الحلقة مئة و واحد.
“معلمتي، أمسكِ بيدي.”
كانت تلك مجرد حركة نبيلة من أجل مساعدة بليندا على النزول من العربة، لا أكثر.
لكن سيزار لم يستطع فهم ذلك الشعور الطفيف بالضيق الذي تملّكه، على الرغم من أن ما فعله تشاشر كان جزءًا طبيعيًا من واجبات المرافقة.
أخذ يفتح ويغلق يدهُ اليمنى، التي اعتادت بليندا الأعتماد عليها دومًا، وكأنه يحاول التخلص من تلك التساؤلات التي تساوره.
ربما كان السبب هو إدراكه الداخلي بأنه يقوم بشيء غير نزيه.
الإحساس بإرتكاب عمل غير شريف يزيد من قوة اللعنة التي تطارده.
لكن مع علمه بكل هذا، لم يتمكن سيزار من التوقف عن تعقّب بليندا خِفية، حتى لو كان ذلك يعني الأبتعاد عن رفاقه لبضع خطوات أو التصرف على نحو غريب.
“يبدو أن هذا الصغير يؤدي ما طُلِب منه على أكمل وجه.”
أومأت تيري برأسها بارتياح.
كان ليو يتبع نصيحة تيري بدقة، حيث طلبت منه السير إلى جانبهم بحرص، مع بليندا على اليمين وتشاشر على اليسار، كي لا يضيع من أنظارهم فجأة.
لكنهم توقفوا فجأة أمام كشك يعرض الإكسسوارات.
“هل أنا أتوهم، أم أن هذا الساحر اللعين يختار إكسسوارات لنفسه بدلًا من محاولة معرفة ما تريده سيدتنا؟”
“ربما… ربما تكون الآنسة بليندا غير مهتمة بالمجوهرات…”
“أجل، هذا جميل، سأحتفظ به إلى الأبد.”
“… يبدو أنني كنت مخطئة.”
ارتدت بليندا العقد الذي اشترته وابتسمت كما لو كانت تملك أثمن شيء في العالم، رأت فيفيان هذا المشهد، وسرعان ما أنكرت فكرتها السابقة دون أن تخفي ارتباكها.
بينما تبادل فيفيان وتيري الأحاديث حول ما تريده بليندا، وما إذا كان تشاشر يخفي شيئًا أو يحاول التلاعب بالأمور، بقي سيزار هادئًا، بلا أي ردة فعل.
كان يؤدي مهمته بصمت، يتفقد محيط بليندا لحمايتها، قبل أن يبدأ فجأة بالسير بخطوات أسرع، متجاوزًا تيري.
“أوه، إلى أين أنت ذاهب، أيها الفارس؟”
“عليّ تصحيح بعض المعلومات الخاطئة من أجل شرف الآنسة بلانش.”
“معلومات خاطئة؟”
رفعت تيري رأسها محاولةً استيعاب الموقف الذي حدث للتو.
فقد كان تشاشر قد قدم نفسه بثقة إلى بائع حلوى القطن قائلًا إنه زوج بليندا الثاني.
“حسنًا، صحيح أن هذا كان خطأً.”
لكن لماذا يكلف نفسه عناء تصحيح مثل هذا الأمر؟
“ذاك البائع لا يعرف حتى أن السيدة من عائلة بلانش، فلماذا كل هذا العناء؟”
“…حقًا، هذا صحيح…”
حدّقت تيري بعينيها الضيقتين نحو سيزار، الذي بدأ وكأنه يحاول الانسحاب بهدوء بعد أن أدلت بتعليقها، كان الأمر مثيرًا للريبة.
تذكرت فجأة كيف أنه خلال العشاء السابق، أظهر رد فعل غير متوقع عند سماعه كلمة موعد رغم أنه كان يرتدي قناعًا يخفي تعابير وجهه، إلا أن سلوكه وطريقته كانا غامضين لدرجة يصعب معها فهم نواياه الحقيقية.
تيري، التي كانت تراقبه بدقة، ألقت سؤالها فجأة، كما لو كانت تلقي بحجر في بحيرة هادئة:
“سيدي الفارس، هل من الممكن أنك تشعر بالغيرة الآن؟”
“غيرة…؟”
كانت استجابته فورية، بدا وكأنه سمع كلمة بلغة لا يعرفها، فأعادها بتردد.
تساءل سيزار في نفسه: هل هناك كلمة أقل ملاءمة لحياته من هذه؟
لم يكن يومًا يطمع في ما يملكه الآخرون، ولم يشعر قط بالحسد تجاه ما لا يستطيع الحصول عليه، فكيف له أن يشعر بالغيرة الآن؟
بينما كانت تعابير سيزار أكثر تصلبًا من المعتاد، تابعت تيري، مستفسرة بحذر كما لو كانت تحاول إيقاظ وحش نائم بطرف عصا:
“حسب علمي، وربما أكون مخطئة، ألم تكن مخطوبة لسيد عائلة بالواستين؟”
“هذا صحيح.”
