بخير، آنسة بليندا.”
شعرت بعقدة صغيرة في حلقي.
متى كبر ليو الصغير إلى هذه الدرجة،
يحاول أن يواسي قلبي الصغير بطريقته المحببة هذه؟
بكلماته، استعدت قوتي.
وبدأت التنفيذ فورًا.
رسالة فسخ الخطبة التي سلّمني إياها السير بيناديل.
رسالة إليانور، التي أحضرتها تيري مخاطِرةً بحياتها.
واعتراف شوفيل، بأنه سمّم عمي ، أمامي، بكل وضوح.
كل قطعة من هذه الأحجية بدأت تجد مكانها.
كتبت عدة رسائل تشكّل جزءًا من خطتي.
أدركت أن خادم شوفيل كان يتتبع تيري بسبب تسرب رسالة الحمام الزاجل،
لذا قررتُ استبداله بـ كاو.
طالما أنني أشارك رؤيته، فسأعرف ما إذا وصلت الرسالة بأمان.
“كاو.”
ناديت اسمه بخفة،
فامتدت نهايات ظلي الطويل تحت غروب الشمس، وانبثق منها كاو.
ما إن حطّ على كتفي، حتى صدر صوت طقطقة في مفصل الباب.
“من هناك؟”
أدرت رأسي بسرعة
لكن لا صوت.
فتحت الباب على الفور.
لم يكن هناك أحد.
“لا بد أنها كانت أوهامًا.”
تمتمت بذلك عن قصد،
وأنا أمدّ يدي لأدلّك فك كاو الجالس على كتفي.
***
لا يمكن مقارنة معبد العاصمة من حيث الحجم والهيبة بالكنيسة العليا في الإمبراطورية المقدسة،
لكنه لم يكن يقل عنها في الفخامة.
فالاهتمام المفرط من قِبل الإمبراطورية بكنيسة كزينوس لم يكن بدافع التقوى،
بل لمجرد إثبات التفوق أمام برج الرماد.
يلي هو برج السحر
ففي الأصل، لا يُسمح بتعايش برج السحر والكنيسة في مملكة واحدة.
لكن مملكة كزينوس، بسبب حدودها المشتركة مع غابة الحاجز التي تقي من الوحوش،
كانت منطقة حرجة.
لذا، بتفاهم بين الإمبراطورية والجمهورية السحرية،
تواجدا معًا فيها، يراقبان الشمال.
ومع ذلك، كان الكاهن الأعلى المشرف على كل كنائس المملكة
رجلًا جشعًا،
ينصت لهمس الذهب أكثر من صلوات السلام.
ولذلك، حتى يبلغ شوفيل أعمق أروقة المعبد تلك التي تفوق في عزلتها القصر الملكي اضطر لصرف كميات كبيرة من الذهب.
ومع ذلك، لم يكن منزعجًا.
فالفساد… يسهل السيطرة عليه.
من بين كيسَي ذهبٍ أخذهما معه،
أنفق أحدهما بالكامل ليصل أخيرًا إلى وجهته: الكاهن الأعلى.
“ليباركك الرب، يا بني.”
انحنى شوفيل، ووضع الكاهن الأعلى يده على جبهته يباركه.
ثم، وهو يحتسي الشاي المقدم، قال بلهجة حذرة:
“جئتك بعد أن أرّقتني هموم ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ ، هناك أمر يقلقني… شديد الإحراج.”
“تفضل، فالأرواح التي تتعذّب للوصول إلى الحق، هي أكثر ما يرضي الرب،
ولعل لقاؤنا اليوم يخفف عنك هذا العبء.”
كان كلامه ناعمًا، وصوته وديعًا،
رغم أنه يحتلّ أعلى المناصب.
أخذ شوفيل يتفحص وجهه الهادئ، ثم قال:
“شقيقتي الصغيرة أيقظت قدرة خارقة ، لكنها… قدرة لا تُغتفر.”
“لا تُغتفر؟ كيف ذلك؟”
“إنها تتحكم بالوحوش الشر المطلق،
أخبرك بهذا بصفتي مؤمنًا مخلصًا.”
“لا يمكنني التغاضي.”
” من يستخدم الوحوش كالعبيد،
لا يختلف عن السحرة السود.”
“يا لهول تلك القدرة…!”
“وأظن، وهذه فرضية شخصية،
أنها لم تكتسبها إلا من خلال السحر الأسود،
فلا أحد يوقظ قدرة خارقة بعد البلوغ.”
“فرضية وجيهة…”
تنهد الكاهن، لكنه لم يقل ما يريده شوفيل.
ومع ذلك، لم يُظهر شوفيل انزعاجه.
ابتسم برفق.
“إن استطعتُ تطهيرها،
سأُنقذ سمعة عائلتي، وأغسل ذنبي كأخ.”
وهنا، أخرج كيسًا صغيرًا ووضعه على الطاولة.
بدا الكاهن وكأنه يحاول ألا يحدّق فيه لكنه فشل.
بدأ شوفيل بفك رباط الكيس، وقال:
“أقدّم ذهبي قربانًا للرب.”
“بـ… بكل هذه القطع الفضية…”
“وهذا ليس سوى جزء بسيط،
لا شيء يُظهر إخلاصي أفضل من التبرع للكنيسة.”
“هممم.”
أدرك الكاهن أنه كان جشِعًا أكثر من اللازم،
فأبعد عينيه بصعوبة عن الكيس، ثم قال بلهجة متصنعة الجدية:
“ترى أن أختك، صاحبة القدرة على السيطرة على الوحوش، لا تختلف عن الساحرات السود.”
“بالضبط. لذا… أودّ التبليغ عنها.”
“تبليغ رسمي، إذًا… حسنًا،
القدرة مريبة بما يكفي لتُعامل معاملة السحر الأسود ، لا بد أن ذلك أرهقك نفسيًا.”
حين مدّ الكاهن يده أخيرًا نحو الكيس.
طَقطَق.
أمسك شوفيل بالكيس أولًا.
“هل تتعهد بالأمر إذًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 122"