الحلقة مئة وسبعة عشر.
“راشيل دوكوف؟”
عندما نطقتُ باسمها، رفعت المرأة رأسها وهي تريح جوادها تحت شجرة عتيقة بينما كانت تطعمه من العشب.
كان تساؤلي في نهاية الاسم نابِعًا من دهشتي؛ فالفتاة التي وقفت أمامي كانت أقرب للطفولة منها للشباب، وكأن كلمة صغيرة أليق بها من شابة.
نظرت إليّ بعينين ثابتتين، ثم مالت برأسها وسألتني:
“بليندا بلانش؟”
عندها فقط أدركتُ فظاظتي، فسارعتُ بالترجل عن فرسي قائلة:
“أعتذر، يا كونتيسة دوكوف.”
خفّ شيءٌ من حدة نظرتها المتحفّظة.
“وأنا أعتذر، لم أتوقع لقائنا، فتصرّفتُ على نحوٍ غير لائق.”
أومأت برقة، وأخذت تمسح برفق على رأس جوادها الواقف إلى جوارها.
كانت شهرة راشيل دوكوف وشغفها بركوب الخيل منتشرة، فقد ذاع صيتها كأصغر متسابقة في سباقات الخيول الملكية لهذا العام.
استغليتُ تلك النقطة لأواصل الحديث بشكل طبيعي:
“كنت أبحث عن نادٍ للفروسية، ولاحظت النادي الذي انضمت إليه الكونتيسة.”
“إنه نادٍ عريق، وأظن أنه سينال استحسانكِ، يا آنسة بلانش.”
ولحسن الحظ، بفضل شظايا ذكريات بليندا، كنت أُتقن جيدًا نظريات ومهارات الفروسية، مما جعل الحوار يسير بسلاسة.
وفوق ذلك، لم تُبدِ راشيل أي شعورٍ بالاستياء مني.
وبينما كنت أسترق اللحظة المناسبة لأدخل في صلب الموضوع، قاطعتني:
“يبدو أنكِ اكتسبتِ هوايات جديدة مؤخرًا القمار أولًا، والآن الفروسية، إن قلتِ إن هوايتك القادمة ستكون جمع التحف الفنية، لما استغربتُ.”
كان صوتها ناعمًا، يشبه الفتيات المبتدئات في المجتمع الراقي، لكن كلماتها كانت مثل الصفعات الصامتة.
تجمد لساني.
فالقمار هو هواية زعيم عائلة راشيل، والفروسية هي شغف دوكوف، أما جمع التحف الفنية فهو تسلية لزعيم عائلة سيلفيو.
إن كانت تقصد بهذه الجملة علاقاتي الأخيرة مع رؤساء تلك العائلات الثلاث…
” اذًا إن سنحت لكِ الفرصة، لم لا تزورين قصر سيلفيو معي؟ سمعتُ أن لديهم مجموعة رائعة من التحف.”
لمحتُ إليها بهدوء.
“أعتذر، لكني لا أهوى تأمل الأعمال الفنية.”
رفضت دعوتي بلطف، لكنني لم أكن لأتراجع بهذه السهولة، فبدون تأكيد دعم زعيم سيلفيو، كنت بحاجة على الأقل لجذب اهتمام راشيل.
“يقال إن ميزان دوكوف الذهبي لا يختل، ولكنك رفضتِ قبل أن تسمعي ما أضعه على الكفة، هل يا ترى، منذ أن أصبحتِ كونتيسة، بدأ ذلك الميزان يميل لأحد الجوانب؟”
لمّا ألقيتُ بتلك الجملة الاستفزازية الخفيفة، تجمدت ابتسامتها للمرة الأولى.
كانت ذكية وناضجة، تفوق عمرها، لكنها لم تتقن بعد فن إخفاء المشاعر.
