الحلقة مئة وستة.
وصل حجر سحري احمر الى سيد سيرفاتور مع طلب لتبادل الياقوت.
كان سيرفاتور صانع مجوهرات بارعًا.
[ لم اكن على علم بوجود حجر سحري، لكنني أدركت فورًا أن هذه الجوهرة لم تكن مجرد حجر ياقوت عادي، كان ذلك حدسًا نابعًا من خبرتي التي تمتد لعقود في التعامل مع الأحجار الكريمة.]
لكن المشكلة كانت في براعته الشديدة كصانع مجوهرات؛ فقد أدرك أن هناك مؤامرة تُحاك، لكنه لم يستطع مقاومة الرغبة في إظهار بريق هذا الحجر النادر بأبهى صورة، كان ذلك شغف صانع المجوهرات المتفاني الذي غلب على حكمته.
لم يكن السبب وراء قبوله الطلب المشبوه هو الرغبة في تسديد دين يتعلق بياقوت أحد أقربائه، بل كان دافعًا نابعًا من كبريائه كحرفي يسعى إلى الكمال.
في محاولةً منه للتكفير عن خطاياه، حمل سيرفاتور حجر الياقوت الذي طلبه منه السيد جوناس بلانش طويلًا، مرافقًا إياه كعلامة على ندمه، وأرفق مع الحجر رسالة، قال فيها:
[أُرفق مع هذه الرسالة الحجر الذي طلبته مني في البداية، تعبيرًا بسيطًا عن أسفي واعترافي بخطئي.]
أخرجت حجر الياقوت من المغلف الذي كانت الرسالة بداخله، ولامست سطحه بأطراف أصابعي، كان ملمس الجوهرة الباردة وكأنها تطعن قلبي.
[أما عن العميل، فلم يكن لدي الكثير من المعلومات، أتذكر فقط ملامح الشخص الذي زارني، وأتذكر أنه كان يحمل دليلاً على انتمائه لعائلة بلانش.]
[كان لون عينيه وشعره بنيًّا، وعلى خده الأيسر ندبة طويلة تبرز بشكل واضح.]
حين وصلت إلى نهاية الرسالة، كانت صورة المجرم واضحة في ذهني، كما لو أنني رأيته للتو، لقد كانت ملامحه تتطابق تماماً مع أوصاف مساعد شوفيل الذي كان سابقاً يُعرف بلقب الذئب الوحشي.
أعدت الرسالة بعناية، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن أستدعي واجهة النظام.
ظهر أمامي النص التالي:
[المهمة] أين أنا؟ من أكون؟
▼ [جديد] احصل على المكافأة الأخيرة.
بعد الحصول على هذا المكافأة، كان بإمكاني أخيرًا تعطيل المترجم.
لقد تحملت الكثير من المصاعب وارتكبت أفعالًا لا تُصدّق لأجل فهم بليندا والوصول إلى هذه النقطة، ولكن الآن، وأنا على وشك تحقيق الهدف، تباطأت خطواتي فجأة.
لأول مرة، شعرت بالخوف من رؤية ذكريات بليندا.
كنت أخشى أن أُسحق مجددًا تحت وطأة ماضيها كما حدث في المرة السابقة، فأفقد نفسي في دوامة تلك الذكريات.
لكنني تمتمت لنفسي: “رغم ذلك، لا يمكنني التوقف الآن.”
لأتمكن من اتخاذ القرار بشأن تنفيذ “الخطة” أو التخلي عنها، كان عليّ استعادة آخر قطعة من ذكرياتها.
ترددت للحظة، ثم التفت بهدوء إلى السير بيناديل الذي كان يقف خلفي كظل يحرسني.
قلت له: “سير، ألا ترغب في القدوم ورؤية الزهرة التي أزهرها تلميذك؟”
تردد السير بيناديل للحظة وكأنه كان ينوي رفض اقتراحي، لكنه فجأة توقف وكأن شيئًا ما لفت انتباهه، ثم اقترب مني بخطوات ثابتة.
قال باقتضاب: “سأفعل.”
