الحلقة مئة واثنا عشرة.
“أهذا هو تصرفك في أزمة تهدد مستقبل العائلة؟ تستجدي العطف؟ لا عجب أنك ترضى أن تزحف كالكلب إن كان ذلك يخدم هدفك ، كم يليق بك هذا، يا ابن الدم الوضيع.”
شعر شوفيل وكأن أحدهم صفعه على رأسه.
عندما اكتشف وجود رقائق مزيفة تتسلل إلى السوق، كان أول ما فعله… أن أغلق أفواه موظفيه.
لو انتشرت الأخبار عن وجود رقائق مزيفة، فالكازينو سيفقد ثقة الناس، وسيهرع الجميع لتحويل رقائقهم إلى نقود.
والمشكلة؟
في خضم تلك الفوضى، لو جاء أحدهم برقائق مزوّرة، فلن يكون لدى الإدارة أي وسيلة لتمييزها عن الأصلية.
لهذا السبب، ومن أجل كسب بعض الوقت حتى يجدوا طريقة للتمييز بين الرقائق، قرر منع بليندا من دخول الكازينو…
لأنها، ببساطة، كانت الشخص الذي يُدخل أكبر كمية من الرقائق إلى السوق.
‘لكن… ماذا؟ هل كل هذا من تدبير بليندا؟!’
تبدّدت ملامح شوفيل تحت وقع الصدمة، ثم بدأت تتشوّه تدريجيًا.
الآن فقط فهم…
أن كل ما فعلته بليندا، من حصد المال عبر المقامرة، إلى مبادلة الرقائق مع النبلاء،
كان خطة مدروسة بعناية لبثّ الرقائق المزيفة داخل الكازينو، دون أن يلاحظ أحد.
“أيّتها المجنونة…! إن أخطأتُ في التعامل مع هذه الكارثة، قد تُفلس العائلة بأكملها!
وأنتِ، تحملين اسم بلانش، ثم تجرئين على فعل هذا؟!”
“يبدو أنك مخطئ بشأن شيء واحد
هذه العائلة التافهة؟ لا تعني لي شيئًا
اسم بلانش لا قيمة له عندي.”
نظرت إليه بليندا من علٍ، بنظرة باردة خالية من أي شفقة.
“شوفيل… تذكّر نصيحتك لي؟ ألا أُظهر نقاط ضعفي؟ فكرت فيها طويلًا.
تساءلت…هل لمخلوق تافه مثلك، قتل حتى والده، يمكن أن يملك شيئًا عزيزًا عليه؟
واكتشفت أنك تملك شيئًا فعلًا…
“شيئًا كنت مستعدًا للركوع من أجله كالكلاب كي لا تفقده.”
“… اخرسي.”
“أن تكون هذه العائلة المهترئة هي كنزك الثمين؟
يا له من وهم مضحك
يبدو أنك نسيت حجمك الحقيقي، شوفيل.”
“قلت اخرسي!!”
انقضّ عليها، وعروق رقبته تكاد تنفجر من الغضب،
كما لو أنه سيخنقها في اللحظة التالية.
لكن…
لم يلمس منها شعرة واحدة.
“آااااه!!”
انقضّ عليه غراب خرج من ظل بليندا، وراح ينقر عينيه بجنون.
سقط شوفيل أرضًا، يلهث، وعيناه تتقلبان بنظرات حاقدة…
لكنه، للمرة الأولى في حياته،
رأى الخوف في عينيه ينعكس على ابتسامة بليندا.
ابتسامة… مفعمة بالرضا.
وقفت بليندا من مكانها، وأعلنت وكأنها تنطق نبوءة.
“شوفيل… من هذه اللحظة، سأبدأ في انتزاع كل شيء عزيز على قلبك
تمامًا كما فعلت بي سابقًا.”
“فلتستمتع بهذه اللعبة… إلى أن يموت أحدنا.”
وبعد أن لفظت كلماتها الأخيرة، استدارت مبتعدة، تاركة ظهرها مكشوفًا… بلا أي حذر.
ومع ذلك، لم يجرؤ شوفيل حتى على محاولة مهاجمتها.
***
من نافذة العربة، أخذت أنوار
“الريد هاوس” المبهرة تبتعد ببطء.
ولم أستطع أن اتنهد بأريحية، أو أريح ظهري على المقعد،
إلا حين اختفت صورة الكازينو كليًا من مجال رؤيتي.
أخيرًا… انتهى.
