الحلقة مئة وأربعة عشر
“يبدو أنك مررت بوقت عصيب.”
لم أجد غير هذه الكلمات المبتذلة، المكسوة بالعجز، أواسي بها ذاك الفتى.
كأنما أدرك متأخرًا إسرافه في الكلام، فابتلع ريقه، وسعل بخجل، قبل أن يضيف بشيء من التشتت:
“رغم كل شيء، والدي علّمني درسًا مهمًا… القمار طريق مظلم، وهو قد جسّد لي ذلك بنفسه، نعم… هذا هو الدرس الذي علمني إياه.”
رغم قسوته، كان لا يزال يدافع عنه… كأن قلبه يرفض أن ينزع عن والده عباءة الأبوة.
كان ذلك التناقض الإنساني الجميل… يُذكرني بصغيري، ليو.
“طفلي أيضًا يتحدث مثلك تمامًا.”
لاحت في ذهني صورة ليو، وهو يحاول دائمًا تلطيف كلماتي حين أقول شيئًا أرعن أمام الناس، فتمتمت، دون أن أشعر، بتلك الذكرى.
عندها، فتح الطفل عينيه بدهشة لم أعهدها عليه من قبل، وانعكس في عينيه لأول مرة بريق الطفولة الحقيقي.
“أعتذر… لم يخطر ببالي أن لديكِ طفل، فقد بدوتِ لي… جميلة أكثر من أن تكوني أمًا.”
ثم انحنى لي بانضباط نادر، يحاكي المثالية، فأدهشني ذلك المزيج الغريب بين التربية والبيئة التي أتى منها.
كيف لإنسان كـ هوليو أن يكون له ابن كهذا؟
ثم خطر لي خاطر جعلني أتجمد في مكاني.
ماذا لو كان هذا الفتى، البذرة التي تستحق أن تُروى؟
هوليو ليس إلا لؤلؤة ضائعة في عنق خنزير… لكن هذا الفتى؟ ربما هو الاستثمار الحقيقي، المستقبل نفسه!
“ما اسمك، أيها الفتى؟”
تطلع إليّ بتحفّظ قبل أن يجيب ببرود:
“إيان راشيل.“
“إيان… أظنك لا ترى جيدًا.”
“كيف عرفتِ؟”
“لأنك تنظر إليّ ولم يخالجك خجل، رغم أني أبدو لك امرأةً فاتنة.”
لم يفهم، وراح يميل برأسه كمن يبحث عن المعنى، فألقيت عليه ابتسامة هادئة، حنونة.
في هذا العصر، كانت النظارات رفاهية باهظة، ونظاراته تلك البسيطة لا بد أنها كلّفت الكثير.
لا، هوليو لم يكن والدًا صالحًا، لكنه على الأقل… أراد أن يرى ابنه الطريق.
“إذا أردت أن ترى بوضوح ما ينتظرك، فابحث عن بليندا بلانش من عائلة بلانش.”
“بليندا… بلانش؟”
تمتم الفتى، وكأن اسمي أضاء شيئًا في أعماقه ، مال رأسه، وتزحزحت نظاراته حتى بلغت طرف أنفه…
“أنا أحب جمع المواهب.”
همستُ بذلك وأنا أعدل نظارته الكبيرة بأطراف أناملي، نظارة تكاد تبتلعه من صغر وجهه، ثم نقرت برقة على أنفه كمن يزرع بذرة من الثقة.
“لكن، بالمقابل… لي أن أطرح بعض الأسئلة، أليس كذلك؟”
بعد أن كسبتُ دعم ربّ عائلة ريتشل لم يتبقَّ أمامي سوى عقبتين: سيليفو ودوكوف.
دوكوف… الرجل الذي توفي العام الماضي، تاركًا مقعد الزعامة لابنته،
كان في حياته يتحرك بدافع الربح، ورأى في شوفيل استثمارًا مربحًا، فانحاز إليه.
أما وريثته، فقد ظلّت على الحياد، لم تُظهر ميولًا واضحة نحوي أو نحوه، لكنها تحمل من طِباع والدها ما يشهد به القاصي والداني.
فإن استطعت إثبات أنني الأكفأ، والأكثر نفعًا لعائلتها… حينها ستنقلب الكفة نحوي دون عناء.
أما سيلفيو…
بمجرد أن تذكرت الشيخ الوقور من ذاكرة بليندا، خيّم على قلبي ثقلٌ عجيب.
ذلك الأرستقراطي المتشدّد، الذي آمن بصفاء الدم أكثر من أي شيء، ووقف إلى جانب بليندا فقط لأنها الوريثة الشرعية.
