الحلقة مئة وعشرون.
يا لحسن الحظ أن شوفيل بلانش لم يعلم بأمر هذه الرسالة.
تيري، التي غمرها السرور لحظّ غير متوقّع، وضعت الرسالة في الجيب الداخلي لمعطفها.
لكن فجأة، إحساس غريب وغير مريح اخترق ذاكرتها مثل إبرة حادّة.
“هل من المعقول أن شوفيل بلانش… لم يعلم حقًا؟”
حتى إن لم يكن يعلم بوجود الرسالة، فإن وجود الموثّق وحده كان لا بد أن يكون له كالشوكة العالقة بين الأظافر.
فالموثّق كان الشخص الوحيد الذي من الممكن أن يعرف أن الوصية قد تمّ تعديلها مرة واحدة.
ومع ذلك، لم يُمَس الموثّق بسوء حتى الآن،
بسبب الذنب والقلق الذي اجتاحه بعد ما حصل لبلانش، اختفى وغادر العاصمة حالما تم نشر الوصية.
كلاب الشوارع بارعة في القتال الجسدي،
لكن في جمع المعلومات؟
هم بالكاد يرقَون لمستوى الجرذان.
خصوصًا أولئك الذين اتخذوا العاصمة مركزًا لهم،
تحكمهم قاعدة صارمة: عدم مغادرتها ابدًا.
بمعنى آخر، إن خرج الهدف من العاصمة،
فلا وسيلة لديهم للوصول إليه.
حتى مساعد شوفيل، الذي كان سابقًا أحد هؤلاء الكلاب،
لم يكن استثناءً، إذًا، كيف حاول ذلك المساعد العثور على الموثّق الذي اختفى تمامًا؟
تيري، التي فكرت على طريقة الكلاب، تمتمت بشتيمة منخفضة:
“تبًّا، اللعنة.”
مساعد لا يُعرف مكانه…
بدأت تشعر أنها تعرف أين قد يكون.
تحركت تيري بخفة، دون صوت، وتقدّمت نحو النافذة المحاطة بستائر.
ألقت نظرة خاطفة إلى الخارج.
من نزل تيل، الواقع في أكثر شوارع المقاطعة نبضًا بالحياة،
رأت المارة يستمتعون بيوم مشمس رائع.
لكن ما لفت نظر تيري…
كان وجود مجموعة من الأشخاص الذين يبدون وكأنهم يتجولون قرب الفندق بلا هدف.
“جيري.”
عند نداء تيري، قطب جيري، الذي كان لا يزال متنكر بزي فتاة، شفتيه.
لكن حالما رأى الملامح الجديّة على وجه تيري، تماسك وسأل:
“ما الأمر؟”
“نتعرض للمراقبة، علينا مغادرة هذا المكان حالًا مع الموثّق.”
كيف يجد الكلب هدفًا ضائعًا؟
الأمر المثير للسخرية هو أنهم يتّبعون أسلوب الجرذان…
***
مجموعة من الوجوه القاسية أحاطت بالفندق، يتبادلون النظرات فيما بينهم.
كانوا من تلك العصابات المغمورة في أزقة المقاطعة.
أشخاص يقومون بأي شيء مقابل المال.
لكن مقارنةً بحي الصفيح في العاصمة،
فحتى أزقة المقاطعة بدَت لهم كالجنة.
لم يكونوا يدركون مدى تفاهتهم، وراحوا يمتدحون أنفسهم باعتبارهم أخطر أشرار العالم.
إلى أن جاءهم زبون قبل أيام قليلة، ممسكًا بكيس ممتلئ بالذهب.
رجل بلا ملامح مميزة على الإطلاق، قدّم نفسه باسم هاوند،
وطلب منهم اختطاف شيخ مسنّ يقيم في الفندق.
فرحوا بالفرصة، لكن فرحتهم لم تدم طويلًا،
إذ أدركوا سريعًا أن عملية الاختطاف أصعب بكثير مما ظنّوا.