ربما شعرت بالإهانة، إذ سكتت للحظة لتلتقط أنفاسها، ثم تحدثت بجدية لم تظهر بها من قبل:
“لا أعلم ما الذي تسعين إليه، يا آنسة، لكنني، بل وعائلة دوكوف، لن تكون جزءًا من مخططاتك.”
بدا وجهها للمرة الأولى عاريًا من كل أقنعة.
ابتسمتُ بأريحية مصطنعة، وهززت رأسي بهدوء.
“حتى لو وعدتكِ بأي مكسب؟”
عُرِف عن دوكوف عبر الأجيال أنهم لا يتحركون إلا لمصلحة ما، كان عليها أن تُظهر اهتمامًا بكلامي…
“حتى لو وعدتِني بأي مكسب، فلن يتغير موقفي.”
…لكنها لم تفعل.
“لا أريد أن أتصادم معكِ مجددًا، لذا سأكون واضحة، لولا دعم عمك، السيد جوناس بلانش، لما كنتُ في هذا المنصب، لقد كان يؤمن بي، وهو السبب الوحيد الذي مكّنني من أن أصبح زعيمةً لعائلة مثل دوكوف، رغم أنني مجرد فتاة صغيرة.”
ظهرت لمحة حنينٍ في عينيها، رغم ما اعتدنا عليه من صلابتها.
عندها فقط أدركتُ أنني كنت أستهين بعائلة دوكوف.
“ما قلتِه صحيح، ميزان دوكوف الذهبي لا يرحم، حتى الإله نفسه يُوزَن عليه، لكن هذا لا يعني أنني بلا مشاعر أو بلا ضمير.”
وبهذه الكلمات، قفزت إلى صهوة جوادها.
“زعيم سيلفيو اختاركِ لأنكِ من دماء العائلة، وأنا كذلك، بما أن شوفيل بلانش هو الابن الحقيقي لجوناس، فلن أعارض مصالحه، حتى وإن كان في ذلك ضرر لمصلحة عائلتي.”
ونظرت إليّ من علٍ، وعيناها تتوهجان صلابةً.
صحيح أنني فشلت في كسب تأييدها، لكن الأمل لم ينقطع بعد.
نظرت إلى عينيها بثبات وقلت:
“ولو كان لديّ من الأسرار ما يكفي لتحطيم ذلك الميزان، فهل تظنين أنه سيظل ثابتًا؟”
“…لو أنكِ قلتِ ذلك وأنتِ تضعين زهرة على قبر جوناس، لربما تغيّر شعوري لكن… فات الأوان، يا آنسة.”
واستدارت برشاقة وغادرت.
ظللتُ أحدّق في اتجاه مغادرتها، ثم وضعت يدي على جبهتي وزفرت تنهيدةً ثقيلة.
آه يا عمي… كم من الخير صنعتَ في حياتك؟
لكي أكسب قلب راشيل دوكوف، لا مفر من كشف الحقيقة: أن شوفيل هو من قتل عمي.
لكن المشكلة تكمن في أنني لا أملك دليلاً، سوى اعترافه.
ولحسن الحظ، لدي خطة لانتزاع ذلك الاعتراف.
كل ما ينقصني هو سبب مقنع، دافع مقنع لجريمته.
“لا يمكنني الكشف عن أمر التسميم حتى أعثر على دافعه.”
وحتى ذلك الحين، يبدو أن كسب تأييد راشيل سيبقى بعيد المنال.
لكن خيبات الأمل لم تقف عند هذا الحد.
عندما عدت إلى قصر بلانش، كانت فيفيان بانتظاري، وقد جمعت شعرها على هيئة جديلتين منخفضتين.
كان يُفترض أن يكون وجهها مشرقًا، كطالبة عادت بدرجات كاملة في الامتحان، لكنها بدت حزينة بطريقة لم أرها من قبل.
