الحلقة مئة وتسعة عشر.
لم ينبس كاتب العدل ببنت شفة لفترة طويلة، حتى خُيّل لتيري أن الرجل لن يتحدث أبدًا.
لكن بعد وقتٍ طويل، بدأ كأنّه استسلم، بل انعكس في ملامحه شيء يشبه الارتياح.
“أظنكم تسيئون الفهم، لذا دعوني أوضح… حين عدّل السيد جوناس وصيته، كان بكامل وعيه.”
كان يعلم أن كل محاولاته لتبرير نفسه لا قيمة لها أمام القانون، لكن…
رغم ذلك، ظلّ يتذكّر كل شيء بوضوح.
تذكّر آخر لحظات جوناس بلانش، كيف كانت تتوهج حياته مثل شمعة تحترق قبل أن تنطفئ.
***
قبل عدة أسابيع…
“لا تخبر أحدًا، وتعال إليّ بصمت. لديّ أمر أودّ أن أطلبه منك.”
هذا ما كُتب في نهاية ورقة قصيرة، حاملة توقيع جوناس بلانش.
ظن كاتب العدل في البداية أنها خدعة ثقيلة.
“من كتب هذا؟ أليس السيد بلانش على فراش الموت؟ من قد يتجرأ على مثل هذا العبث؟”
كاد يمزّق الورقة، لكن غريزةٌ تشكّلَت لديه عبر عقودٍ كمحامٍ، راحت تحكّ في مؤخرة رأسه.
“لكن، ماذا لو كانت فعلاً منه…؟”
في تلك الحالة، تجاهل هذا الطلب سيكون جريمة بحق إنسان يحتضر.
ولهذا، لم يجد بُدًا من التوجه إلى الفيلا الخاصة بعائلة بلانش، سرًا، كما كُتب في الورقة.
وهناك، وجده ينتظره، لم يكن مظهره يوحي بالضعف فحسب، بل بالموت الزاحف، ومع ذلك، كانت عيناه صافيتين كالسابق.
“في خزنة هنا أحتفظ بنسخة أصلية من وصيتي، أحضرها إليّ دون أن يعلم أحد.”
ارتبك كاتب العدل، لكن رهبة الرجل جعلته ينفّذ الطلب فورًا.
كان جوناس يبدو كجذع شجرة يابسة بالكاد كان واقفًا.
من المؤكد أنه لن ينجو حتى صباح اليوم التالي.
كان ذلك، دون شك، لحظة نادرة من الصفاء قبل النهاية.
وما آلم كاتب العدل، أن لا أحد من عائلته كان معه في تلك اللحظات المعجزة.
“غريب… إن كان لا يزال قويًّا وعاقلًا بما يكفي لإرسال صبي الزهور إليّ سرًا… ألم يكن من الأجدر أن يرسل إلى احد أبنائه؟”
أخذ جوناس ينظر إلى الوصية المفتوحة طويلاً، حتى ظنّ كاتب العدل أنه سيفارق الحياة وهو يمسك بها.
ثم تكلم:
“هل أنت متأكد من أن التوقيع في نهاية الوثيقة هو لك؟”
تفحص الرجل توقيعه بدقة، ثم أومأ.
“أنا واثق تمامًا.”
تنهد جوناس تنهيدة ثقيلة، كأنّ نصف روحه انسكب معها.
غطّى وجهه ظلّ الموت، لكنه تحدث بصلابة.
“سأقوم بتعديل الوصية.”
“ماذا؟! لا… لا يمكنك ذلك الآن يا سيدي… حالتك… حالتك لا تسمح…”
لم يجرؤ على قول “ربما لست بكامل عقلك”، لكنه أوصل الفكرة بطريقته.
لكن رد جوناس كان قاطعًا، كالصاعقة:
“محتوى الوصية تغير.”
“ه… هذا مستحيل! لا بد أنك تتذكر بشكل خاطئ!”
كان من الشائع ألا يعرف كاتب العدل محتوى الوصية بالتفصيل، كي لا يشكك أحد في نزاهته.
لذلك، لم يكن لديه مرجع يحكم من خلاله على صدق ما سمع.
“سيد جوناس، هل أنت متأكد من وعيك؟”
“هل أبدو لك كالمختل؟ انظر إليّ مباشرة!”
وفجأة، أمسك جوناس بياقة كاتب العدل، وسحب وجهه إلى قربه وهو يزأر.
لم يكن جوناس رجلاً عنيفًا حتى في شبابه… لذا كان هذا التصرف صادمًا.
ارتجف الرجل، لكنه نظر في عينيه… فلم ير جنونًا، بل حزمًا وعقلًا.
“لن أغيّر محتوى الوثيقة بالكامل، سأضيف فقط فقرة واحدة.”
كان يجب أن يرفض، فهذا ينافي مهنته وأخلاقياته.
“لكن… هل هذه عينا رجل مختل فعلاً؟”
لقد رأى في حياته من يستعيدون وعيهم فجأة قبل الموت، وجوناس كان أحدهم.