“ما بال هذا العجوز الاجتماعي؟”
فالاختطاف يتطلّب ألا يكون هناك شهود،
لكن الشيخ كان اجتماعيًا إلى درجة أن أحدًا لم يبتعد عنه قط.
حتى في الليل لم يستطيعوا التسلل إليه،
لأن النزل كان من الطراز الراقي ولم يُسمح لهم بدخوله أصلًا.
ثم سنحت لهم الفرصة.
خرج العجوز برفقة امرأتين متوجهين إلى محطة تأجير العربات.
عربة مُغلقة معزولة عن أعين الناس.
فرصة مثالية للاختطاف…!
“أظنهم أدركوا أننا نتعقبهم.”
صوت مفاجئ من خلفهم جعل الرجال يقفزون رعبًا.
“آه!”
“هاه؟! منذ متى وأنت هنا…؟!”
“كدت أختنق من الخوف…”
هاوند، الذي كان يراقب المبنى حيث دخل الهدف، بدا هادئًا كليًا.
حتى أنهم لم يلاحظوا أن هناك مشكلة…
إلا حين صعد أربعة أشخاص كانوا يغمرون أجسادهم بعباءات طويلة حتى الأقدام إلى أربع عربات منفصلة.
“من منهم هو العجوز؟”
وفي تلك اللحظة التي ترددوا فيها…
انطلقت العربات الأربع في اتجاهات متفرقة: شرق، غرب، شمال، وجنوب.
خطة مثالية لتشتيت الملاحقة.
نظر هاوند إلى سائقي العربات بدلًا من ركابها، ثم قال بهدوء:
“سأتبع العربة المتجهة شمالًا.”
ثم، كعادته، اختفى دون صوت.
أما الآخرون، فاستفاقوا أخيرًا، وبدأوا في ملاحقة بقية العربات.
العربة التي لاحقها هاوند اندفعت شمالًا بسرعة،
إلى أن وصلت طريقًا ترابيًا نائيًا خارج أسوار القلعة، فبدأت تبطئ.
نهض السائق خافيًا رأسه ، وقفز بخفة على الأرض.
“طال غيابك يا هاوند.”
قالت بصوت مَرِح وهي تخلع غطاء رأسها.
إنها تيري، التي تنكّرت كسائق،
طرقت على العربة من الخارج، مشيرة للراكب الحقيقي أن يغادر، ثم تابعت حديثها:
“ما الأمر؟ كدت لا أتعرف عليك من شدة التغيير في ملامحك!”
“وكأنك لا تبدين مختلفة أنتِ أيضًا.”
هاوند، الذي نزل من على ظهر الحصان، أجاب بصوت بارد خالٍ من أي شعور.
رفعت تيري كتفيها بلامبالاة،
فقد مضت سنين منذ آخر لقاء بينهما.
حتى لو التقيا آنذاك،
لما عرف أحدهما الآخر بسهولة، إذ أصبح وجه كلٍ منهما أكثر هدوءًا، وكأن السمّ قد سُحب من ملامحه.
تمامًا كما لم يتعرفا على بعضهما البعض في قصر بلانش.
“كنتِ تعلمين أن هذه فخ، فلماذا عدتِ؟”
“لأني إذا قتلتك، فلن يبقى غير البلطجية.”
“هاه، لا يمكنني أن أنكر، أخي يشبه والدي كثيرًا، ضعيف إلى حدٍّ مؤسف.”
نزعت تيري عباءتها الثقيلة وبدأت تحرّك رقبتها لتستعد.
“لكننا كنا يومًا رفاق، أليس كذلك؟ فكر في هذا كطلب أخير من صديق قديم.”
لم يُجب هاوند.
لكن تيري أدركت أن صمته كان نوعًا من القبول.
فقد عاشا أربع فصول معًا في ساحة كلاب القتال التي تُديرها منظمة الكلاب.