من صكّ الرقائق المزورة؛ إلى ارتداء تلك الفساتين الغريبة التي لم أعتدها، وانتحال شخصية أديليا بلانش، ثم شراء بركات سوغا بمبالغ طائلة…
“إذًا… هل تنتهي مهمتي اليوم؟”
حتى أجر جيري كان أغلى مما توقعت…
نظرت بطرف عيني إلى الرجل النحيل الجالس بجوار تيري ثم أومأت برأسي.
كان جيري أحد قادة جرذان المجاري، واشتهر بقدرته الخارقة على التنكّر.
وقد أثبت فعلاً أن سمعته لم تكن مبالغًا فيها.
في يوم، ظهر كنبيل ريفي لا يعرف اسم بليندا حتى، وتوسّل إليها أن تعلمه لعب الورق.
وفي يومٍ آخر، جاء كشيخ مسن، خسر كل ما يملك، وتوسل إليّ كي أستبدل له رقاقاته، طالبًا حظ بليندا.
هو من خفف من حدة توجّس الناس مني،
وهو من رسّخ ثقافة استبدال الرقائق، التي كانت حجر الأساس في الخطة.
لولا جيري، لما نجح شيء من هذا.
“هذه بقية أجرك.”
ناولته المبلغ المتبقي مباشرةً، وسددته بالكامل.
تناول جيري إحدى القطع الذهبية، وعضّها بأسنانه بابتسامة خفيفة.
“تبدو وكأنها ذهبية حقيقية.”
آه… ذاك الأسلوب المستفز في الحديث، دائمًا ما يثير أعصابي.
نظرت إلى تيري، ثم إلى جيري، وهما لا يشتركان في أي شبه ظاهر،
وقلت ببرود:
“غريب، قيل لي إنكما شقيقان… والآن أرى بعض الشبه فعلًا.”
“ها؟ بأي زاوية ترين أني أشبه هذه الكلبة المجنونة؟!
أنا وجهي يشبه الفأر، لا الكلب!”
“بالضبط، يا سيدتي! أنا وجهي وجه جرو ظريف، أما هو، فهو جرذ حقير بكل ما تحمله الكلمة من معنى!”
“ها؟! لماذا يبدو كل ما تقولينه وكأنه إهانة، حتى لو كان صحيحًا؟!”
وسرعان ما بدأ الاثنان في الشجار…
ضحكتُ بخفة على الحوار العادي الذي دار بين الأشقاء، والذي بدا مألوفًا رغم كل شيء، لعلّ الشجار على هذا النحو هو ما يُعرف بالحياة الأسرية العادية.
“كنت أتحمّلك لأننا أمام السيدة، لكنك ظننت أن الفرصة سانحة لتتمادى، أليس كذلك؟”
“بالضبط، كنت أعلم أنك تتظاهرين أمام العميلة، ولهذا تعمّدت استفزازك، هل أدركتِ ذلك الآن فقط؟”
“أوه، هل تجرؤ على هذا؟ يبدو أنك بحاجة إلى ضربة تعيد لك صوابك!”
“آآآه!”
…ربما فعلاً؟
***
“ماري، كيف حال شوفيل مؤخرًا؟”
توقفت يد ماري، التي كانت تتحرك بنشاط، فجأة عند سؤالي.
“لستُ أعلم على وجه الدقة ، في الآونة الأخيرة، هو مشغول للغاية حتى إنه لا يعود إلى القصر.”
هذا متوقع.
“لا بد أنه يدرك أن الحل الأبسط والأكثر فعالية لتفادي مزيد من الخسائر هو سحب جميع الرقائق من التداول وإعادة تصميمها بالكامل.”
لكنه، على الأرجح، يفتقر إلى الحزم الكافي لاتخاذ ذلك القرار.
لقد غطت عينيه آمالٌ واهية، مفادها أنه من غير الممكن أن توجد رقائق مزيفة مطابقة تمامًا للأصل.
في الحقيقة، أنا لم أزوّر سوى الرقاقة الذهبية.
رقائق كازينو الريد هاوس ، ولا سيما تلك التي تعادل قيمتها ألف قطعة ذهبية، تُصنع بدقة شديدة، حتى إن أحدًا لم يتمكن من تقليدها بشكل صحيح طوال المئة عام الماضية.
لقد طُبِعت عليها ختمات سحرية غير مرئية باستخدام وسائل معقدة، لذلك لم يكن من السهل تزويرها، ولم يكن اعتقادهم باستحالة تقليدها ناتجًا عن إهمال.
