الحلقة مئة والحادية عشرة.
***
كل الفائزين في المقامرة… هم خاسرون أمام الكازينو.
لهذا السبب بالذات، يُشَبَّه الكازينو العريق في مكانه بـ”الإوزة التي تبيض ذهبًا”.
ففي النهاية، دائمًا،
كل المال ينتهي إلى جيب الكازينو.
ورغم معرفة الناس بهذه الحقيقة، إلا أنهم يهرعون نحوه، متشبثين بإمكانية ضئيلة لقلب حياتهم رأسًا على عقب، كفراشات تنجذب إلى النار، فتذوب أجنحتها في ضوء المستحيل.
أما الكازينو، فيبدو وكأنه إله كريم، يمنحهم حفنة من المعجزات، ليتركهم بعدها عراةً أمام خيبتهم.
تلك كانت القاعدة الذهبية التي تحكم “البيت الأحمر”.
حتى جاءت بليندا بلانش… وسحقت تلك القاعدة تحت قدميها.
***
في الأسابيع الماضية، حين راجع شوفيل بلانش حجم الأموال التي أخذتها بليندا، أشعل السيجار في فمه بعصبية.
“هل تظن حقًا أن لعبة قمار تافهة قادرة على إسقاط هذا العمل العملاق؟”
في البداية، سخر من حماقتها.
لكن الحقيقة أنه لم يترك شيئًا للصدفة.
في كل زاوية من زوايا الكازينو، كان قد زرع “الضباع” رجالًا انتقاهم بنفسه، يختلطون بين الحضور كأنهم زبائن عاديون.
مهمتهم بسيطة:
راقب أولئك الذين بدت حظوظهم خارقة للطبيعة، وراقب كيف يستدعون الحظ، كيف يربحون مرارًا دون منطق.
أغلبهم كانوا يستخدمون حيَلًا رخيصة، أو مهارات يدوية مكشوفة.
لكن ضباع شوفيل كانوا محترفين؛ لم يسبق لهم أن أفلت منهم متحايل واحد…
إلا بليندا.
***
“لم نكتشف أي خدعة واضحة.”
“صحيح أن حركتها في التعامل مع الأوراق متقنة، لكنها لا تصل لدرجة التلاعب اليدوي.”
“يبدو أن الأمر محض حظٍ لا أكثر…”
“أو، وإن لم يكن كذلك، فهي تُخفي مهارة من مستوى لا يمكن كشفه بسهولة حتى لنا.”
استرجع شوفيل تلك التقارير بينما كان ينفث دخان سيجاره، ثم التقط رقائق مراهنة كانت مرمية على الطاولة.
وسطها، نُقشت صورة ظلية لأديل بلانش، بروز ملكي كأنها ملكة موشّحة بالذهب.
راح يدوّر الرقائق بين أصابعه، قبل أن يهمس بغلّ:
“فتاة تافهة تزنّ في أذني كذبابة حقيرة…”
صحيح أن المال الذي تربحه بليندا لا يُقارن بحجم التدفقات الكبرى في شبكة الكازينو…
ومع ذلك، كان منظرها مزعجًا.
حتى إنه، رغم علمه بالتأثير السلبي لتفتيش الزبائن على سمعة الكازينو، أمر بتفتيشها شخصيًا.
لكن….
لم يُعثر على شيء مشبوه.
حتى الحارس الشخصي الذي يرافقها… خرج نظيفًا.
لا بد من وجود خدعة..
لا يمكن أن يكون كل هذا مجرد صدفة.
“لا بد أن هناك شيئًا تخفيه…”
فكر شوفيل مجددًا، وهو يغرق في نفس الدوامة التي علقت برأسه منذ أسابيع.
“دق دق.”
طرقات متسارعة على باب جناحه في الطابق الأعلى من الكازينو قطعت عليه شروده.
عادةً، لا يجرؤ أحد على دخول غرفة شوفيل دون إذن صريح منه،
لكن الطارق هذه المرة لم ينتظر الإذن
بل اقتحم الغرفة بعجلة.
“سيد شوفيل!”
رفع شوفيل حاجبيه ببطء، ينظر نحو مدير الكازينو العام.
رجل معروف بأناقته الدائمة، لكنه الآن واقف يلهث، وملابسه فوضى، كأن ريحًا عصفت به.
“و… وحدث أمر خطير! الرقائق…!”
“لا تقل لي أن الزبائن رأوك تركض هكذا؟”
“أعني… نعم، ربما… لكن الوضع…!”
شوفيل أشار برأسه، وقد ضاق ذرعًا بتلعثمه.
“تكلم.”
“عُثِر على رقائق مزيفة!”
في تلك اللحظة، نهض شوفيل من مقعده كأن صاعقة ضربته، غير آبه بأن رماد السيجار سقط على بدلته.
***
” فل هاوس.”
[ توضيح : الفل هاوس هو أحد التركيبات القوية في لعبة البوكر، و هو تركيبة من خمس أوراق تتكوّن من:
ثلاث أوراق من نفس القيمة (مثلاً: ثلاث بطاقات 7).