المنظمة جمعت الأيتام الموهوبين من الأحياء الفقيرة،
ودرّبتهم في أماكن أشبه بأقفاص الكلاب.
ورغم أنهم كانوا يأكلون جيدًا ويملكون سقفًا،
فإن التسوّل في الشوارع كان أرحم من البقاء هناك.
كان التعليم هناك يتمثل في: كيف تضرب، وكيف تتحمل السم.
كل من كان يعيش هناك كان يحمل جراحًا،
حتى باتت ذكريات ذلك المكان كأطياف حريرية تتبخر.
ولكن الأمر الأكثر رعبًا في إقامتي هناك لم يكن خنق رقبة زميلي بيدي بينما كنا نائمين تحت نفس البطانية، ولا أن أتحمل السم وهو يحرق حلقي، والذي بدا حلوًا مثل الحلوى.
بل تلك اللحظة التي بدأ فيها الأطفال يحلمون بـ السيد الذي سينقذهم…
“إذا كبرتم وأثبتم جدارتكم، فسيأتي السيد ليحرركم بنفسه.”
هذا السيد ، الذي لم يروه قط، اصبح هو الأمل.
غسيل دماغ عقلي ونفسي ممنهج.
تيري لم تتحمّل ذلك.
ألا تكون سيدة حياتها؟
أن تسلّم زمامها لشخص آخر؟ مستحيل.
وكانت واثقة أن هاوند شعر بالمثل.
“ها قد نضجوا جرائي الجميلة ، من اليوم، أنتم كلاب حقيقية غدًا، ستقابلون السيد.”
في تلك الليلة بعد سنة من العذاب،
تلاقت عينا تيري وهاوند.
لم يتحدثا أبدًا،
لكن نظرة عابرة قالت كل شيء:
“فلنهرب.”
وفي اليوم الذي فُتح فيه القفص:
“تبًا! هؤلاء الأوغاد عضّوني! أمسكوهم!”
تيري وهاوند هربا معًا،
بحثًا عن النجاة فقط.
ثم، بحظ عجيب، تبنّتهم منظمة الجرذان.
ذلك كان مصير تيري،
واليوم فقط، عرفت مصير هاوند.
“هل تردّ الجميل أيضًا يا هاوند؟”
كما تبنّتها الجرذان،
هو أيضًا، وجد الخلاص على يد إليانور باربيت.
رغم هروبهما من ساحة القتال،
فإن ما تعلّماه هناك ظل محفورًا في أرواحهما.
مثل الكلب الذي هدفه في الحياة هو اتباع أوامر سيده والحصول على الثناء من النتائج.
هاوند، دون أن ينبس بكلمة، أخرج خنجرًا رفيعًا مسطحًا من صدره.
لكن تيري واصلت حديثها دون أن تكترث:
“تعلم أن ردّ الجميل للأموات… لا فائدة منه.”
عندها فقط، رفع هاوند عينيه نحوها.
عينان سوداوان، كالثقب الأسود،
كأنهما لا تزالان عالقتين في قفص الكلاب.
ولأول مرة، ردّ على كلماتها:
“لكن لا بأس بذلك.”
“أحمق.”
سحبت تيري سلاحها بدورها.
ردّه للجميل لن ينتهي أبدًا،
لأن الميت… لن يمدحه أبدًا.
“سيدي كان يبدو ممن يفضل الستيك نَيًّا، لكن بالحقيقة كان يكره الدم، لذا كنت أتصرف بأدب أمامه، لكن الآن؟ سيدي لم يعد موجودًا.”
“فلنستمتع، كما في ساحة القتال.”
تيري أمسكت بالشفرة الحادة التي اندفعت نحوها بيدها المجردة.
رُسمت جروح على كفّها، لكنها لم تكترث.
“صحيح أني لم أهزمه يومًا في ساحة القتال… لكن ذلك كان في الماضي، وهذا هو الحاضر.”
رفعت كتفيها مرة واحدة، ثم اندفعت نحو هاوند.
التعليقات لهذا الفصل " 120"