كان متجذرًا في ماضيه، متصلبًا في قناعاته.
ولذلك، استمالته ستكون الأشدّ صعوبة، لأنه حين يخيب أمل رجلٍ مثله، لا يعود قلبه بسهولة.
كنت أفكر في كيفية ضمّ من تبقى إلى صفّي… عندما وقعت عيني على مشهدٍ صغيرٍ، لكنه زلزل داخلي سلامًا.
ليو وفيفيان ، جالسان كتوأمين صغيرين، يتشاركان الهمس فوق أوراق ورسومات.
مشهد يحمل من الطمأنينة ما يُطفئ نيران الحروب.
ابتسمت رغمًا عنّي، ونسيت في لحظتها كل حساباتي وتعقيداتي… وصغيت لما يقولانه.
كنت قد طلبت من تيري أن تُشرف على تعليم ليو الكتابة، بدلًا مني لانشغالي، ربما، كانت فيفيان الآن تساعده في ذلك؟
لكن… ما هذا؟
“وهذه الأداة السحرية تمزّق أطراف الأشرار!، تنفجر لحظة أن يطؤوها!”
“وماذا لو وضعنا فخًا يقذف بسهمٍ مسموم مغطى بسمّ تيري الخاص؟”
“فكرة ممتازة! بهذا سنقضي تمامًا على أي دخيل يجرؤ على دخول القصر!”
يا إلهي… ما هذا النقاش الدموي تحت وجوه ملائكية؟
من الذي لوّث براءتهما؟
رفعت صوتي فورًا:
“تيري!”
ظهرت فورًا كما لو كانت تشعر بذنبها مسبقًا.
“نعم، سيدتي… ، ألا يمكنني الانصراف ولو قليلًا؟ أعني… لا أفهم لما تنظرون إليّ بتلك النظرة المخيفة؟”
أقسم، لولا سرعتها في قراءة الأجواء، لما نجت.
وبعد حفلة تأنيب موجزة، عدت لتولي مهمة تعليم ليو بنفسي، كان خطأ أن أتركه مؤقتًا بين يدي تيري، حتى وإن كنت مضطرة.
جلست أراقبه يخط كلماته بتأنٍ، يكتب يومياته بحروف مرتبة كأنها صلاة
لأول مرة منذ وقت طويل، شعرت بالسكينة.
وبينما كان قلمه يتوقف لوهلة… استغللت اللحظة، وهمست له بهدوء:
“أيها الصغير، سيأتي يوم أمنحك اسمًا جديدًا… اسمًا يليق بك.”
“اسم جديد؟”
ردّ ليو بدهشة بريئة، ووجهه يضيء بتلك النظرة التي يُخفي خلفها حبه العميق لاسمه الحالي: “كستناء الفئران الصغير.”
أعلم كم يحب هذا الاسم، لكن مهما كان غاليًا على قلبه، لا يمكنني تقبّله.
إن استسلمتُ لعاطفته الآن، قد يظل يُعرف به إلى الأبد، ويكفيني تخيّل هذا المستقبل ليصيبني القشعريرة.
“لا، لن أسمح بذلك أبدًا!”
ولهذا، اعتمدت نبرة فيها شيء من الحزم، كي أزرع بذرة التغيير بهدوء.
أول خطوة؟ أن أجعله يفهم بأن هناك أسماء أجمل، أقوى، وأعظم بكثير من مجرد “كستناء الفئران”.
“هل تعرف لماذا كنت مشغولة في الآونة الأخيرة؟”
هزّ ليو رأسه بثقة، وهو يتخذ ملامح الجدّ لأول مرة، كأنه يُدرك أن ما يجري من حوله ليس مجرد صدفة.
كان القصر قد تعرض لهجوم في الفترة الماضية، وكان يمكنني أن أخفي عنه كل شيء، حفاظًا على براءته.
لكنني آثرت أن أطلعه على ما يكفي، ليحذر، ليفهم… ليكون جزءًا من هذا العالم لا مجرد طفل يُخبأ في الظلال.
أخبرته أن هناك صراعًا على رئاسة عائلة بلانش، بيني وبين شخص يدعى شوفيل.
ولحسن الحظ، لم يُظهر ليو خوفًا، بل بدا وكأنه يُفكر بجدية، يحاول أن يستوعب معنى ما يحدث.
“إذا سار كل شيء كما خططتُ له، سأصبح أنا رئيسة عائلة بلانش.”
