الحلقة مئة وثلاثة.
***
ساد قصر عائلة بلانش بِـ جو مشحون بالتوتر الغريب.
كان السبب وراء ذلك يعود إلى أن سيدهم، شوفيل بلانش، كان في مزاجٍ بالغ السوء في الآونة الأخيرة.
منذ عودته من الحفلة الملكية وتحول مكتبه إلى فوضى عارمة، أصبح شوفيل يُظهر نوبات غضب هستيرية بشكل متكرر.
وكانت حساسيتُه المفرطة تجاه الطيور اللافتة للنظر خاصةً مُهيبة، لدرجة أن الطاهي الرئيسي امتنع حتى عن تقديم لحم الدجاج ضمن وجباته لفترة من الزمن.
وحين بدأ الجميع يعتادون تدريجيًا على تقلبات سيد القصر الغريبة، حدث ما لم يكن في الحسبان.
“لقد تحوَّل هذا المكان إلى وكرٍ تافه من الأنواع المختلطة أثناء غيابي.”
عاد البلاء المنسي ليُخيم مرة أخرى على القصر.
“بـ… بـ بـ… آنسة بليندا!”
ردت بليندا ساخرةً ببرود، قائلة:
“يبدو أن الشيخوخة أصابتك بالخرف، أيها الخادم، منذ متى أصبح اسمي بببب بليندا؟”
وبعد كلماتها اللاذعة، خيّم الصمت على الحاضرين، فلم يجرؤ أحد على النطق ولو بكلمة واحدة.
“لدينا ضيف، وأريد أن يتم الترحيب به بشكل لائق.”
“ضـ… ضيف؟”
حاول الخادم بصعوبة استعادة وعيه، لكنه فقده مجددًا حين رأى الحيوان رباعي الأرجل الذي تبع بليندا إلى داخل القصر.
“ووف! ووف ووف!”
“كيييينغ.”
دخل القصر ثلاثة كلاب من نوع دوبرمان، بدأ وكأنهم مستعدين للانقضاض في أي لحظة، وكشفوا أنيابهم الحادة بطريقة مروعة، فيما وقفوا يحيطونَ بِـ بليندا كأنهم فرسان يحمون سيدتهم.
بابتسامة لا تخلو من الجرأة، بدأت بليندا تداعب رؤوس الكلاب واحدًا تلو الآخر، ثم قالت مُعرّفة عن ضيفها:
“هذا يُتقن العض، ذاك يجيد التمزيق، وأما هذا فمتخصص في المضغ.”
ارتجف أحد العاملين في القصر وأطلق أنينًا مكتومًا، وكأن حلقه يُطبق من الخوف، بسبب زئير الكلاب الكبيرة التي لم تكن حتى مربوطة بسلاسل.
لكن بليندا أضافت بلهجة يصعب تحديد إن كانت لطمأنتهم أم لتحذيرهم:
“لا داعي لأن تهرعوا للأختباء في الجحور هذه الكلاب لن تعضكم أو تمزقكم أو تمضغكم… ما دمتم لا تثيرون غضبي.”
ثم أكملت بنبرة أكثر جدية:
“لم أعد إلى القصر إلا لأرى كيف تسير الأمور في غيابي، لذا لا حاجة لكل هذا التوتر، أيها الخادم ، الآن، دعني أرى حال غرفتي…”
كانت الحقائب قد أزيلت جميعها، لذا اصطحبها إلى غرفة الضيوف.
“لكني… ولكن…”
“من الأفضل أن تفكر جيدًا في الإجابة الصحيحة.”
“سأقوم بذلك، آنستي.”
رافق الخادم بليندا إلى غرفة الضيوف، ولكنه كان يرتجف طوال الطريق، خائفًا من أن ينقض عليه الوحوش التي جاءت برفقتها من الخلف.
لحسن الحظ، لم يحدث أي اعتداء، لكن كل من يعمل في القصر تمنى لو أن الأمر اقتصر على عضة كلب، بدلًا من تحمل الطغيان المستمر لـ بليندا.
تحطّم صوت الزجاج في صخب!
