الحلقة مئة وستة عشر.
***
“آنسة بليندا! أخيرًا، أخيرًا…!”
جاءت فيفيان وهي تَصيح و تقتحم باب مكتبي بقوة، فيفيان التي انسدلت الظلال تحت عينيها حتى بدت وكأنها تصل إلى طرف ذقنها.
قبل أن تنطق بكلمة، كنت أعلم، بل شعرت في أعماقي، بأنها جلبت خبرًا سعيدًا طال انتظاره.
فكيف لا؟ وقد رأيت شعرها المضفور إلى ضفيرتين، مشدودًا إلى أعلى، بعلو لم أعهده من قبل، كما لو أنها رفعت روحها معه.
كانت فيفيان تتقدم نحوي، كأنها تحمل بين كفيها عصفورًا صغيرًا سقط من عشه، تحتضن شيئًا كما لو كان كنزها الأثمن، ثم مدت يديها نحوي بثقة لا تشوبها ذرة تردد وقالت بفخر:
“لقد أتممت أخيرًا ما طلبتِ مني إنجازه!”
وفي راحتيها، استقرت قنينة حمراء بحجم كف اليد، صغيرة، لكن حضورها كان طاغيًا.
ولم أحتج حتى إلى شرحها، يكفي أن وقعت عيناي عليها، لأدرك على الفور ما تعنيه.
لقد نجحت فيفيان في إكمال “مبنع كل شيء” تلك المعجزة التي طالما حلمنا بها.
تناولت القنينة برفق، أتفحصها من زواياها.
كانت تبدو للوهلة الأولى كأنها زجاجة من الكريستال، إلا أن أشعة الشمس التي انسابت على سطحها جعلتها تتوهج بلون أحمر متراقص، كما لو أنها تحتضن شعلة صغيرة حية في أحشائها.
وفي اللحظة التي قبضت فيها على الزجاجة، شعرت بذبذبة خفيفة سرت في جلدي.
{ [عنصر] منبع كل شيء }
{ تحفة نادرة تجسد أمنية الساحرة فيفيان وبراعتها القصوى.}
{ كما ينمو ذيل السحلية المقطوع، يشفي هذا الإكسير الأجساد من أي فقد، مهما كان. }
وأخيرًا، أصبح “منبع كل شي” بين يدي.
ورغم أن نافذة النظام التي انبثقت أمام عيني كانت أوضح دليل على قوته، إلا أنني آثرت التظاهر بالجهل، متعمدةً أن أطرح السؤال ببرود.
“هل هذا هو الإكسير العلاجي الذي طلبتُ منك صناعته؟”
ابتسمت فيفيان بفخر، وقالت، وهي تتوهج حماسًا يكاد يشتعل في عينيها:
“نعم! كان حجر الحمم هو المفتاح، آه، حجر الحمم هذا معدن يُعرف بقلب البركان، ولا يُستخرج إلا من البراكين النشطة قبيل ثورانها مباشرة، لذا فالحصول عليه كان بالغ الصعوبة، لكن بقية المكونات لم تتوافق مع الإكسير، ولهذا…!”
قاطعتها بنبرة حازمة:
“فيفيان، أوجزي الكلام.”
توقف سيل الكلمات الذي كان يتدفق من فمها كالنهر الجارف، وكأن صفعة خفيفة أسكتتها.
رمشت بعينيها مرتين، ثم زفرت، وأخذت لحظة لتستجمع أفكارها، قبل أن تعود لتشرح بنبرة هادئة أكثر رصانة:
“وجود حجر الحمم كان ضروريًا للحفاظ على دفء الإكسير…”
“يمكن الحصول عليه، لكن بما أنه معدن نادر للغاية، يبدو أن العثور عليه سيكون صعبًا.”
قالت فيفيان، وعيناها تتوهجان بمزيج من الأمل والقلق، ثم أضافت:
” تيري بحثت في الأمر، وتقول إن السوق لا يحتوي حاليًا إلا على خمسة أحجار فقط.”
بكلمة واحدة، كان معنى حديثها واضحًا:
حتى لو استحوذنا على كل حجر موجود في السوق، فلن نتمكن سوى من صنع خمس زجاجات من منبع كل شيء.
كلماتها جعلتني أغوص في صمت ثقيل، أُمعن التفكير.
“حتى في المتجر داخل لعبة هيرومي، لم يكن بإمكاني شراء أكثر من خمسة…”
كان الأمر مصادفة، لكن قلبِي لم يستطع تجاهل شعور غريب، كأنه شوكة صغيرة انغرست فيه.