رغم أن الأمطار جعلت ضوء القمر خافتًا والجو من حولنا مظلمًا تمامًا، إلا أن هيئة السير بيناديل الضخمة كانت تُبرز وجوده بوضوح وسط الظلام.
معتمدة على حضوره الراسخ كمرساة، أغمضت عيني ببطء وهمست: ‘اكتساب’
بمجرد أن تفوهت بالكلمة، شعرت بجفوني ترتعش كما لو أنني في حلمٍ خفيف، وفي لحظة خاطفة، غرقت أفكاري في مستنقع الماضي.
***
“آنسة بليندا، ماذا كنتِ تفكرين عندما أقدمتِ على إهانة اللورد إرنكو؟! إنه رجل لا يجب أن نُحوّله إلى عدو بأي حال! عائلته من بين العائلات القليلة التي تؤيد توليكِ لقب الماركيز!”
كان الكونت سيلفيو يقف أمام بليندا، يملأ المكان بالعتاب، بينما هي تنظر إليه بملامح ملؤها الملل والضجر.
ردّت عليه بلا مبالاة: “وماذا في ذلك؟ أليس مجرد ابن ثاني؟”
قال الكونت سيلفيو بحدة: “حتى لو كان الابن الثاني، فهو الوريث الشرعي لعائلة إرنكو! سيد العائلة لن يغض الطرف عن هذه الإهانة.”
قاطعت بليندا كلامه وهي تلوح بيدها كأنها تطرد حشرة مزعجة، وقالت: “كفى عنادًا ككلب عجوز يثرثر بلا توقف، انظر إلى هذا.”
أشارت بليندا إلى قبعتين مزينتين بتفاصيل زاهية.
ثم سألت بنبرة خفيفة: “برأيك، أيهما يناسبني أكثر؟”
تابعت دون أن تنتظر ردّه:
“الحفل الذي سأحضره هذه المرة يعتمد زيًّا مستوحى من الطراز الروكوكو ، أليست هذه الأزياء كانت رائجة في شبابك؟ ما رأيك، أيهما أجمل؟”
م : الروكوكو هو طراز فني ظهر في فرنسا في أوائل القرن الـ18، ويتميز بالزخارف المعقدة والتفاصيل الدقيقة والتأثيرات الزخرفية الخفيفة، كان هذا الطراز يعكس الرغبة في الرفاهية والنعومة، مع استخدام الألوان الفاتحة والذهبية وهو رمز للذوق والاناقة.
على وجه كونت سيلفيو، الذي تكسوه التجاعيد، ارتسمت ملامح الإحباط والتشاؤم وهو ينظر إليها.
لماذا يصرّ هذا الرجل على تدمير نفسه بهذا الشكل؟ لقد كان في الماضي رجلًا ذكيًا، يتّسم بالحكمة ولا يعامل من هم دونه باستعلاء أو قسوة.
عاود البارون سيلفيو التعبير عن ألمه العميق بصوت منخفض:
“يا آنسة، أنتِ الوريثة الشرعية لعائلة بلانش، أرجوكِ تمسّكِ بموقعكِ كخليفة لهذه العائلة…”
قاطعت بليندا حديثه بحدة، قائلة:
“يا كونت، ماذا طلبت منك؟ ألم أطلب منك اختيار قبعة لي؟”
ثم أردفت بتوتر:
“متى كانت آخر مرة زارك فيها أفراد عائلتي، راشيل ودوكوف؟”
لكن رغم عصبية بليندا، لم يتراجع الكونت سيلفيو عن نبرة صوته الهادئة، وقال:
“راشيل، دوكوف، وأنا، نحن الثلاثة نتبع عائلة بلانش منذ القدم، عندما كانت هذه العائلة تحكم أراضي شاسعة كإحدى عائلات النبلاء العريقة.”
تابع الكونت حديثه بنبرة ممزوجة بالألم:
“حتى بعد أن فقدت عائلة بلانش مكانتها وباعت كل أراضيها، ثم عاشت في قصر مهترئ بالعاصمة كأي عائلة نبيلة منهارة، لم تفقد تلك العائلات الثلاث ولاءها لعائلة بلانش، بل ظلّت على عهدها بالوفاء والإخلاص.”