ورقتين من قيمة أخرى (مثلاً: ورقتان 4).
7♥️، 7♣️، 7♠️ (ثلاث سبعات)
4♦️، 4♠️ (زوج من الأربعات)
→ هذا يسمى “فل هاوس: سبعات على أربعات”]
بكلمة واحدة من بليندا، انفجر ركنٌ من الكازينو بالهتاف والضجيج.
أنهت الجولة نظيفة.
بإشارة خفيفة من إصبعها، تقدمت تيري وجرفت كل الرقائق على الطاولة نحوها، بحركة لا تقل براعة عن حركة موزّع الأوراق المحترف.
وبينما كانت تيري تُنظّم الرقائق الملوّنة برشاقة، مالت بليندا برأسها جانبًا وضاقت عيناها.
تحقيق الـ فُل هاوس احتمال لا يتجاوز 0.1% وبالطبع هذا لم يكن مجانيًا.
أنفقت الكثير لأحقق هذا.
“لا عجب أن لاعبي البوكر مجانين كلهم…”
“آنسة بلانش، هل تسمحين بمبادلة الرقائق؟”
“أنا لا أبدّل إلا الرقائق الذهبية.”
“لا بأس! أرجوك فقط…!”
أومأت برأسها، وتقدمت تيري لتبادل رقائقها مع رقائق النبيل.
ثم… تكرّر الطلب مرة بعد مرة.
وفي كل مرة، كانت تبتسم وتوافق.
منظر غريب، نشأ في الكازينو منذ اليوم الأول لوصولها.
***
“آنسة… هذه كل ما أملك…
أرجوك، بدّلي الرقائق، وامنحيني بعضًا من حظك…”
“ألن تتكرّمي ببعضٍ من حظّك؟”
اقترب شيخٌ هزيل الهيئة من بليندا التي أنهت للتو جولتها، ومدّ نحوها يده المرتجفة، وفيها رقاقة ذهبية تلمع تحت أضواء الكازينو.
الجميع في المكان كانوا يعرفون هذا العجوز.
رأوه طوال الأيام الماضية وهو يبدد ثروته، يراهن كمن يسكب الماء في الرمال، يتردّد على الكازينو كأنه بيته.
ونهاية هؤلاء معروفة، لا تحتاج لخيال.
كاد بعض النبلاء أن ينهضوا وينادوا الحرس ليبعدوه، لكن المفاجأة جاءت من بليندا نفسها…
فقد قَبِلت، بكل بساطة، أن تتبادل الرقاقة معه.
“أتمنى أن ترافقك الحظوظ، أيها الشيخ.”
“بليندا بلانش، تُظهر كرمًا؟!”
الدهشة لم تدم طويلًا، لأن الأعجب كان ما حدث بعدها.
“يا الملكة الحمراء، شكرًا لك!”
هتف الشيخ بتأثر، ثم تقدّم فورًا للمراهنة بتلك الرقاقة.
وفاز.
ثم كررها… وفاز.
حتى حقق أرباحًا هائلة، لم يتخيل أحد أن يراها من عجوز مثله.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت رقائق بليندا المنتصرة تُعامَل كتمائم حظ.
كان النبلاء ينتظرون بليندا حتى تنهي جولتها، ثم يقتربون منها خفية، يطلبون منها مبادلة الرقائق.
ودائمًا… كانت تلبّي، دون تردد.
“وكان لذلك أثرٌ كبير.”
فمع دخول بليندا إلى الكازينو، بدأ عدد ضخم من الرقائق الذهبية بالتداول…
ما كان نعمة ليس فقط لها، بل لإدارة الكازينو أيضًا.
رغم أن شوفيل كان يطحن أسنانه غضبًا،
فإن موظفي الكازينو لم يكن لهم إلا أن يعاملوها كضيفة شرف.
حتى إنّ البعض تمنى لو تبقى أكثر من ثلاث ساعات فقط في اليوم.
وما إن أنهت بليندا آخر تبادل للرقائق مع أحد النبلاء، وأشارت لجنيتها سوغا بحركة صغيرة لتغيير الطاولة…
حتى لحق بها مدير الكازينو، يلهث والعرق يبلل جبينه:
“آنسة بلانش.”
أومأت بليندا وهي تتجه نحو طاولة الروليت، حيث أشارت لها سوغا.
“ماذا هناك؟”
“السيد شوفيل بلانش يطلب مقابلتك.”
“شوفيل، شخصيًا؟”
جلست بليندا أمام طاولة الروليت، تداعب مروحتها الحريرية كمن يفكر بكسل.
“دوررر…”
دارت كرة الروليت داخل العجلة العملاقة، وصوتها تردّد في الأرجاء كما لو أن المكان كله احتبس أنفاسه.
المدير العام وقف ينتظر ردها، وكأن مصيره كله معلق بتلك الكرة الصغيرة.
**طَق.**
سقطت الكرة أخيرًا في خانةٍ حمراء.
بليندا ابتسمت… وقالت، بهدوء:
“ساعتان.”