“أرجوك، إنها أمنيتي الأخيرة.”
تلك الكلمات، مع حقيقة أنه كان سيتقاعد قريبًا، أثرت فيه بشدة.
فبدأ يستجوبه بتفاصيل دقيقة: ما هي الوصية؟ ما عواقب تعديلها؟ هل تعرّض لضغط من أحد؟
أراد، في قرارة نفسه، أن يموت الرجل قبل أن يجيبه.
لكن جوناس أجاب عن كل شيء بكامل وعيه، وأخيرًا، بيد مرتجفة، أضاف بند المهر باسم بليندا.
ثم بدأ نور عينيه يخبو شيئًا فشيئًا.
وهمس بهدوء، كمن أزاح عن كاهله ثقل العالم:
“آه… كان عليّ أن أحمي تلك الطفلة… لكنني لم أكن أبًا صالحًا أبدًا.”
كانت تلك كلماته الأخيرة.
ومات في تلك الليلة، كما توقع كاتب العدل.
فيما بعد، سافر كاتب العدل إلى الشمال لإنهاء قضية منجم المهر، ثم أُعلنت الوصية رسميًا.
عاد كاتب العدل إلى الواقع، واختتم حديثه بمرارة:
“ترك لي رسالة، قال فيها إنه إن تعرضت حياتي للخطر، فعليّ التوجه إلى الكونت باربيت، وأنه، كدينٍ قديم، سيحميني.”
“رسالة؟”
أخرج الرجل ظرف من سترته، دون أن يفتحه من قبل.
تيري نظرت إليه بفضول.
“لم تفتحه؟”
“أوصاني السيد جوناس ألا أقرأه، بل أعطيه للكونت مباشرة، ولهذا أنا هنا… لكن، بعد أن اعترفت بجريمتي، لم أعد أرى لحياتي قيمة، حان الوقت لأدفع الثمن.”
“إذن، دعني أفتحه بالنيابة عنك.”
“ما… ماذا تفعلين؟!”
خَطَفَت تيري الرسالة وفتحتها بسرعة.
“هذا وقح! كيف تجرؤين على فعل ذلك!”
لكنها أوقفته بيد واحدة، ورفعت الرسالة بالأخرى، وبدأت تقرأ.
كانت رسالة من إليانور بلانش، زوجة جوناس ووالدة شوفيل.
المرسلة: إليانور باربيت ، يبدو أنها كُتبت قبل زواجها من جوناس، أثناء فترة الخطوبة.
خلال قراءتها، غابت ملامح تيري.
“السيد جوناس بلانش، لا يمكنني أن أكون زوجة فاضلة، والدي، الكونت باربيت، يخدعك.”
“في هذه الخطبة المدبرة، تخفي عائلتي خداعًا فظيعًا.”
“……”
إليانور، الابنة الثالثة لعائلة باربيت، كانت الأجمل، والأكثر نقاءً، وقد أحبها والدها ككنز.
لكن الجميع صُدم عندما زوجها الكونت من ابن غير شرعي لعائلة بلانش.
خاصةً أن بعض النبلاء كانوا يزدَرون هذه العائلة بعد أن باعت أملاكها.
وكان الكونت باربيت من بينهم، فما الذي دفعه لأن يزوج ابنته المدللة بتلك السرعة؟
الجواب، كان في هذه الرسالة.
“لن أبرر موقفي، لديّ حبيب، وأنا حامل بطفله، لذا، لا يمكن لهذا الزواج أن يتم.”
“أعيدها الآن فورًا!”
“أحقًا؟ لم تقرأها؟”
“قلتُ لك إنني…”
“جيد أنك لم تفعل، لو قرأتها، لكنت الآن في عداد الموتى.”
قالت تيري ذلك وهي تبتسم، لكن نبرتها كانت مشحونة.
تجمد كاتب العدل مكانه.
“أتريدها؟”
“…لا، لا حاجة، لقد كُشفت محتوياتها كُخخ، حسنًا.”
تراجع وكأن بها سمًّا.
“قرار حكيم.”
قالت تيري بابتسامة هادئة، وهي تطوي الرسالة.
لكن عقلها كان يعمل بأقصى سرعته.
“شوفيل بلانش، ليس ابن جوناس.”
من المؤكد أن والد الطفل كان من العامة، شخصًا لا يمكن لعائلة نبيلة أن تقبله.
وربما لهذا أُجبرت إلينور على الزواج من رجل نبيل، رغم حملها.
والدها، الكونت، كان من أولئك الذين يقدسون الدم النبيل كالإله.
لا يمكنه تزويج ابنته الحامل من ابن العامّة لرجل نبيل ذا شأن.
“أحبها كثيرًا، لذا لم يُرغمها على إجهاض قد يقتلها…”
ربما كان هذا، في نظره، الخيار الأفضل.
لكنه لم يتوقع أن ترسل ابنته مثل هذه الرسالة إلى جوناس.
التعليقات لهذا الفصل " 119"