فقلت لها بهدوء، لكن بحزم:
“سنحاول جمع كل أحجار اللافا الموجودة، إذا نجحنا، يمكننا صنع خمس جرعات، أليس كذلك؟”
أومأت بحماس، وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة مشرقة:
“نعم! والجرار يمكن إعادة استخدامها أيضًا! آه، وبالطبع، بعد ذلك أنوي تطوير تركيبة الإكسير ذاته!”
فيفيان، في تلك اللحظة، كانت تلمع عيناها بنفس البريق الذي رأيته يوم التقينا أول مرة؛ ذلك البريق النقي، كوميض نجم صغير، قبل أن تطفئه الخيبات ويُصقله الألم كحد السيف.
أنا، التي شهدت كيف خُبأ ذلك الضوء من عينيها حتى صارت كعين سمكة ميتة، وكيف تحولت إلى روح لا تثق بأحد، حادة كحد السكين… كنت أعلم جيدًا كم من الجهد بذلته هذه الفتاة لاستعادة بريقها.
ولهذا، وبلا تردد، وضعت الزجاجة الأولى في كفها الصغيرة، وضغطت عليها برقة، كمن يضع أمانة ثمينة بين يديها.
“المنتج الأول، سيكون من نصيبكِ.”
ابتسمت ابتسامة خافتة، لكن دافئة، وأضفت:
“أما أنا، فتكفيني الزجاجات الأربع المتبقية.”
فيفيان تجمدت، تحدق فيّ كأنها لم تستوعب الأمر:
“………ماذا؟”
كررت كلامي، بنفس الهدوء، لكنه كان كصفعة خفيفة أيقظت شيئًا بداخلها:
“خذي هذه الزجاجة، واذهبي بها إلى برج السحر، أعلني أمام الجميع أنكِ من صنعتها.”
“………ماذا؟”
مرة أخرى، ردّدت كلمتها نفسها، بذهول واضح، كمن فقد القدرة على التصديق.
فمددت يدي، وغطيت كفها المرتجفة التي كانت تقبض على القنينة، ثم همست لها:
“لقد آن الأوان أن تستردي ما سرقه منكِ ذلك الذي ادعى أنه معلمك.”
نعم، صحيح أن فيفيان لم تعد ساحرة تابعة لبرج السحر، لكني كنت واثقة أن أولئك الحمقى في البرج ليسوا أغبياء بما يكفي ليتجاهلوا قيمة هذا الإنجاز.
بل على العكس، كنت أرى بوضوح كيف سيتسابقون لرشوتها بالمال والمناصب، فقط ليعيدوها إلى صفوفهم.
وحينها، سيعود لقب “الساحرة العظيمة” إلى صاحبته الحقيقية.
لكن فيفيان، رغم الدموع التي بدأت تتلألأ في عينيها، تمتمت مترددة:
“لكن… هذا الإكسير، صنعته بناءً على طلبكِ يا سيدة بليندا… وبالأدوات السحرية التي منحتِني إياها…”
نظرت إليها بحدة هذه المرة، والنبرة في صوتي صارت أشبه بحد السيف:
“لن تكرري نفس الخطأ، أليس كذلك؟”
وكأن كلماتي اخترقت قلبها، فقد اهتزت شفتاها، وبدأت الدموع تتجمع أكثر في مقلتيها، لكن قبل أن تنهار، مسحت عينيها بقسوة، ورفعت رأسها عاليًا، بعزم لم أرَه منذ زمن.
ثم قالت، بنبرة تحمل قوة جديدة:
“صحيح… هذه الجرعة صُنعت بطلب من سيدتي بليندا، لكن، إن سمحتِ لي، أريد أن أكون أنا من يمنحها اسمها.”
ابتسمت، ولم أتردد لحظة:
“أسمح لكِ، بكل سرور.”
كنت أعلم أنها ستسميها..
“منبع كل شيء”، الاسم الذي سيُخلدها.
فأومأت برأسي، وقلت:
“اختاري الاسم، وليحمل معه كل ما ضحيتِ به من أجل الوصول إلى هذه اللحظة.”
ابتسمت فيفيان ووجهها لا يزال مبللًا بدموع لم تجف، لكنها كانت دموع فخر هذه المرة، لا خيبة.
ثم قالت، وهي تغالب انفعالها:
“شكرًا لكِ، سيدة بليندا… أعدكِ أنني سأسمي هذه الجرعة باسم يحمل جميلكِ، ليعرف الجميع كم كنتِ سبب نجاتي…”
“سأُعلِن للجميع من الذي صنع هذا الإكسير فعلاً!”
فيفيان… هل سمعتُكِ جيدًا الآن؟
هل قلتِ للتو ما ظننت أنني سمعته؟
لكن قبل أن أفتح فمي لأوقفها، صاحت بحماسة:
“سأذهب حالًا!”
“فيفيان، انتظري لحظة…!”