“عفوا؟”
“أعتقد أن بإمكانك الانتظار ساعتين، أليس كذلك؟ كما ترى… أنا مشغولة بالاستمتاع باللعب ، تيري، راهني بكل شيء على الرقم الأحمر الزوجي.”
“حاضر.”
بدأت عجلة الروليت بالدوران مجددًا،
ومع أهمية الحدث، إلا أن المدير العام، الذي لا يملك لا سلطة ولا حجة تُجبر بليندا على شيء، لم يجد أمامه إلا أن ينحني ويرحل بهدوء.
‘الطابق الأعلى من الكازينو.’
وصلت بليندا لمكتب شوفيل… تمامًا بعد مرور ساعتين على طلب مقابلتها.
“شوفيل، قيل لي أنك طلبت رؤيتي؟”
كان واقفًا يدخّن السيجار وينظر من نافذة مكتبه الواسعة نحو مشهد الكازينو تحت قدميه.
عندما استدار، كان وجهه يبدو هادئًا، لكن الدخان الكثيف الذي ملأ الغرفة كان ينطق بكل التوتر الذي حاول إخفاءه.
“هلّا جلستِ أولًا؟”
وأشار إلى الأريكة المخملية.
بليندا جلست بأريحية، واضعة ساقًا فوق الأخرى، في انتظار ما سيفعله.
هل سيهددني؟ يطلب مني أن أتوقف؟
ربما سيرمي شيئًا غاضبًا… الموقف يستدعي ذلك.
لكن الأجواء لم تكن بتلك العدائية التي توقعتها.
“بليندا، أمنعك من دخول الكازينو لمدة شهر.”
“هكذا ببساطة؟ أعتقد أنك بحاجة لسبب وجيه.
أنا لم أستخدم أي خدع، ولم أُحدث أي فوضى.
بل في الواقع، كل هذا الازدهار الأخير في عملك… أليس لي يد فيه؟”
توقفت عن الكلام قليلًا، مستعدة لإطلاق كلمات كالسكاكين.
لكن شوفيل سبقها بخطوة.
اقترب منها، ثم فجأة…
جثا على ركبتيه…
“لو كان شهرًا كثيرًا… فاجعليه أسبوعين فقط، أرجوك.”
قالها بينما كان كتفاه يرتجفان، كأنما كان يبكي دون دموع.
“هل تعلمين كم عانى والدي ليستعيد هذا المكان؟
لقد خُدع والدك، وكاد يخسر الكازينو للاحتيال.
وحين ورثت أنا المكان، قضيت الليالي في إصلاح ما أفسده من سبقوني.
هذا المكان… هو إرث والدي، بل إرث عائلتنا.”
“أرجوك، إن لم يكن من أجلي، فمن أجل والدي.
إن أردتِ… سأتوسل إليك كالكلب، سأتذلل، فقط أعطني بعض الوقت.”
‘أسبوعان.’
مقابل أن ترى شوفيل بلانش راكعًا كالعبد،
صفقة لا بأس بها.
“هه.”
ضحكت بليندا، بضحكة صافية خفيفة،
ضحكة لا تصدر من سخرية، بل من لذة خفية، وكأنها وجدت في هذا المشهد متعةً غير متوقعة.
أما شوفيل، فبقي على ركبتيه،
قابضًا على يديه بإحكام، دون أن ينبس بكلمة.
كان يحتمل هذه الإهانة، مهما بلغت.
فقط إن استطاع تجاوز هذه الأزمة… فسوف يجعل تلك المرأة تدفع ثمن كل لحظة أذلّته فيها.
لكن…
“شوفيل، أتظن فعلًا أنك ستتمكن من كشف مصدر الرقائق المزوّرة في غضون أسبوعين؟”
“ماذا…؟”
رفع شوفيل رأسه فجأة، مذهولًا.
أمر الرقائق المزوّرة داخل الكازينو كان معلومات سرية للغاية، لم تُبلّغ للإدارة إلا بالأمس فقط.
الرقائق هنا لا تختلف عن المال الحقيقي.
لذا كانت إدارة الكازينو تراقب بدقة كل حركة تحويل أو صرف للرقائق ومطابقتها بالنقود المسجّلة.
فإن أدخل أحدهم رقائق مزوّرة من خارج الكازينو وحاول صرفها نقدًا، فذلك يعني خسارة صافية للمكان.
لكن البارحة فقط، تبيّن أن كمية الرقائق المتداولة بين الزبائن تفوق الكمية التي خرجت من خزائن الكازينو.
ببساطة، هناك رقائق مزوّرة… تتنقّل داخل الكازينو.
ولكن بسبب الإقبال الكثيف على المكان مؤخرًا بفضل بليندا
لم تُكتشف الفجوة إلا متأخرًا.
ورغم أن الأمر انكشف بالكاد منذ ساعات،
ها هي بليندا تتحدث عنه وكأنها كانت تعرف منذ البداية.
“لا… لا يمكن… أنتِ…”
شوفيل شحب وجهه حتى غدا كالورقة البيضاء،
بينما ارتسمت على شفتي بليندا…ابتسامة هادئة واثقة.
التعليقات لهذا الفصل " 111"