الحلقة مئة وثمانية.
***
كان الفجر يلوح بخجل عند الأفق، حين عاد سيزار إلى غرفته.
بهدوء، أخرج من جيبه الداخلي صندوقًا صغيرًا من المخمل، لا يتجاوز حجم راحة اليد.
*طَق.*
ما إن فتح الغطاء، حتى لمع داخل الصندوق زوج من الخواتم، ينعكس عليهما ضوء خافت فيتلألآن كنجمة الصبح التي تعلو جبال الجليد الأبدية.
لم تكن خواتمًا عادية؛ بل مرصعة بحجر “الجليد الأزلي” المنقرض، إرث نبيل تنتقل ملكيته من جيلٍ إلى جيل في سلالة بالواستين، وهي سلالة الدوقات العظام.
“الهدية التي أعددتها، ليست من اللورد بيناديل، بل من اللورد تشيري، إلى الآنسة بلانش.”
تردد صوت بيناديل في ذاكرة سيزار، فاغتاظ وأغلق الصندوق بعنف، وقد تسللت المرارة إلى قلبه.
كان مساعده، رغم مظهره الغليظ والبطيء كالدب، أكثر دهاءً مما يبدو.
لقد كان يعلم تمامًا… هذه لم تكن هدية موجهة لبليندا.
بل كانت شيئًا آخر تمامًا…
عرض زواج لا يُرد.
هدية أعدها مساعده خصيصًا، ليهديها القائد لحبيبته، حينما يعجز هو نفسه عن اتخاذ الخطوة.
كم من الفرص أضاعها؟
حين تكلم في يوم المهرجان بلا تفكير،
وحين فشل في الفوز بجائزة المسابقة الكبرى التي تخول له أمنية تُحقق،
وحين وقف أمامها أول مرة بوجه
“اللورد تشيري”، لا بشخصيته الحقيقية.
آنذاك، قال لنفسه إن الوقت لم يكن مناسبًا للكشف عن الحقيقة،
وأنه قد لا يُغفَر له ما أخفاه،
فاختار أن يبقى إلى جوارها متخفيًا، لا أن يعود إلى الشمال حيث ينتمي.
لكن الاستمرار في خداعها… كان خيانة.
هذه الليلة، عزم سيزار أن يكشف لها كل شيء.
أن يقدم لها الخاتم، ويبوح لها بحقيقته، بكل ما في قلبه.
كان يشعر بثقل الصندوق في جيبه كل لحظة، كأنه يُذكره بالعهد الذي قطعه على نفسه…
لكن—
حين قالت له، بصوت يشبه الرجاء:
“لست بحاجة إلى الدوق… أريدك أنت.”
لم يستطع أن يخرج الخاتم.
وحين همست، في ضعفٍ مشوب بالشوق:
“كن لي، يا لورد تشيري.”
لم يقدر على أن يبوح بالحقيقة مرة أخرى.
مرر سيزار أصابعه في شعره بعنف، يحاول أن يمحو ارتباكه.
كانت مشاعره كآثار أقدام في ثلج الليل المتراكم…
هادئة، صامتة، لكنها لا تلبث أن تفضح كل ما أخفاه القلب، حين تشتد شمس النهار.
لهذا، لم يكن ينقصه سوى الوقت.
حتى مشاعره نحو بليندا… حين يمضي الزمن، ستغوص في أعماق الذاكرة، تصبح مجرد قبضة من ماضٍ لا يُستعاد.
بل لا بدّ أن يكون الأمر كذلك.
فمن ينتمي لعائلة بالواستين، العائلة التي تحمل لعنة الوحش، لا يحق له أن يتعلق بأي شيء.
لأن غريزة الوحش التي تأتي مع اللعنة… لا تسعى إلا لتدمير أعز ما يملكه الإنسان.
ولهذا، كان فسخ خطبته من بليندا شيئًا جيدًا في جوهره.