لكن صراخي ضاع هباءً؛ فما إن نطقت، حتى كانت قد اندفعت، وضفيرتاها تتراقصان خلفها كجناحي طائر، وهي تخرج من المكتب بأسرع مما رأيتها تتحرك يومًا.
وفي اللحظة التي اصطدمت فيها خطواتها الراكضة بأرضية الرواق، انفتح باب المكتب قليلًا، وظهر منه رأس ليوناردو، أو كما نناديه دومًا ، ليو، وهو يُطل بحذر.
قال بصوته الهادئ:
“سيدة بليندا، هل أنتِ مشغولة الآن؟ لقد وصلت عدة رسائل، بينها الحمامة التي أرسلتها تيري فجمعتها وأحضرتها إليكِ.”
نظرت إلى ليوناردو، وعيناي لا تزالان معلقتين بالباب الذي غادرته فيفيان للتو.
لم أستطع أن أصرخ بها لتعود أمامه؛ ليس الآن، ليس بهذه الطريقة.
وقفت هناك، جامدة، كأنني دمية قش عالقة في مهب ريح لا تستطيع مقاومتها.
ثم، بعد لحظة تردد، أشرت لليو بالدخول.
كانت تيري، التي سافرت في مهمة قبل يومين، قد أوكلت إليه جمع البريد أثناء غيابها.
الرسائل المتراكمة بين يدي الآن بدت ثقيلة، لا بورقها، بل بما تحمل من أسرار.
من بينها، كانت رسالة تتعلق بأمر ظل يشغلني طيلة الأيام الماضية.
منذ يومين فقط، بعد إعلان وصية عمي الراحل، استقال المُوثِّق القانوني لعائلة بلانش، واختفى كليًا عن الأنظار.
ورغم أن منظمة الفئران وهي شبكة استخباراتية تُجيد نبش الحقائق بدأت البحث عنه، إلا أنني كنت أعلم أن العثور على رجل غادر العاصمة ليس أمرًا يُنجز بين ليلة وضحاها.
فالمنظمة، رغم براعتها، لا يتعدى نفوذها حدود الأحياء الفقيرة في العاصمة، ولا تصل بسهولة إلى المقاطعات البعيدة.
ومع ذلك، استطاعوا أخيرًا تعقُّب أثره. تبيَّن أن المُوثِّق الهارب قد بدّل اسمه، واختبأ في مقاطعة باربيت، والتي تكون مسقط رأس الماركيزة الراحلة.
في ظروف أخرى، كنت سأُكلِّف الفئران بجلبه إليّ مباشرة، لكن، معلومات دقيقة وصلت إلى تيري، جعلتها تُدرك أن الأمر أخطر مما يبدو، ودفعتها لتولي المهمة بنفسها.
ليوناردو، الذي جلس قبالتي، مسندًا ذقنه إلى كفه فوق المكتب، قال بنبرة متشككة:
قلت بنبرة هادئة يعلوها الشك:
“أليس باربيت مسقط رأس الماركيزة؟”
“نعم، وهذا ما يجعل الأمر مريبًا، أن يُخفي المُوثِّق نفسه هناك، في أرض عائلة شوفيل بلانش من جهة والدته… رائحته لا تُعجبني.”
كان تزامن الأحداث غريبًا للغاية.
كنت قد بدأت للتو أُحقق في خلفية الكلب الضال ذلك الرجل، مستشار شوفيل، الذي تبنّته زوجة الماركيز الراحلة قبل وفاتها.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتقاطع تحقيقنا مع مكان اختباء المُوثِّق.
تيري، وقد أدركت خطورة الخيوط التي بدأت تتشابك، قررت السفر بنفسها، مستعدة لقضاء أسبوع كامل في المقاطعة.
ورغم أن رحيلها ترك فراغًا أمنيًا في القصر، إلا أن تدخل تشاشر الماهر ساعدنا على سد الفجوة، حتى الآن على الأقل.
قال ليو، وهو يرفع حاجبه بفضول طفولي:
“وهل كتبت لك تيري شيئًا مهمًا في رسالتها، سيدتي؟”
ابتسمت، وربتُّ على شعره برفق، كأنني أماً تداعب طفلها، ثم فتحت الرسالة، أقرأها بصوت منخفض.
كانت تيري، كعادتها، تسهب في وصف تفاصيل لا أهمية لها:
“يبدو أن مقاطعة باربيت أكثر دفئًا هذا العام، فالربيع حلّ فيها مبكرًا…”
ابتسمت بسخرية، وأنا أواصل القراءة.
حتى في مهمة شاقة، تجد الوقت للثرثرة.
