الحلقة مئة واثنين.
الغيرة…
“لماذا أشعر بها؟”
لم يتمكن سيزار من منع نفسه من التفكير في ولي العهد.
ذلك الرجل الذي كان يُطلق عليه أمل المملكة، وكأنه استحوذ على كل النِّعَم والبركات، كان مظهره مثاليًا لدرجة لا يمكن تجاهلها.
لقد غذّت الغيرة والإعجاب لدى الآخرين لمعانه المُبهِر.
لم يكن سيزار يومًا يعير هذه الأمور أهمية… حتى هذه اللحظة.
“سيد، ألا تأكل؟”
كلمات بسيطة من بليندا قطعت عليه أفكاره، لتعيده إلى الواقع.
بضغط خفيف منها، أمسك ببطء أدوات المائدة الخاصة بالحلويات وبدأ بسحق الحلوى الموضوعة أمامه.
ولكن، حين وضع قطعة منها في فمه، شعر وكأنها تتحول إلى رمال جافة تملأ فمه.
كانت تيري، التي تراقب سيزار من طرف عينها، تكافح لكبح الابتسامة من أن ترتسم على شفتيها.
“كنت أريد تحفيزه فقط، ولكن يبدو أن الأمور أصبحت أكثر إثارة مما توقعت.”
***
خلافًا لـ كاو، الذي يفقد نشاطه تمامًا في وضح النهار، فإن سيربيروس كان ممتلئًا بالحيوية ليلًا ونهارًا.
حينما تم ترويضه لأول مرة، كان صغير الحجم لدرجة أنه بالكاد يتسع في كفّ اليد بسبب فقدانه معظم طاقته السحرية.
ولكن، بفضل نصيحة تشاشر وإعطائه بعض الأحجار السحرية لاستعادة طاقته، بدأ بالنمو بسرعة فائقة.
والآن، أصبح يبدو أشبه بكلب دوبرمان مكتمل الهيئة، كما أعرفه.
كير، الأخ الأكبر بين الثلاثة، كان يتمتع بشخصية مرحة واجتماعية، مما جعله ودودًا مع الجميع.
أما ليفي، الأخ الثاني، فكان متيقظًا وحذرًا، لكنه كان شديد الولاء لي، إلى درجة أنه أصبح يشبه كلب دوبرمان الذي كانت بليندا تربيه.
قمت بهدوء بمد يدي نحو ذقن ليفي لأداعبه بلطف، بينما وقف بثبات على بعد نصف خطوة مني، يراقب كل حركة أقوم بها باهتمام بالغ.
“بليندا كانت دائمًا مرتبطة بكلبها ميشا، الذي كان مخلصًا لها بشدة…”
لم أستطع التوقف عن التفكير: “حتى في شخصيته، يبدو وكأنه نسخة من السير بيناديل.”
للأسف، كان ولي العهد بعيدًا تمامًا عن هذا التشبيه، اسم ميشا كان موجودًا قبل أن تلتقي بليندا بولي العهد، لذا فإن كلمات تيري حول تفضيل بليندا للسير بيناديل كانت بلا شك بسبب الشبه الكبير بينه وبين كلبها المفضل.
داخل المنزل، ألقيت نظرة متأملة على السيفين اللذين يلازمانني دائمًا روبي عن يميني، وبيناديل عن يساري، ثم بحثت بعيني عن الأخ الأصغر بين الثلاثة، متسائلة بصوت عالٍ:
“هل رأى أحدكم بيرو؟”
ردت تيري، التي عادت لتوها من الخارج ودفء يديها المتجمدتين أمام الموقد:
“لقد رأيته مختبئ خلف الخزانة قبل قليل.”
كان بيرو ، أصغر أخوان سيربيروس، كائنًا شديد الخوف، لم يكن يظهر إلا إذا كنت وحدي، ويختفي فور وجود أي شخص آخر.