“وسيد بيناديل هو مساعد دوق بالواستين، أليس كذلك؟”
“…نعم.”
في تلك اللحظة، تصاعدت في عقل تيري مشاهد درامية كما لو كانت تتابع حبكة رواية معقدة.
“إذًا، هل هذا نوع من القصص حيث يقع الفارس المخلص في حب سيدة سيده؟”
قالت بنبرة شبه مازحة:
“يا للروعة، هذه القصة تصلح لتكون عملاً أدبيًا ناجحًا.”
ولكنها أضافت بهدوء وهي تربت على كتفه:
“لا تقلق، فقط حاول أن تكون قويًا.”
بصراحة، وجدت تيري نفسها تفضّل هذا الفارس الجالس أمامها على الدوق الذي رأته سابقًا وتراه مناسبا أكثر لبليندا.
بدا هذا الرجل أكثر حيوية وأقل تكلفًا، على عكس الدوق الذي كان يبدو وكأنه دائم التأخر في ردود أفعاله مع انهُ سريع البديهة.
فكرت للحظة: “من يعلم؟ ربما الأمور لن تكون محسومة حتى يتم الزواج.”
كانت تعرف أن مثل هذه الزيجات النبيلة غالبًا ما تُعقد لتحقيق مصالح معينة، وليس بدافع الحب.
لكنها سرعان ما هزت رأسها، مستبعدة فكرة التدخل في علاقات الآخرين، في النهاية، العبث بشؤون الحب لا يجلب سوى المتاعب.
ومع ذلك، شعرت بأنها قادرة على تقديم نصيحة صادقة، فقالت بابتسامة ساخرة:
“أعلم أن هذا قد يبدو غريبًا، لكنك تعتمد كثيرًا على عبارة الجو بارد جدًا ، ماذا ستقول إذا حل الصيف؟”
عبس سيزار بخفة، وكأنه يحاول فهم ما تقصده، للحظة، بدا وكأن الحديث معها يشبه محاولة فك شفرة غامضة.
“لذا، اليوم عليك أن تراقب تشاشر جيدًا وتتعلم منه.”
“ذلك الشخص، إنه حقًا… وحش غامض للغاية.”
رغم أنني لم أستطع فهم كلماتها تمامًا، إلا أنه لم يكن لدي خيار سوى مراقبة كيفية تعامل تشاشر مع بليندا، لضمان سلامتها.
طريقته الطبيعية في الوقوف إلى جانبها لا خلفها.
أدبه الرفيع حين يضع معطفه برفق على المقعد قبل أن تجلس.
جرأتهُ الواضحة حين يُمسك يدها بلا تردد ويقربها من قلبه.
كل هذه التفاصيل لم تَفُت على سيزار، الذي شعر بضغط خانق في صدره، وكأن شيئًا يثقل عليه، مما جعله يطلق أنفاسًا عميقة بين حينً وآخر.
في كل مرة كان يفعل ذلك، كانت تيري ترفع أذنيها متيقظة وتراقب ردود أفعاله.
“لماذا تنظرين إليّ بتلك الطريقة؟”
“لأن الأمر ممتع بالنسبة لي، وبالمناسبة، ما تشعر به الآن ليس شعورًا بالذنب.”
“ولا هو اضطراب في ضربات القلب أيضًا.”
“…… سأضع هذا في الحسبان.”
لكن، هل يمكن لشيء كهذا أن يكون مفيدًا له حتى لو لم يفهمه جيدًا؟
سرعان ما حاولت تيري العودة إلى ملاحقة خطوات بليندا، لكنها أدركت فجأة أنها اختفت عن ناظريها.
“لقد فقدنا أثرها.”
بينما كان سيزار مشغولًا بتفكيره، انتهى الأمر بفقدان بليندا من محيطه.
أطلقت تيري تنهيدة حيرة، ثم ألقت نظرة فاحصة وسط الحشود التي تملأ الشارع، واثقة في قدرتها على تعقبها مجددًا.
“آه، هذه مشكلة.”
قال سيزار بتنهيدة جانبية، لكن تيري ضربت صدره بثقة قائلة:
“لا تقلق، أيها الفارس! سنعثر عليها قريبًا ونعود لمتابعتها!”
“ومن الذي ستتبعينه بالضبط؟”
“بالطبع… آه؟!”
التفت تيري بسرعة نحو الصوت الذي جاء من خلفها، وفي تلك اللحظة، بدأت الهالة الغامضة التي كان يحدق بها سيزار تتبدد كأمواج من السراب، لتكشف عن بليندا وهي تقف هناك وذراعاها متشابكتان.
