بدت أخبار انتصار فرسان فلوجل بقيادة يورغن طبيعيّةَ تمامًا في هذه المنطقة الشمالية.
استقبل خدمُ قلعة ريفاديل، بما في ذلك سكّان الإقليم، الفُرسان العائدين بألفة.
أُقيمَ احتفالٌ بسيط بالنصر، لكنّ فانيسا لم تحضره. كان واضحًا أنّ وجودها، و هي التّي بدت كحجر يتدحرج من مكانٍ بعيد، لن يجلب سوى الكآبة.
كانَ خدم قلعة ريفاديل فِي حيرة من ظهور فانيسا المفاجئ، و كَانت فانيسا تتفهّم موقفهم. كلا الطرفين كان يشعر بعدم الارتياح تجاه الآخر.
ملكة دولة ساقطة، أُسِرت فجأة كأسيرة لدى الدوق، و في النهاية أصبحت خطيبته.
أميرة مشؤومة يُشاع أنها تجلب الحظّ السيء.
شخص يفضّل الناس الابتعاد عنه، و مع ذلك لا يمكنهم معاملته بوقاحة.
تلك كانت مكانة فانيسا تمامًا في هذه القلعة.
✦ ✦ ✦
كان الطّريق من الشّمال إلى العاصمة طريقًا سريعًا و سلسًا، يخلو من العقبات تقريبًا.
الطّقس كان صافياً، و حتّى الرّياح القارصة التي اعتادت أن تقطع الجلد لم تهب في ذلك اليوم. تقدّمت العربة الكبيرة ذات العجلات الأربع ببطء على الطريق الترابي المستوي.
لم يكن هناك شك في أنه كان سفرًا مريحًا.
لكن بالنّسبة لفانيسا، فقد كان أشبه بالجلوس على الإبر. لأنّها اضطرت إلى ركوب العربة مع يورغن. التّواجد في نفس المكان معه لفترة طويلة لم يكن جيدًا لصحتها النفسية.
كانت المسافة من دوقيّة دريك إلى العاصمة تستغرق حوالي أربعة أيام. خلال ذلك الوقت، كان على فانيسا أن تتحمّل وجود يورغن، رغم خوفها و عدم ارتياحها.
لا بدّ ألا يُكتشف ذلك الخطاب المخفي سرًا في صدرها.
و لحسن الحظ، لم يقم يورغن بأي تواصل غير ضروريّ ، لذا بدا من غير المحتمل أن يُكتشف الخطاب. و كالعادة، كان يراقبها بهدوء مع الحفاظ على مسافة غريبة منها.
شعرت فانيسا و كأنّها تختنق تحت نظرته، لكنها حاولت ألّا تُظهر ذلك. خطتها في التظاهر بالمودة نحوه لتجعل حذره يضعف ما زالت قائمة.
لذا، عندما تلتقي أعينهما، كانت تبتسم بلطف أو تتظاهر بأنّها لا تشكّل خطرًا بينما تراقب ردات فعله.
كان يورغن يسخر من هذا التصرف، و كأنّه يرى نواياها بوضوح.
أدارت رأسها مبتعدة عن نظرته الحادة، و نظرت فانيسا من النّافذة. كانَ مشهد السهول الشّاسعة يمرّ بسرعة. حقول القصب الأحمر المصبوغة بضوء الغروب… تبدو كبحرٍ من الدم.
و فيما كانت مستغرقة في تلك الألوان، تذكّرت فجأة قصة سمعتها من غارسيا.
[آه، و هذه إضافة بسيطة فقط… الدّوق، عندما كان صغيرًا، كانت عيناه حمراوين. لكن لا تذكري هذا أمامه. لا يحب سماع ذلك.]
عينان حمراوان عندما كان صغيرًا…
و لون حادّ مثل الدم. لم يكن شيئًا مألوفًا. بدا و كأنها قرأت ذات مرة عن أسلاف عائلة دريك الذين كانت لهم أعين بلون الدم، لكنها لم تستطع تذكّر التفاصيل.
‘عند التفكير في الأمر…’
تذكّرت فانيسا فجأة حلمًا رأتُه قبل بضعة أيام.
حلم رأته و هي فاقدة للوعي بعد أن اختطفها إيسكال.
فتى بعينين حمراوين. و وعدٌ بعدم التخلي أبدًا.
ما كان ذلك الحلم؟!
‘لا أملك ذكرى كهذه…’
“في ماذا تفكرين بكلّ هذا التّركيز؟”
“……!”
ارتعبت فانيسا من صوت يورغن المفاجئ، و ارتعشت بشدة. تخلصت بسرعة من أفكارها و قالت متلعثمة بارتباك:
“من غير المعتاد أن تتحدث، يا دوق.”
“……”
لم يكن يتحدث معها بكلام غير ضروري. غالبًا ما كان يصدر الأوامر أو التوبيخ، و حتّى الآن لم تتعدَ أحاديثهما ذلك.
علاقة من طرف واحد، حيث يضغط أحد الطرفين و يتراجع الآخر. هذا كل ما في الأمر.
“من المزعج أن تكوني غارقةً في أفكار لا لزوم لها.”
قال يورغن بنبرة باردة، و كأنّه لا يحمل أي نية أخرى.