“هل تتجرأون على تقديم هذا وتسمونه طعامًا؟ هل ظننتم أني لن أكتشف السم في الحساء؟”
كانت ترمي الطعام بغضب وتتهمهم بوضع السم، رغم أن هذا الاتهام لا أساس له.
“أيها الحشرات الحقيرة! هل تخططون للتجسس عليّ وإخبار تلك النكرة بكل خطوة أخطوها؟”
“لا… لا، آنستي! أنا فقط أردت التأكد مما إذا كنتِ بحاجة إلى شيء…”
طردت الخادمات بتهم ملفقة، ولم تكن تترك فرصة إلا واستغلتها لتفريغ غضبها عليهن.
حتى الكلاب التي أحضرتها كانت أكثر هدوءًا منها.
في هذه الأثناء، وبعد عودته من القصر الملكي بعد لقائه بالأمير، كان شوفيل قد استعد نفسيًا لمواجهة هذا الوضع.
لقد عاش خلال الشهر الماضي وكأن روحه تُستنزف ببطء، فيما كانت كلمات تحذير بليندا تهمس في أذنيه كأنها أفاعٍ تزحف.
“إن كانت قد اكتسبت قوة خارقة تستطيع بها السيطرة على الوحوش، فهي بالتأكيد لن تدع هذا الأمر يظل طي الكتمان.”
كان عليه أن يبقى يقظًا طوال الوقت، ما جعله ينهار تدريجيًا، كل ليلة كان كأنه يعيش حربًا نفسية تنهك أعصابه كالصنفرة التي تآكل سطحها.
ولهذا، شعر ببعض الراحة عند زيارتها، إذ رأى أنها فرصة سانحة لاستكشاف نواياها الخفية، حتى لو اضطر إلى تمزيق قناعها عنوة.
“عليّ أن أؤكد أن تلك اللعينة لا تزال تحت سيطرتي.”
***
في منتصف القاعة، على الدرج المؤدي للطابق الثاني، التقى شوفيل بِـ بليندا عند المكان الذي اشتهر في القصر بحادثة دفع آنسة بلانش لشقيقها، كما يُشاع.
هناك، وقفت بليندا، وظهر على وجهها تلك الابتسامة المتعجرفة التي جعلت شوفيل يتجمد في مكانه.
الوجه الذي كان يومًا ما بريئًا ومليئًا بالخوف وهو ينظر إليه مستجديًا، صار الآن يمتلئ بالثقة والازدراء.
قبل سنوات، كان ذلك الوجه الطفولي البريء، المغطى بدموع الخيانة واليأس، يهمس إليه برجاء:
“هل قتلتها؟ هل أنت من قتل جيني، يا أخي؟”
صوتها حينها كان ناعمًا، أشبه بورقة زهرة مبللة بمياه المطر، ولكنه الآن بات شيئًا آخر تمامًا…
لا يزال كل شيء واضحًا وكأنه حدث الآن.
فتحت بليندا شفتيها لتتحدث بصوت هادئ وثابت لا يمكن تصديقه، وكأنه ليس الصوت نفسه الذي عرفته في الماضي.
“شوفيل، لماذا قتلت والدك؟”
لم يكن شوفيل رجلاً يسهل كشفه أو زعزعته حتى بعد أن طعنته كلماتها كالسيف.
لم يستطع أن يخفي ارتباكه حين وُضعت أمامه شظايا خطيئته مُحكمة الإغلاق.
“ما هذا… الكلام المجنون الذي تقولينه؟ بليندا، يبدو أنك قد فقدت عقلك تمامًا.”
لكن ابتسامته الهادئة التي كانت تشبه جلد الإنسان المتماسك تلاشت فجأة، ومزقتها شقوق كشفت عن طبيعته الوحشية الكامنة.
كانت تلك الابتسامة الملتوية بمثابة اعتراف لا يقبل الشك.
تنهّدت بليندا بإفراط، كما لو أنها شاهدت جريمة مروّعة أمام عينيها.
“يا للعجب، لقد قتلت والدك حقًا!”