اطمأننت إلى أنه لم يهرب مذعورًا إلى الخارج، بل كان مختبئًا في مكان ما داخل المنزل، بعد ذلك، التفتُّ لتصفح الأوراق التي جلبتها تيري.
سادت أجواء هادئة في المكتبة، صوت الشرر المنبعث من الموقد، تقليب الصفحات، وليو الذي يرسم على الورق تعاويذ سحرية بخط يده.
لكن، بينما كنت أقترب من الصفحة الأخيرة، انقطع هذا السكون فجأة بصوت صراخ مدوٍّ:
“كير!”
رفعت رأسي مذعورة لأرى كير، الكلب المشاكس، يتدحرج وسط ألسنة النار داخل الموقد وكأنه يستحم فيها!
لم يكن هذا التصرف الغريب جديدًا علي، فقد تسبب في الماضي بإحداث ثقوب مروعة في السجاد بسبب شرارات النار التي يبعثرها.
لكن هذه المرة، تجاوز كل الحدود لقد أحرق واجب ليو المدرسي!
كان ليو يجلس بجوار الموقد، منهمكًا في واجبه الذي استغرق ساعة من العمل، وإذا به يكتشف الكارثة:
“كير!”
وقف ليو غاضبًا، أمسك الورقة المحترقة، ووضع يديه على خصره صارخًا بصرامة:
“لا يمكنك فعل ذلك!”
كتمتُ ضحكتي بصعوبة.
“قلت لا يمكنك فعل ذلك، كير!”
وبينما يحاول كير تهدئة الموقف، خرج من الموقد مطلقًا صوتًا خافتًا أشبه بالأنين، وعيونه السوداء البريئة تتوسل الصفح.
لكن خروج كير أدى إلى تناثر قطع خشب مشتعلة خارج الموقد، تدخل السير بيناديل، وبضربة من قدمه المحملة بالطاقة السحرية، أطفأ الشرارات قبل أن تشعل سجادة أخرى.
لم أستطع إلا أن أفكر بأن السير بيناديل هو الوحيد الذي يستخدم مهاراته القتالية بهذا الشكل البسيط.
عاد ليو إلى معاتبة كير، محاولًا أن يبدو صارمًا، بينما الكلب يحدق به بعيون ملأى بالبراءة.
“انظر ماذا فعلت! لقد دمرت واجبي تمامًا!”
أطلق كير أنينًا آخر، وكأنه يستعطف ليو.
“مهما حاولت، لن أسامحك هذه المرة!”
ومع ذلك، بدأت نبرة ليو تتردد:
“أعني… مهما حاولت…”
وبعد قليل من الصراع الداخلي، استسلم قائلًا:
“حسنًا، سأسامحك هذه المرة فقط!”
انتهت المعركة لصالح كير، كالعادة.
جلس ليو متثاقلًا، يحدق في واجبه المدمر، وكأنه ينظر إلى شاشة كمبيوتر انطفأت فجأة قبل أن يحفظ عمله.
ذلك الإحساس بالفراغ، لا يدركه حق الإدراك إلا من مرّ به.
حاول ليو أن يهدئ من روعه بعدما وعدته بليندا بأنها ستشرح كل ما جرى اليوم لـ تشاشر، لكن ما شعر به الطفل من فراغ عميق بدا وكأنه لا علاج له.
“سيدة بليندا… أعتقد أنني… سأصعد الآن إلى غرفتي.”
“حسنًا، فيفيان، اصطحبي كستناء الفئران إلى غرفته.”
“آه… نعم، بالطبع… تعال، يا نجمتي الصغيرة، لنذهب.”
كانت فيفيان، التي بدا عليها التعب وكأنها دجاجة مريضة تغفو بين الحين والآخر، تتثاءب وهي ترافق ليو إلى الخارج، ومع اختفاء صوت خطواتهما تمامًا خلف الباب، بدأت الأحداث تأخذ منحى جديدًا.