وفي نهاية رسالتها، كتب ببساطة:
“لقد طلبت تغطية مصاريف الرحلة من صندوق المهام، لذا أرجو أن تهتمي بالأمر.”
وكأن الأمر لا يتعدى نزهة قصيرة، لا ملاحقة رجل هارب يحمل أسرارًا قد تقلب كيان العائلة رأسًا على عقب.
خشية أن يحدث ما لا يُحمد عقباه، كنت قد سلّمت تيري عدة أوراق مالية موقعة باسمي، حتى تتصرف بها أثناء رحلتها.
فالجدول المرهق الذي ينتظرها يبرر نفقات السفر، بل يجعلها واجبة.
لكن ما إن راجعت بنفسي أماكن صرف تلك الأوراق، حتى شعرت بسحابة ثقيلة تُطبق على صدري.
همست، وشفتي تجفان من وقع الصدمة:
“حانة… صالة قمار… فندق فاخر… متجر أزياء راقٍ؟”
عقدت حاجبي وأنا أضغط الورقة بين يدي.
“تيري… أيتها الوغدة، أليست مهمتك تعقُّب الموثّق الهارب؟ كيف تحوّلي الأمر إلى قمار؟ ولم اشتريتِ ملابس مستوردة… وباروكة؟!”
تنفست بحدة، أُخفي الغليان المتصاعد في صدري، ثم أمسكت بقلم الريشة كمن يتهيأ لمعركة، وبدأت أكتب الرد باندفاع، كأنني أفرغ جمرة في جوفي على الورق.
“لم أكن أعلم أنكِ مولعة بالقمار، يا تيري، حسنًا، حين تعودين، سنتبارى أنا وأنتِ في لعبة نرد واحدة…”
ثم، ضغطت بالقلم حتى كاد يمزق الصفحة:
“ونراهن فيها على كل ما نملك.”
أضفت في الهامش بضعة أسطر بمعلومات سرية حصلت عليها من ماري، كتبتها بخط دقيق لا يكاد يُقرأ، ثم أغلقت الرسالة بعناية، وثبّتها على قدم الحمامة الزاجلة.
أطلقتها في السماء، وأنا ما زلت أشعر بالغليان تحت جلدي، رغم نسمات الربيع التي بدأت تداعب الأفق.
***
في مملكة كزينوس، حين يُزهر الربيع، تبدأ سلسلة من الاحتفالات الملكية.
لكن، بخلاف حفلات الرقص المترفة التي لا يُسمح بحضورها إلا للنبلاء، فإن سباق الخيول، الذي ينظمه البلاط الملكي، كان حدثًا يحتفل به العامة كما يحتفل به الأشراف، دون تفرقة.
ولأن الأجواء بدأت تلين شيئًا فشيئًا، فقد اكتظت الغابات والمراعي الواقعة غرب العاصمة، بأولئك الذين جاؤوا للتدرب على الفروسية استعدادًا للموسم الكبير.
أما أنا، فكان مقصدي اليوم مختلفًا.
جئت أبحث عن دوكوف، سيد إحدى أكبر العائلات، وهو رجل ينتمي إلى نادي الفروسية البنفسجي، الأشهر بين تلك النوادي التي تعج بالفرسان والنبلاء.
حين سألت عنه، أجابني مسؤول النادي، رجل أشعث يرتدي شارة الإدارة، وهو يمسح جبينه المتعرق بظهر كفه:
“إن كنتِ تبحثين عن الكونت دوكوف، فهو الآن يُجري جولته على المسار الثامن، عادةً، لا يعود حتى المساء هل تودين الانتظار إلى حينها؟”
أدركت فورًا أن كلماته ليست سوى رفضٍ مهذّب.
فليس من المنطقي أن تستغرق جولة واحدة على المسار نصف يوم كامل، إلا إذا كان يُراد لي أن أفقد صبري وأرحل.
لكن، كما يُقال: اضرب الحديد وهو ساخن.
وكانت نيتي اليوم ألا أُفوّت الفرصة، مهما كلفني الأمر.
نظرت إلى الرجل مباشرة، وابتسمت ابتسامة باردة لا تصل إلى عيني:
“أعارني جوادًا هادئًا ومطيعًا، سأنطلق بنفسي في جولة على المسار الثامن.”
بدت على الرجل علامات الارتباك، وتوردت أذناه كما لو أمسكته متلبسًا.
حاول أن يتفادى نظري، وبدأت عيناه تدوران في محجريهما، يبحثان عن مهرب، لكنه في النهاية لم يجد مفرًا.
فأمر الخدم، وهو يتصبب عرقًا، أن يُحضِروا لي حصانًا أسود، بدا كأنه قطعة من الليل ذاته، لامع الجسد، نافذ النظرات.
التعليقات لهذا الفصل " 116"