عندما استعادت أدليا بلانش مجد عائلتها، لم تنسَ ولاء تلك العائلات الثلاث، فقامت بتوزيع امتيازات تجارية كبرى عليهم، لتصبح سلطتهم مؤثرة على أي شخص يسعى لرئاسة عائلة بلانش.
واصل الكونت سيلفيو حديثه، محذرًا:
“لكنني أخشى أن رؤساء عائلتي راشيل ودوكوف قد تخلوا عنكِ وانضموا إلى صف شوفيل.”
توقف يد بليندا عن العبث بالقبعة عندما سمعت كلامه الثقيل، ثم قال الكونت:
“يا آنسة، يجب أن تواجهي الحقيقة الماركيز حاليًا ليس في كامل قواه العقلية وإن حدث وكتب وصية وهو في حالة هذيان…”
قاطعت بليندا حديثه بحدة:
“كفى يا كونت.”
لكن الكونت لم يتوقف، وقال بصوت مليء بالريبة:
“أليس من الممكن أنه كان يخطط منذ البداية لهذا؟ ربما خدعكِ ليورث منصب العائلة لابنه!”
في تلك اللحظة، ارتفع صوت تهشم كوب الشاي الذي ألقت به بليندا على الأرض بغضب.
“أنت هو من فقد عقله أيها الكونت! لا تدرك حتى ما الذي سألتك عنه، إن لم تكن ستختار قبعة لي، فغادر فورًا.”
قال الكونت بحزم وهو يوجه آخر إنذار:
“إذا أرسلتني الآن، لن أعود إليكِ مرة أخرى.”
لكن بليندا لم تُبدِ أي اهتمام، بل وجهت أوامرها للخدم ببرود:
“لماذا لا تخرجونه؟ ألا ترون أن الكونت بات هرمًا وفاقدًا لعقله؟ هل يجب أن أعطيكم أوامر حتى في الأمور الواضحة؟”
رد الكونت بوجه متوهج من الغضب:
“فهمتُ رغبتك جيدًا.”
نهض من مقعده بغضب، متكئًا على عصاه، ورفض مساعدة الخدم أثناء خروجه وهو يعرج.
وقفت بليندا تراقب بصمت عربة الكونت سيلفيو وهي تغادر قصرها، دون أن تنبس ببنت شفة.
عندما اختفت عربة الرجل عن الأنظار، فتحت هي شفتيها أخيرًا وقالت:
“سأذهب إلى أبي، جهّزوا كل شيء.”
كان سيد عائلة بلانش يستريح في مزرعة صغيرة تقع على أطراف العاصمة الملكية.
كانت بليندا تزور عمّها من حين لآخر، ولكنها نادرًا ما رأت وجهه في حالة يقظة.
ذلك لأن الهذيان والصداع الشديد كانا يجبرانه على البقاء تحت تأثير الأدوية طوال اليوم.
بعد أن طلبت بليندا من الجميع المغادرة، وقفت أمام باب غرفة عمّها، أخذت نفسًا عميقًا، أعادت ترتيب تعابير وجهها، ثم فتحت الباب.
“أبي…”
كان الجو داخل الغرفة يفوح برائحة الموت والزهور الذابلة، ممتزجًا برائحة كريهة لا يمكن وصفها.
ورغم ذلك، لم تفقد بليندا ابتسامتها، وتقدمت لتجلس بجانب عمّها النائم.
“في كل مرة آتي، أجدك دائمًا مستلقيًا هكذا.”
قبل عامين، لم تكن حالته بهذا السوء.
المرض الذي لم يستطع حتى الكهنة علاجه بدأ يأكل جسد عمّها من الداخل.
لقد تغيّر الرجل الهادئ واللطيف ليصبح أكثر عصبية بسبب الألم، لكنه لم يرفع صوته أبدًا على ابنة أخيه.
أمسكت بليندا يد عمّها النحيلة بقوة.