صرخ شوفيل بعصبية وهو يمسك بياقة بليندا بشدة: “اغلقي فمك!”
رغم شخصيتها القوية، لم تستطع بليندا مقاومة قوته الجسدية وسُحبت عاجزة بين يديه.
بجانبها، كانت كلابها الدوبرمان تفتح أفواهها وكأنها على وشك أن تنقضّ على رقبة شوفيل، لكنها توقفت عن الحركة تمامًا بإشارة واحدة من يد بليندا.
أثارت تلك الحركة الهادئة غليانًا في داخله.
“لا يجب أن تكوني هكذا أمامي!” كان يُفترض أن تبقى خائفة، مترقبةً لنظراتي كما كُنتِ دائمًا!.
سيطر عليه شعور غريب من التوتر وعدم التوازن، ربما لهذا السبب، وبأندفاع متهور، همس بالحقيقة في أذنها، وكأنه يعض على كلماته:
“نعم، لقد قتلت ذلك العجوز المهترئ، بليندا، أيتها الحمقاء، ماذا ستفعلين الآن بعدما اكتشفتِ ذلك؟ الدليل الوحيد قد أصبح جثة متعفنة.”
كلما أكمل حديثه، ازدادت شراسته واضطرابه.
فالطبيعة البشرية لا تتغير بسهولة.
كان يعتقد أن بليندا لا تزال تلك المرأة الضعيفة التي تفتقر إلى الحب.
وكما فعل دائمًا، حاول بلسانه المسموم أن يُضعفها ويهددها لتستسلم مجددًا لحياة الانهيار واليأس.
“لا يمكنكِ فعل شيء، كل ما يمكنك فعله هو الاستمرار في البكاء والتفكير في ضعفك، بينما تندبين والدك البائس، لذا…”
قاطعته بليندا بابتسامة بدت وكأنها أخفّت بها كل الأحزان.
“لأول مرة، تقول لي الحقيقة يا شوفيل.”
كانت كلماتها تبدو عادية لو سمعتها للوهلة الأولى، لكنها أصابتهُ بالصمت المفاجئ.
ابتسمت بليندا وكأنها تحررت أخيرًا.
“كلماتُك هذهِ وحدها كافية.”
كان شوفيل يظن أن بليندا تقف على حافة الدرج لكن في الواقع، كان الشخص الذي كان يقف هناك بفزع هو شوفيل نفسه.
شعر أنّ بليندا مستعدة لدفعه في ايّ لحظة.
بينما كانت بليندا تمسك برقبة شوفيل، غرست أظافرها في ظهر يده، مما جعله يبتعد عن جسدها.
قالت بليندا بنبرة هادئة: “شوفيل، هل تعلم؟ أنا لا أؤمن بالإله.”
كانت الظلال الضخمة التي امتدت وراء ظهرها تبتلع مكان لوحة رسم صورة حاكم المنطقة، وكأنها كانت تلتهم المكان كله.
بدأ شوفيل في مشاهدة الظلال التي تتشوه بشكل مخيف، حتى أنه لم يعد يستطيع رؤية وجه بليندا بسبب الظلام الذي غطاها بالكامل.
ثم، فجأة…
“لذلك، لن أترك مصيرنا في يد هذا المخلوق المدعو الإله.”
دفعت يد بليندا خفيفًا على كتفه.
لكن شوفيل، على خلاف ما كان عليه في الماضي، بدأ يلوح بيديه في محاولة يائسة للتمسك بأي شيء.
ثم، وقع ضجيج.
لقد أصيب شوفيل في ظهره، مما جعل تنفسه يضيق وأصبح يرى العالم من حوله بشكل ضبابي.
بينما كان يسمع صرخات الخدم الذين تجمعوا، كان صوت حوافر الأحذية على الدرج ينزل ببطء وبشكل واضح جدًا.
“سيدي!”
“يا إلهي، يا آنسة! ما هذا…؟”
وقف حذاء أحمر لامع أمام عيني شوفيل. كان يلهث بصعوبة، يصدر أصواتًا غير مفهومة.