كان عليه أن يبتعد… قبل أن تُصبح له معنىً أكبر، قبل أن يغدو وجودها في حياته سببًا في مذبحة أخرى… في دماء تُراق من جديد في أروقة القصر.
ما إن يُتم مهمته، ويساعد الآنسة بلانش كما وعد، ويأخذ مكافأته تلك المناجم التي انتظرها طويلاً سيعود فورًا إلى الشمال.
عندما فكّر بالأمر بهذه الطريقة… بدت الحياة فجأة بسيطة جدًا.
ومع ذلك، لم تخلُ نفسه من شعور بالأسى.
كان كل ما أزعجه حقًا، هو أن بليندا أصرت على أن تتولى بنفسها مسألة شوفيل بلانش، رافضةً تركها بيد أيٍّ كان.
‘لو أنها فقط سلّمتني أمر ذلك الرجل…’
‘لكنت ربطته بذيل حصاني، وسحبته معي إلى الشمال على طول الطرق الموحلة والثلجية.’
لكنت حرصت على بقائه حيًا حتى نصل، فقط ليشعر بكل ألم الطريق من الحصى الذي يمزق الجلد، إلى الشوك الذي ينهش جسده، إلى نصال الجليد التي تشقّ العظم.
بل ربما، لو واتتني الفرصة، لكان من الأفضل أن أسحق جمجمته بنفسي، حتى يستجدي الموت بكل ما أوتي من ذلّ!
“……”
وسط هذه الخطط الملطخة بالدماء التي بدأ يرسمها دون أي تردد… انتفض سيزار فجأة، وكأن وعيه قد اصطدم بحقيقة ما.
استدار نحو النافذة
وهناك، في انعكاس الزجاج المعتم، رأى عينين تشعّان بلون الدم، تلمعان مثل عيون وحش… ولم تكنا لغيره.
لمجرد أنه تذكّر تلك ‘الليلة الخائنة’، تسلّلت اللعنة مجددًا إلى داخله كسمّ يتسلل إلى الشرايين.
‘اهدأ.’
هذا الحافز للقتل… ليس منك، بل من اللعنة.
بهدوء متمرس، وضع سيزار يده على جفنه وأغلق عينيه.
وأعاد إلى ذهنه أغلى ذكرى دفنها في أعماق قلبه.
لقد ورثت عائلة بالواستين قدرة نادرة: “القوة المطهِّرة” التي تضعف أثر اللعنة.
ولم تكن تتطلب طقوسًا معقدة…
فقط أن يتذكّر المرء شيئًا عزيزًا بما يكفي ليُعيده من حافة التحول إلى وحش.
رغم أن الوحشية تميل دائمًا إلى تمزيق أغلى ما يملكه الإنسان، إلا أن الشيء الأثمن بالنسبة إلى سيزار… لم يعد في هذا العالم.
فاستحضر تلك الذكرى، المحفورة في ذهنه كما تُعلّق لوحة قديمة في قاعة النسيان..
عائلته، مجتمعين أمام موقد القصر الشتوي، حيث لا ينطفئ الحطب على مدار العام.
صحيح أن ملامحهم أصبحت مشوشة في ذاكرته بفعل اللعنة، كأن الضباب قد غلّف وجوههم…
لكن الدفء الذي شعر به آنذاك، الصفاء، السكينة… كان كل ذلك كافيًا ليُعيده إلى الإنسان الذي كاد يفقده.
وكما اعتاد دائمًا، أقسم من جديد لتلك الذكرى..
“سأحمي هذا السلام، مهما كلّفني الأمر.”
وحين فتح عينيه أخيرًا…
همس، وكأن قلبه لم يحتمل ما رآه:
“لِمَ…؟”
ظل سيزار يحدّق في انعكاس عينيه على زجاج النافذة المعتم، وكانت لا تزال مشبعة بذلك اللون الأحمر… كأن اللعنة قد رفضت مغادرته.
ما زالت تنهش كيانه بلا هوادة… كأنها تتغذى على ألمه.
‘يجب أن أتذكر ذكرى أخرى.’