اقتربتُ من تيري، التي كانت جالسة أمام خزانة الزينة تلوّح بلطف بقطعة من اللحم المجفف لجذب اهتمام بيرو، ف نظرت إليها وسألتها:
“تيري، إلى أي درجة تثقي في الفرضية التي طرحتها هنا؟”
“سبعون بالمئة تقريبًا.”
وبينما كانت تتحدث، سُمع صوت طقطقة الشرر المتطاير من الموقد، مما ألقى بظلال متراقصة على وجه تيري، تلك الظلال كانت تشي بقلق خفي.
شرعتُ في تصفح الوثائق التي بين يدي، وتوقفت عند الجزء الذي يسجل تفاصيل وفاة عمي، كانت التحقيقات حول شوفيل بلانش ، محاولة كشف السبب الحقيقي وراء وفاة عمي.
بدأت تدخلات شوفيل في شؤون العائلة، وفرض سلطته بشكل تدريجي، بعد الحادث الذي تعرّض له عمي، حيث سقط من على حصانه، ذلك الحادث جعله ينازع بين الحياة والموت، مما دفع أفراد العائلة إلى استدعاء كاهن رفيع المستوى مقابل مبلغ ضخم، لإنقاذ حياته.
وبفضل ذلك الكاهن، الذي وصل في الوقت المناسب، نجا عمي من الموت، لكنه لم يخرج سالمًا، بدأت حالته العقلية في التدهور شيئًا فشيئًا، عانى من ضعف في الذاكرة، صداع دائم، اضطرابات في الحركة، وتشوش عقلي يصاحبه فقدان تدريجي للسمع ظن الجميع أن ما أصابه كان نتيجة الخرف أو الهذيان الناتج عن الشيخوخة.
كانت القدرات المقدسة للكاهن تبدو وكأنها معجزة، لكنها لم تكن كذلك تمامًا، فبينما يمكنها شفاء الجروح والأمراض المكتسبة بسهولة، إلا أنها لا تستطيع معالجة الأمراض الناجمة عن الشيخوخة أو العيوب الخلقية أو أمراض النفس والعقل، كان مرض عمي ينتمي إلى هذه الفئة المستعصية.
عاش عمي بعد ذلك في حالة من الانهيار العقلي لمدة عامين قبل أن يوافيه الأجل.
عندما انتهيت من قراءة السطر الأخير في الوثيقة، والذي يسجل تاريخ وفاة عمي، وجدت نفسي ألمس شفتي، متسائلة: ما الذي يجب أن أشعر به الآن؟ أو بالأحرى، ما الذي أبدو عليه في هذه اللحظة؟
عندها قطعت تيري الصمت السائد وقالت: “رغم أن أعراض العم قد تبدو كتلك التي وصفها الطبيب المختص بأنها هذيان الشيخوخة، إلا أنني لا أظن الأمر كذلك.”
أصابع تيري امتدت نحو فقرة تصف أعراضًا تدل على التسمم.
“هذه الأعراض تتطابق تمامًا مع أعراض التسمم بالرصاص.”
“… إذًا، أنتِ تقصدين أن الأمر قد يكون جريمة تسميم.”
“التسمم بالرصاص لا يترك أي دليل مادي على الجسد، الطريقة الوحيدة لتأكيد الإصابة هي أن يكون الضحية على قيد الحياة، ويتناول ترياقًا يخفف من الأعراض، لذا، لا أستطيع القول بأن هناك دليلًا قاطعًا.”
“ومع ذلك، لديك سبب للاعتقاد بأنه تسميم أليس كذلك؟.”
توقفت تيري قليلًا، وكأنها تعيد ترتيب أفكارها، ثم تابعت بصوت خافت:
“تتذكرون بالتأكيد عندما تم إدخال بيضة الغراب الظلّ إلى قصر بلانش، لقد انشغلنا جميعًا بحقيقة أن المجرم هو شوفيل بلانش، لكننا غفلنا عن أمر بديهي.”