قالت بليندا بوجه هادئ: “لم تتعرض لأذى كما في المرة السابقة، لا يوجد دماء أو كسور، يبدو أن الأشخاص الذين يمتلكون الكثير من الأشياء لا يصابون بسهولة.”
نظر شوفيل إليها وهو يلهث، ولم يستطع الرد.
وفي تلك اللحظة، لم يستطع أي شخص الاقتراب من بليندا، لأن ثلاثة من كلاب الدوبرمان كانت تحرسها.
قالت بليندا بابتسامة شبه غير مرئية:
“هكذا يجب أن تتحرك، كما لو أنك دودة.”
ثم أضافت: “أيها الخادم، حضّر العربة، سأعود إلى قصري الخاص، لا أستطيع البقاء هنا، فالرائحة هنا غير محتملة.”
لم يجرؤ أحد من الحاضرين على اعتراض بليندا أو توجيه أي اتهام لها، بل ابتعدوا بلا ندم.
بينما جلست في العربة، أطلقت تنهيدة كانت قد حبستها طويلاً.
كانت يدي التي دفعت شوفيل لا تزال ترتجف، ولكنني حاولت إخفاء الرجفة وأغلقت قبضة يدي بإحكام.
“هل كان شوفيل هو من قتل عمي حقًا؟”
شعرت وكأنني كنت أقف على مستنقع، لا على أرض صلبة.
[المكافأة:] {مكافأة المهمة: قطعة من ذاكرة بليندا} {الشظية الرابعة} ]
[عند الحصول على قطعة الذاكرة ستحصل على مكافأة خاصة.]
[بمجرد الحصول على “مكافأة المهمة: قطعة من ذاكرة بليندا {الشظية الرابعة}، يمكنك استخدام “المكافأة الخاصة: تعطيل مترجم بليندا”].
كنت بالكاد أتمكن من بلع القيء الذي كان يهددني، وأغلقت نافذة النظام التي ظهرت أمامي.
كانت فرحتي بإتمام عملية التزامن، وكذلك الإثارة لكوني على وشك تعطيل المترجم، أمورًا لا تعني لي شيئًا في تلك اللحظة.
كنت قد انهكت تمامًا بسبب العزلة التي شعرت بها أثناء تواجدي في القصر كـ بليندا، وكذلك ثقل الحقيقة التي اكتشفتها من شوفيل.
كل ما أردته الآن هو العودة إلى المنزل وأخذ قسط من الراحة.
لحسن الحظ، توقفت العربة بسرعة، وكان المطر الخفيف يتساقط في الخارج.
عندما نزلت من العربة رغم ارتعاش ساقيّ، سمعت صوتًا يناديني:
“آنسة بليندا!”
شخص ما ركض نحوي واحتضنني فجأة.
“لقد سمعت من تيري أنكِ ذهبتِ إلى القصر! هل أصبتِ بأي أذى؟”
نسيت تعبي للحظة وأنا أراقب ليو الذي كان يزين رأسه بشريط أحمر كبير مثل هدية.
“ما هذا؟”
بينما كنت أمد يدي لألمس الشريط، فُتح باب القصر الفرعي فجأة وصرخت فيفيان بشكل عاجل:
“نجمي الصغير! لا يجب أن تخرج الآن!”
“آه! من فضلك، اعتبري أنكِ لم تري شيئًا!”
ابتعد ليو عني بسرعة وركض إلى الجناح مختبئًا.
ثم نظرت إلى السير بيناديل، الذي كان يضع مظلة فوق رأسي.
“……………ماذا كان ذلك للتو؟”
“ستكتشفين ذلك عندما تدخلين.”
أجاب السير بيناديل بنبرة تخفي شيئًا ما، وكأنه يحاول إخفاء سر.
وعندما فتحت باب الجناح الفرعي بدهشة، وكأنني رأيت مخلوقًا خياليًا من الأساطير:
“آنسة بليندا! عيد ميلاد سعيد!”
عالمي الذي كان لِتوه رمادي اللون تحول إلى ألوان دافئة من الأحمر القاني، ملونًا بألوان الفرح والاحتفال.
التعليقات لهذا الفصل " 103"