بدأ يقلب صفحات ذاكرته على عجل، باحثًا عن مخرج.
القلعة، والشتاء الأبدي الذي يغلف الشمال بجليد لا يرحم.
الفرسان الذين أقسموا أن لا يدعوا وحشًا واحدًا يتجاوز الحدود، حتى ولو كلّفهم ذلك أرواحهم.
أهل الإقليم القاسي، الذين يكافحون كل يوم لأجل البقاء.
وتلميذه الأول… الذي التقى به في العاصمة، قبل سنوات.
كلها ذكريات عزيزة.
لكنها لم تكن كافية.
لم تكن قوية بما يكفي لتعيده إلى ذاته.
حتى وصلت صفحات الذاكرة إلى آخرها… وهناك، كانت هي.
بسمة بليندا، محفورة في ذاكرته كأنها وُلدت من ضوء صافٍ.
وما إن استحضرها
حتى خفتت الحُمرة الوحشية في عينيه، وانقشعت كغمامة ثقيلة عن سماءٍ صافية، وعاد اللون الأزرق الهادئ يطفو على بصره.
لم يكن يعني ذلك أن ذكرياته مع عائلته فقدت قيمتها…
بل ببساطة، شيء أثمن قد وُلد في قلبه.
ذلك الشعور نحو بليندا… لم يكن مجرّد أثر يُمحى مع الزمن، بل وُشم على قلبه، ليبقى إلى الأبد كأثر حجري لا يُمحى.
كان عليه أن يعترف، ولو بألم
هو لم يَعُد كما كان هي غيّرته.
**الفصل 12**
في المكتب الرئيسي في قصر بلانش، كانت ماري واقفة بظهر منحنٍ وخدين شاحبين، تضغط يديها بقوة لدرجة انقطع فيها عنها الدم، قبل أن تتمتم بخفوت:
“…باختصار، لم يطرأ أي تغيّر غير معتاد على تصرفاتها.”
سادت الغرفة لحظات من الصمت الثقيل، ثم تحدث شوفيل بلانش، وهو يجلس على الأريكة وقد عقد ساقًا فوق أخرى، بنبرة باردة:
“تُكثر من شراء فساتين سوداء وحمراء؟ هذا كل شيء؟”
“ن-نعم، سيدي…”
“ماري، هل أصبح مستواك في جمع المعلومات بهذه الرداءة مؤخرًا، أم أنني أتوهم؟”
“لا…! ليس الأمر كذلك، سيدي.”
انحنت أكثر، وتشبثت بكلماتها كمَن يحاول النجاة من الغرق، كان ظهرها مبللًا من عرق الخوف.
منذ أيام فقط، حين جاءت بليندا إلى القصر الرئيس، أحدثت فوضى عارمة، بل ودفعته عن الدرج بغير رحمة… منذ تلك الحادثة، تغيّر كل شيء في شوفيل.
ابتسامته لا تزال موجودة، لكنها باتت قناعًا هشًا، يخفي خلفه عيونًا زجاجية تقطر كراهية قاتلة.
كان يُحدّق أحيانًا في العدم، بنظرة جعلت كل الخدم يتفادونه… بعضهم غادر، وبعضهم فضل أن يختفي في ظلال القصر.
أما ماري، فكانت منذ ذلك اليوم تحرص على أن تخفض جسدها أمامه كلما وقفت، وكأنها تخشى أن تثير فيه رغبة بالقتل لم يعد قادرًا على كبحها.
“و… مؤخرًا يبدو انها أبدت اهتمامًا مفاجئًا بالكازينوهات… سألتني أكثر من مرة إن كنت أجيد لعب الورق.”
“كازينو؟”
وأخيرًا… تسللت نبرة الهدوء المعتادة إلى صوت شوفيل.
ومع هذا التغير الطفيف، شعرت ماري بتبدد التوتر في صدرها أدركت بغريزتها أن مزاجه قد تحسن ولو قليلًا.