إلى جانبها كان تشاشر، الذي التمعت عيناه بوميض ذهبي خافت جعل تيري تتصبب عرقًا.
“يا لها من صدفة غريبة، أليس كذلك؟” قالت تيري مبتسمًة بتوتر.
“حقًا؟ أنا أيضًا أراها صدفة عجيبة، فمنذ مغادرتنا القصر وحتى الآن، كانت خطواتنا تتطابق تمامًا.”
“لا أظن ذلك… لم يكن الأمر متطابقًا طوال الوقت، على ما أعتقد.”
ضحك تشاشر ضحكة خفيفة وكأنه يسخر، ثم مد يده برفق نحو ظهر بليندا كأنه ينزع شيئًا عنها، وعندما رفع يده، كانت هناك فراشة رقيقة ترفرف بين أصابعه.
“ماذا… ماذا؟!”
ابتسم تشاشر بثقة وقال:
“كما توقعت تمامًا، أرسلت فيفيان فراشة لتتبعك، والآن، معلمة، ألم يكن كلامي صحيحًا؟”
“….”
تيري وجدت نفسها لأول مرة منذ وقت طويل عاجزة عن الكلام.
وفي ذلك اليوم، اكتسب تشاشر كراهية قاتلة.
***
تحوّل موعد تشاشر وبليندا بشكل مفاجئ إلى وليمة كبيرة بسبب اقتحام غير متوقع من ضيوف غير مدعوين.
رغم ذلك، تمكنت بليندا بصعوبة من حجز مقعد لها في المطعم، وأظهرت استياءها بطريقة واضحة.
فقامت بقطع نصف الحلوى التي قُدمت للخونة ووضعتها على طبق ليو، قائلة:
“هذه جزاءك لجرأتك على مطاردتي دون لعدم ثقتك بي.”
رد ليو بغضب:
“هذا غير عادل يا سيدتي!”
في الحقيقة، كان حديث بليندا مبررًا.
فعدم ثقتهم بها جعلهم يتبعونها سرًا، وهو أمر كافٍ لأن تشعر بالإهانة.
لكن ما أثار استياء تيري لم يكن فقدانها جزءًا من الحلوى، بل التفاوت في العقاب.
فقد انتُزع نصف حصتها وحصة فيفيان، بينما لم يُنتزع من حصة سيزار سوى الثلث.
صرخت تيري محتجة:
“لقد ارتكبنا جميعًا الخطأ نفسه! لماذا حصل الفارس على حلوى أقل انتزاعًا؟”
ربما لأن السير بيناديل لديه ولع خاص بالحلويات، ولذا قد يشعر بخيبة أمل أكبر إن أُخذت منه نفس الكمية التي أُخذت من الآخرين.
لكن هذا المنطق الغريب لبليندا لم يكن مقبولًا بالنسبة لتيري، التي قالت بتذمر:
“أنتِ دائمًا تعاملين السير معاملة خاصة! يظهر ذلك حتى في ملامح وجهك!”
لم يفُت سيزار ما لمحه في نظرات تيري التي اتجهت للحظة إليه وكأنها تقيس رد فعله.
أما بليندا، فقد أُربكت تمامًا بكلامها.
“أنا أعامل السير معاملة خاصة؟” فكرت في نفسها.
ربما لأنهما قضيا وقت أطول معًا، فكان من الطبيعي أن يظهر ذلك بشكل أو بآخر.
لكن إذا كانت ملامحها قد فضحت ذلك، فربما…
قالت بليندا بهدوء، محاولة تخفيف الموقف:
“السير بيناديل يشبه ميشا، ربما لهذا أشعر نحوه ببعض الألفة.”
لكن كلماتها تركت تأثيرًا عميقًا.
في تلك اللحظة، شعر سيزار بثقل غريب يضغط على صدره.
همس أحدهم قائلًا:
“من هو ميشا؟ يبدو أنه كان شخصًا قريبًا جدًا منها.”
وأضاف آخر:
“ربما كان حب بليندا الأول؟”
وصدمهم همس ثالث:
“حب سيدتنا الأول؟”
هذه الهمسات، التي اعتقدوا أن بليندا لن تسمعها، وصلت لآذان سيزار، فأصبحت الحلوى أمامه بلا طعم.
تصاعدت دقات قلبه بسرعة، وشعر بتوتر في فكه.
هذا لم يكن مجرد فضول أو حتى شعور بالذنب.
لم يكن قلقًا أو ارتباكًا.
ما كان يغمر قلبه الآن كان واضحًا: الغيرة.
كانت غيرةً لا ينبغي لسيزار أن يسمح لنفسه أبدًا بالشعور بها.
التعليقات لهذا الفصل " 101"