ذلك اليوم تحديدًا، كان عمّها هو الشخص الوحيد الذي صدّق قولها بأنها لم تدفع شوفيل من على الدرج.
ومع ذلك، لم يشكك أبدًا في كلام شوفيل أيضًا، الذي أصر على أن بليندا هي من دفعته.
لم يكن قاسيًا بما يكفي ليصدق كلام أحد الأبناء ويكذّب الآخر.
كان هذا طبع عمّها، ولهذا السبب اختارته بليندا واعترفت به كجزء من عائلتها.
لكن في تلك اللحظة، لم تستطع أن تسامحه.
اعتقدت، مثل الجميع، أنه كان سيضع أبناءه الحقيقيين فوق كل اعتبار.
لذلك، عمدت بليندا إلى ارتكاب العديد من الأخطاء لتختبر حبه لها.
حتى عندما كانت تتسبب في أفعال تضر بسمعة العائلة، كان عمّها دائمًا يحتضنها بلطف ويقول:
“بليندا، هل تأذيتِ؟”
“دعيني أتولى الأمر، لا تقلقي بشأن شيء.”
“آسف لأنني أب عديم الفائدة، بليندا.”
كانت تعرف أن ما فعلته كان تصرفًا أحمق، لكنها لم تستطع التوقف.
ومع ذلك، ها هي النتيجة.
تجد نفسها الآن، عشرات أو ربما مئات المرات يوميًا، تشك في عمّها.
“هل يمكن أن يكون عمّي قد دبّر كل هذا لجعل شوفيل سيدًا على العائلة؟”
“لماذا يبدو شوفيل كأنه يؤمن تمامًا بأن عمّي سيفضّله على الجميع؟”
“هل كنت تُخطط لكل هذا منذ البداية؟”
“أنا من تلقيت دروس الخلافة، ومع ذلك، لماذا يبدو أن شوفيل يعرف كل صغيرة وكبيرة عن شؤون العائلة؟”
ربما…
“ربما كان كل شيء مخططًا له منذ البداية، ربما خُدعتِ من أجل أن يورّث لقب العائلة لابنه، ربما كان ذلك هو الهدف منذ البداية…”
من المحتمل أن كلمات الكونت سيلفيو كانت صحيحة.
ربما حتى تلك الدموع التي ذرفها يوم جنازة والدي، بينما كان مختبئًا خلف الأشجار، لم تكن سوى كذبة.
لكن…
“لا بأس.”
يمكنني أن أغفر.
لأنه إذا آمنتُ أن عاطفة عمي كانت صادقة، فإنها ستظل حقيقية بالنسبة لي، حتى لو كانت في جوهرها كذبًا.
“لذا، فقط قُلها لي، يا أبي، أخبرني أنك تحبني كما كنت تفعل من قبل، مجرد قول تلك الكلمة، ستكون الأمور كلها بخير بالنسبة لي.”
تلك الكلمات أيقظت عيني عمي المغمضتين كمعجزة.
تأرجحت جفونه بخفة، وعيناه المشوشتان بفعل تأثير الدواء أخذتا تتجولان في الأرجاء، قبل أن تستقرا أخيرًا على بليندا.
ثم، تلك اليد النحيلة، التي تشبه أغصان الشجر الجافة، امتدت لتلمس وجنتها.
“بليندا، يا مسكينة…”
ثم قال: “هل ستصبحين ابنتي؟”
كان من الواضح أن عمي لم يعد قادرًا على التمييز بين الماضي والحاضر، كان يرى الأشياء مختلطة، غير قادر على إدراك من أمامه.
كان واضحًا أن كلماته تلك لا تحمل أي معنى أو غاية حقيقية.
ومع ذلك…
“ما الذي تقصده؟ أنا بالفعل ابنتك، أليس كذلك؟ فلماذا تقول شيئًا كهذا؟”
لم تستطع بليندا كبح غضبها، فانفجرت بصراخ:
“أخبرني! لماذا كنت بحاجة إليّ؟ ما الذي كنت تريده مني؟”
لم تكن قادرة على التحمل دون أن تعرف الإجابة.
التعليقات لهذا الفصل " 106"