من المؤكد أن برج السحر اعترف بموهبتها… فما سبب هذا الحزن؟
أشرتُ بعيني إلى تشاشر الواقف بجانبي، فاقترب وهمس في أذني:
“البرج يشك في أن فيفيان ليست صانعة جرعة العلاج، بالنسبة لهم، فتاة كانت في المرتبة الرابعة حتى وقت قريب ، مجرد متدربة… من المنطقي أن يشكّوا.”
” وهناك أيضًا أسباب سياسية؛ فلو ثبت أن ساحرة من خارج البرج صنعت جرعة بهذا التميّز، فذلك يُهين سلطتهم.”
خفضت فيفيان رأسها كمن يحفر نفقًا، وهمست بيأس:
“إنه محق، لم يخضعوا الجرعة لاختبارٍ جاد… وأنا تصرفت وكأنني حققت إنجازًا عظيمًا مقابل قارورة واحدة…”
يا لهم من وقحين! لم يتمكنوا من تمييز جوهرة، والآن يشككون بها!
شعرت أن كل شيء يسير عكس ما أرجو.
تنهدتُ وأنا أفكر في تيري، التي انقطعت أخبارها منذ أيام.
“أتمنى فقط أن تحمل تيري خبرًا سارًا.”
***
في مقاطعة باربيت – داخل إحدى الحانات
جلست فتاة صغيرة بوجه طفولي وشعر قصير ووضعت ذقنها على كتف رفيقتها وهمست:
“ما المكتوب في الرسالة؟ وجهكِ شاحب كالثلج.”
تأففت الأخرى وأزاحت ذقن الفتاة بقسوة وقالت:
“لا تناديني يا أختي، تصيبيني بالقشعريرة.”
نفخت الفتاة وجنتيها ثم نظرت إليها بنظرات ماكرة، تمسح بعينيها تفاصيل وجهها.
شعر رمادي قصير، ملامح محايدة، وملابس رجالية… أقرب إلى شاب وسيم.
لذا، تكلمت بلا خجل:
“حسنًا، سأناديك أخي.”
“هيه!!”
“ماذا، أخي؟”
كان تغييرها السلس في الألقاب كفيلًا بأن يصيب تيري بالقشعريرة.
“هل تُمسّين حين تتنكرين؟ كيف تقولين ’أخي‘ دون أن يرف لكِ جفن؟”
أي شخصٍ في الطريق لو رآها، لقال إنها أخت صغيرة جذابة… لكنها ليست كذلك.
“بل هي أخي متنكرًا في هيئة أخت.”
في أرضٍ غريبة خارج العاصمة، لا أحد يضاهي جيري في جمع المعلومات.
ولهذا استعانت تيري به في هذه المهمة، رغم التكلفة الباهظة.
“الرجل الذي يُظن أنه الموثِّق نزل في فندق فارزين.”
“ويقال إنه يُقامر أحيانًا، مما يعني أن بوسعنا الاقتراب منه داخل صالة القمار.”
“أختي، اليوم سأتقمص شخصية نبيلة، فامنحيني مصروفًا، أريد التسوق في البوتيك.”
كان جيري يتنكر كل يوم بشكل جديد، يذوب في محيطه بلا أي نفور، ويجمع المعلومات بلا هوادة.
كان مذهلًا في هذا المجال… لكن تكلفة تنكراته كانت باهظة.
تيري سدَّدت كل شيء باستخدام السندات المالية التي أعطتها لها بليندا.
وقد تطلب الأمر كثيرًا من الجهد لصرف تلك السندات دون الكشف عن هوية بليندا، عبر انتحال هويات مزيفة.
لم تكن تظن أن الأمور ستتأزم هكذا… حتى تلقّت منها رسالة تطلب فيها أن تضع كل ما يملك على المحك.
والآن، وقد شارفت على الإفلاس، جلست تيري تُمزق شعرها.
وبينما هي تتأوه، راح جيري يتأملها ثم قال:
“أختي، ما الذي يعجبك في تلك النبيلة بالضبط؟”
التعليقات لهذا الفصل " 117"