أشار إليها بذقنه أن تنصرف، فخرجت على عجل، بينما غرق شوفيل مجددًا في بحر من التفكير العميق.
حين كان والده لا يزال حيًا، لم يكن بوسعه التخلص من بليندا كما أراد، مكانته كخليفة لم تكن مستقرة بعد.
لقد رأى والده وهو يصارع كي يرسّخ مكانته وسط العائلة، يعاني من تضييق الأفرع الجانبية للعائلة، ويبذل ما فوق الطاقة ليحفظ موقعه.
وكان أكبر عائق في وجه والده… شيخ عائلة سيلفيو، الأقوى بين ثلاث العائلات الداعمة، كان مهووسًا بنقاء الدم، ولم يعترف أبدًا بشرعية والده كزعيم حتى لحظة وفاته.
لهذا، كان على شوفيل أن يكون أذكى، لم يكن كافيًا أن يُبعد بليندا فحسب، بل رأى أن وجودها كخصم مفترض سيُظهره في صورة ناقصة.
ما الأفضل إذًا؟
أن يكون القائد القادم متهورًا يملك الدم النقي فقط؟
أم أن يكون رجلًا مدبرًا، أثبت قدرته في تسيير شؤون العائلة؟
باستثناء بعض العجائز المهووسين بالنسب، الجميع وقف إلى جانب شوفيل.
لذا… لم يكن بحاجة إلى قتل بليندا آنذاك.
لكن من كان يتوقع أن تتعقد الأمور إلى هذا الحد؟
طَقطَقة… طَقطَقة…
راح يقرع بأطراف أصابعه على ذراع الكرسي، ثم نطق بهمس بارد كحدّ السكين:
“يبدو أنه لا بد من التخلص من تلك الفتاة.”
صحيح أن مشاريع الرعاية التي يديرها تحت اسم الأمير لم تكتمل بعد، وموت بليندا المفاجئ سيعني خسارة مالية كبيرة…
لكنه لم يعد يملك ترف المفاضلة بين البارد والساخن.
أومأ برأسه إلى مساعده الواقف جواره.
***
“كستناء الفئران!”
“نعم! آنسة بليندا!”
هرع ليو إليها مسرعًا، يتخبط وهو لا يزال ينفخ على زجاج النافذة وينظفه بحماس ، بدا عليه الابتهاج، فشعرت بليندا بالذنب لقطع تلك اللحظة… لكنها لم تعد تحتمل الانتظار.
[حالة اللاعب.]
[الاسم: كستناء الفئران]
[العمر: 9 سنوات]
[الذكاء: 56/100]
[القوة المقدسة: 49/100]
[الطاقة السحرية: 71/100]
[مستوى التوتر: 2/100]
تأملت مؤشر توتر ليو، وحين تأكدت من هدوئه، تنفّست بعمق، وضبطت ملامحها لتبدأ حديثها بحذر:
“بما أننا في عام جديد… فكرت أن أُهديك اسمًا جديدًا يليق بك.”
لم تكن تلك الكذبة محكمة تمامًا، فقد قضت أيامًا تفكر في طريقة لفتح هذا الحديث، وتلك كانت أفضل حجة استطاعت التوصل إليها.
منذ اليوم الأول الذي سكنت فيه هذا الجسد، كانت تحلم بلحظة تنادي فيها الطفل باسمه الحقيقي.
والآن، اقتربت اللحظة.
شعرت بلسانها يلسعها، وبتوتر يكاد يخنقها، وهي تنتظر منه موافقة صامتة.
لكن الطفل قال ببساطة:
“لا بأس، أنا أحب اسمي كما هو!”
“كنت أعلم أنك ستق… ماذا؟!”
“اسمي الذي منحتني إياه الآنسة بليندا… هو أعز ما أملك.”
“…أعز ما تملك؟”
“نعم!”
‘ما هذا بحق السماء؟!’
لم يكن هذا ما توقعت سماعه على الإطلاق.
التعليقات لهذا الفصل " 108"