“أمر بديهي؟”
“تفريخ بيضة كائن سحري ليس أمرًا سهلًا حتى بالنسبة لقتلة محترفين، لكن شوفيل بلانش لم يسلم البيضة إلى نقابة القتلة لاستهداف السيدة، بل احتفظ بها داخل القصر، وهذا يعني أن هناك شخصًا بجانبه يمتلك المعرفة اللازمة لتفريخها، والقدرة على تنفيذ ذلك.”
تذكرت حينها أن تيري كانت قد أبدت اهتمامها بالتحقيق حول مساعد شوفيل.
كما استرجعت اللحظة التي تركت فيها تيري القصر، ليقتحم متسلل القصر في اليوم نفسه.
إن لم تكن تلك الحادثة مجرد صدفة…
“سيدتي، هل تتذكرين منذ متى بدأ مساعد شوفيل بالعمل معه؟”
حاولت جاهدة استرجاع ذكريات بليندا، لكنني بالكاد تذكرت شيئًا، لا اسم، ولا حتى ملامح واضحة، كان وجوده دائمًا خافتًا، كالظل الذي يقف بعيدًا دون لفت الانتباه، مثلما تفعل تيري عندما تختبئ في الظلال.
“… إنه من الأحياء الفقيرة، كان عضوًا في جماعة الكلاب الضالة ذات مرة.”
“هاه، أحد الكلاب الضالة يعتني بشوفيل؟”
“إحداث تسمم بالرصاص بشكل طبيعي يتطلب معرفة دقيقة بالجرعات، وهذه المهارة يمتلكها أفراد جماعة الكلاب الضالة.”
ضحكت بتهكم دون وعي، لكن الضحكة سرعان ما تلاشت عندما وصلت إلى حقيقة مزعجة.
التسمم بالرصاص يتطلب وقتًا طويلًا وتخطيطًا دقيقًا لتراكم السم تدريجيًا في الجسم.
في داخل قصر بلانش، تم استبدال جميع الخدم مرة واحدة، لذا لم يكن هناك أي جاسوس خارجي يمكن الاشتباه به.
وإذا كانت افتراضات تيري صحيحة، وكان عمي قد تعرض بالفعل للتسميم، فلا يمكن أن يكون الجاني سوى…
“ذلك الوغد… لا أحد غيره.”
المساعد المخلص تمامًا لشوفيل.
لم يقل بنياديل وتيري الذين كانا يراقبان الموقف برمته بجانبي اي شيء.
وضعت يدي على جبيني وغرقت في التفكير ، منذ البداية شعرت بعدم الارتياح كما لو كنت قد غفلت عن شيء ما.
بينما كنت غارقة في التفكير كنت اعبث بالقلادة دون ان ادرك ذلك.
ثم فتحت فمي بهدوء.
“غدا سأذهب الى المبنى الرئيسي.”
“نعم؟ ماذا!؟”
“يجب ان اتحقق من امكانية ال30% المتبقية”
“سيدتي انت لست نائمة اليس كذلك؟”
“هل ابدو لك بهذا الغباء!”
توجد احتمالية من ان شوفيل قد سمم عمي ، لذا لا يمكنني البقاء ساكنة.
“سيدتي أمن الضروري أن يكون غدا؟ اذا اعطيتني يوما فقط سأستعد…..”
لسبب ما، تلعثمت تيري في كلماتها وخدشت خدها.
“تيري، أنا لن آخذك معي، انا اقول هذا مسبقا، لن اخذ اي منكما معي.”.
“ماذا…… “
“أكان هناك وقت كنت فيه آكل ولا أعمل؟”
لم يتمكن السير بيناديل وتيري من تخمين شريكي.
كما لو كان يرد على كلامي، نبح كير بصوت عالٍ.
التعليقات لهذا الفصل " 102"