“وحينها، لن تكون بعد الآن مجرد خادم صغير لابنة نبيلة… بل ستكون خادمًا مقربًا لرئيسة العائلة نفسها.”
ثم التقطت أنفاسي، وحدقت في عينيه بابتسامة تحمل كل الأمل:
“ولهذا، تحتاج إلى اسمٍ جديد… اسم بحجم مستقبلك، اسم يحمل معنى وقوة، لا يُشبه الأطفال… بل يُشبه الرجال.”
ولحسن الحظ، بدا أن هذه الحيلة الصغيرة قد نجحت.
خدّا ليو احمرّا بحماسة، عيناه تلتمعان بانتظار.
وشعرت، لوهلة، أنني إن دفعت أكثر قليلاً… سأستطيع أخيرًا مناداته بـليو بدلًا من “كستناء الفئران”.
“بالطبع، يا صغيري… سأختار لك اسمًا جديدًا تُحبه كما تُحب اسمك الحالي ، فلنفكر فيه معًا، بروية.”
همس، وكأنه يُعيد الكلمة لنفسه:
“اسم جديد…”
عبس قليلًا، وكأنّه في عمق تفكير عظيم، ثم فجأة… تلألأت عيناه بلمعة مضحكة، كشعاع شمس يرقص فوق سطح بحيرة.
“إذن، ماذا عن… بطل كستناء الملك؟!”
تنهّدت في داخلي، محاولة أن أخفي صدمتي بابتسامة متعبة.
يا إلهي، ما زال عالقًا في دائرة الكستناء!
من الذي أورثه هذا الذوق الغريب في اختيار الأسماء؟!
قبل أن يستقر الاسم الجديد الغريب على شفتيه ويتحول إلى لقب دائم، سارعت بقطع الطريق:
“سنتحدث عن الاسم لاحقًا، عندما أصبح رئيسة عائلة بلانش، حينها نختار معًا اسمًا يليق بك.”
“حسنًا!”
أجاب بحماس، كأن الوعد وحده جعله يُحلّق.
بدأت ساقاه الصغيرة، المتدليتان من على الكرسي، تتأرجحان فرحًا تحت الطاولة.
حينها، عرفت أن اللحظة قد حانت… اللحظة التي يجب أن أفتح فيها الموضوع الحقيقي.
يدي بدأت تتعرّق، قلبي يدقّ بسرعة.
حين التقيت بـ ايان شعرت بدهشة لم أُظهرها؛ ذلك الطفل الذكي الحاد، الذي قال بصوت ثابت إن والده يحبّه…
قالها بثقة، دون تردّد، رغم كل ما قيل عن والده.
كان ذلك وحده كافيًا ليجعلني أعيد التفكير… ليس في الولد، بل في نفسي.
كيف لرجل متهوّر كـالبارون راشيل أن يمنح ابنه هذا اليقين العميق بأنه محبوب؟
كان هذا هو السؤال الذي لم يفارقني حتى لحظة مغادرتي قصر راشيل.
وقبل أن أرحل، سألت إيان مباشرة:
“متى عرفت أن والدك يحبك حقًا؟”
ابتسم بهدوء، وأجاب دون تردد:
“الأمر بسيط.”
“كل ليلة، قبل أن أنام، يقول لي: أنا أحبك، في تلك اللحظة تأكدت.“
ثم أضاف بمرارة خفيفة لا تخفى
“صحيح أنني أحيانًا أتساءل… إن كان يُحب عائلته فعلًا، فلماذا لا يقلع عن القمار؟”
كلماته أصابتني كضربة مفاجئة.
حينها فقط فهمت كم هو قوي تأثير الكلمات الصريحة في التعبير عن الحب، وكم هو ضعيف ذلك الحب إذا ظلّ حبيس الصمت.
يمكنك أن تُحب أحدهم بصدق، لكن إن لم تُظهر له ذلك، لن يشعر به أبدًا.
“حتى لو بدأت بمناداته ليو، هل يكفي هذا ليشعر كم هو عزيز عليّ؟”
الجواب كان لا.
فـالمشاعر الحقيقية لا تُفهم بالإشارات… بل تُقال، تُهمس، وتُعاش.
كنت بحاجة لأن أقولها بصوتي، بكلماتي… لم يعد هناك بليندا لتترجم ما في قلبي، كما كانت تفعل دائمًا.
وبينما كنت أجلس هناك، خفيتُ يدي تحت الطاولة، أطبقتها بقوة، وكأنني أستجمع شجاعتي.
ثم فتحت فمي، مستعدة لأن أقولها له أخيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 114"