لكن، لو لم يكن المُزوِّر شخصًا تلقّى يومًا ما تعليم خاص بالنبلاء بوصفه الوريث الشرعي، لما تمكن من تمييز الرقاقة الأصلية من المزيفة.
“ذكريات بليندا هي ما مكّنني من معرفة كيفية التزوير، بل وحتى شكل الختم السحري المخفي.”
ولولا ذلك، لما كان بمقدوري حتى الحلم بتزويرها.
“سيدتي، قلتِ إنك ستخرجين، لكن هل تنوين الخروج بهذه الهيئة؟”
كان ذلك حين انتهيت من تجهيز نفسي وهممت بمغادرة القصر.
عندما قالت تيري ذلك، ألقيت نظرة سريعة على هيئتي.
“في الآونة الأخيرة، لم ترتدِ سوى الفساتين السوداء ، لا تبدين سيئة بها، ولكن… أليست أشبه بثوب حداد؟ لا أظن أنها تعطي انطباعًا جيدًا للناس.”
“إنه ثوب حداد.”
“ماذا؟”
عندما سألت تيري متفاجئة، لم أُجبها بالتفصيل، بل اكتفيت بإعادة ترتيب فستاني الأسود الذي أرتديه باستمرار، ما عدا عند زيارة الكازينو.
“لأن هناك من يستحق أن يُكرَّم.”
ربما، لا تيري، ولا أي أحد في هذا العالم، يعلم…
أن من أرثيها ليست سوى بليندا نفسها.
ولن أنزع ثوب الحداد هذا حتى أنهي انتقامي وأضع تاج آل بلانش على رأسي.
تركتُ تيري الحائرة خلفي، وخرجت برفقة اللورد بيناديل بعد غياب طويل عن الخروج.
وبعد انطلاق العربة بوقتٍ قصير، أدركت أن اللورد بيناديل ليس على حاله المعتادة.
كان جالسًا قبالتي، ينظر بثباتٍ إلى النافذة دون أن يلتفت إليّ ولو مرة واحدة أثار ذلك لدي شعورًا غريبًا.
كأنني رأيت هذا المشهد من قبل… كأنه تهرّب مني بالطريقة نفسها ذات مرة.
نظرت إليه وألقيت عليه سؤالاً مباشراً:
“اللورد تشيري، بما أن وجهك قد كُشف للجميع، أليس من الأفضل أن تنزع القناع؟”
“…أرجو أن تناديني بلقب بيناديل.”
“حسنًا، تشيري، ولكن على الأقل عندما نكون وحدنا، ما رأيك بأن تنزع قناعك؟”
رغم كلامي الصريح، لم يلتفت إليّ بيناديل ولم يخلع القناع.
“هل أخلعه أنا بنفسي؟”
بدافعٍ من العناد، مددت يدي ببطء كما فعلت ذات يوم ممطر في الشرفة، لأزيل قناعه…
لكن حينها قال فجأة:
“نبضات قلبي ترتفع بطريقة غير طبيعية، ويبدو أن قلبي سينفجر… لذا، أرجو ألّا تلمسيني دون سابق إنذار.”
…ما هذا الكلام؟
“هل لديك مرض بالقلب؟”
“لا، ليس تمامًا…”
“ليس تمامًا؟”
“أعني… أنني أخجل من الغرباء.”
“هل تعلم، يا لورد، أنك لا تملك موهبة في الكذب إطلاقًا؟”
“…بدأت أكتشف ذلك مؤخرًا.”
قالها وهو يطلق تنهيدة منهكة، وكأن صدقه المتعثر هذا يرهقه.
كنت أعلم أن التزامه الصارم بالقواعد يجعله يتردد في خلع القناع، لكنني رغبت في أن أخبره بهذه الجملة فقط:
“يا لورد بيناديل، يبدو أنك غافل عن شيء واحد.”
“ما هو؟.”
“أُحب وجه اللورد تشيري.”
“……….!”
لم أستطع أن أرى تعبيره خلف القناع، لكنني كنت واثقة من أمرٍ واحد:
كلامي هذا وحده كان كفيلاً بإحداث خلل في نظامه بالكامل.
رجل وسيم لا يدرك وسامته؟ كم هو نادر ومدهش… ويستحق السخرية منه، لكنني قررت أن أكتفي بذلك الآن.
ومن نافذة العربة، بدأت تظهر أمامنا ملامح قصر قديم، صغير في حجمه، لكنه عريق في هيبته.
كان ذاك هو قصر عائلة ريتشل، وجهتنا لهذا اليوم.
التعليقات لهذا الفصل " 112"