كانت فانيسا، التي تخفي شيئًا، على وشك أن ترتجف مجددًا لكنها بالكاد كتمت رد فعل جسدها. ثم، محاولةً أن تحافظ على هدوئها، تحدّثت بحذر.
“في الواقع، سمعتُ القليل عن ماضيكَ من السّيظ غارسيا…”
عندها، أظهر يورغن رد فعل غير معتاد، فقد ارتعش حاجبه. رأت فانيسا باندهاش الرّجل الذّي كان يبدو و كأنه لا ينزف حتى لو طُعن، يُظهر انفعالًا ولو بسيطًا.
رفع زاوية فمه قليلاً، ثم جاء صوته ساخرًا بوضوح.
“…وماذا إذًا؟ هل شعرتِ بالشفقة؟ أم بدأتِ تحتقرِينَني؟”
ارتبكت فانيسا و رفّت بعينيها بدهشة. تابع يورغن كلماته بشدة شديدة.
“لا بدَّ أنكِ سمعتِ عن الدوقة السابقة وأخي غير الشقيق أيضًا. الوغد القاسي الذي لا يتردد في قتل أقاربه، المجنون المهووس بالانتقام والدم — لا بد أنكِ تظنين أنني كذلك، أليس كذلك؟”
لم تستطع فانيسا أن تفهم سبب عدوانيّة يورغن المفاجئة، و اكتفت بالتحديق به بذهول.
كل ما قالته هو أنّها سمعت عن ماضيهِ من غارسيا… لماذا قفزَ الحديث إلى هذا الحد؟ حقًا، إنه رجل غريب.
“…أظن أنكَ تسيء الفهم، يا دوق. لم أفكر بكَ بتلك الطريقة مطلقًا—”
حينها حدث ذلك.
صرير!
توقفت العربة فجأة. كادت فانيسا أن تسقط للأمام و يرتطم وجهها بالأرض، لكن يورغن أمسكَ بها بسرعة.
رفعت رأسها من بين ذراعيه و نظرت إليه بدهشة. لكن يورغن لم يكن ينظر إليها، بل كانَ ينظر من النّافذة.
اتّبعت فانيسا نظراته، و التفتت، و تمتمت بدهشة.
“ماذا…؟ ماذا يحدث فجأة…”
“ابقي هنا بهدوء. لا تخرجي من العربة تحت أي ظرف.”
بعد أن أجلسها، غطّى يورغن فانيسا من رأسها حتى قدميها ببطانية و اندفعَ للخارج.
شعرتْ فانيسا بالحيرة و تساءلت في نفسها عمّا يحدث بحق السماء، و زحفت بحذر إلى النّافذة لتنظر إلى الخارج.
كان يمكن سماع صياح الفرسان عبر جدران و نوافذ العربة، و لسبب ما، شعرت باهتزاز شبيه برعدة الأرض.
“ما هذا؟ ما الذي…”
و قبل أن تفتح فانيسا النافذة قليلًا…
ظهرت فجأة عين ضخمة ذات بؤبؤ رأسي أمام مجال رؤيتها.
“آه!”
تراجعت فانيسا عن النّافذة مذعورة . كان رأسها يدور، و شعرت بحالة من الذعر.
ما هذا؟ هل يمكن أن يكون—
“لا تَدَعوا الوحوش الشيطانية تقترب من العربة!”
في تلك اللحظة، اخترق صوت يورغن أوذنيها، فعادت فانيسا إلى وعيها بسرعة.
وحوش شيطانية!
إذًا، كانت قافلتهم تتعرّض الآن لهجوم من الوحوش الشيطانية.
“كيف يمكن أن تظهر وحوش شيطانية على الطّريق الرئيسي؟”
الوحوش الشيطانية، و هي حيوانات تحوّلت بفعل تأثير المانا الطبيعية، عادةً ما تعيش في أعماق الغابات أو الجبال أو المستنقعات.
لم يسبق لها أن سمعت عن ظهور وحوش شيطانية على طريق رئيسي تحيط به السهول الشاسعة. ما الذي يحدث في هذا الوضع الغريب؟
شدّت فانيسا البطانية بكلتا يديها، تستمع إلى خفقان قلبها المرتعب.
اختفى الوحش الشيطاني الذي كان يلتصق بالنافذة من مجال رؤيتها، و قد تناثر الدم في المكان، على الأرجح بعد أن قتله أحد الفرسان.
كانت فانيسا تحدّق في النافذة التي لطخها الدم، و هي تستمعُ إلى الضجيج الذي يخترق أذنيها.
صوت اصطدام الشفرات بشيء صلب، صرخات الفرسان القلقة، عواء و زئير غَرِيبان لم تسمعهما من قبل…
كان الأمر غير واقعيّ. وضع غير عادي بكلِّ معنى الكلمة. و بالنّسبَة لفانيسا، التّي كانت ترى الوحوش الشيطانية لأوّل مرة، كانَ الأمر مرعبًا بلا شك.
ظنّت أنّه من الأفضل لها أن تغلق عينيها و تسدَّ أذنيها، فتكورت على نفسها، و هي تغطّي أذنيها بيديها و أغمضت عينيها بقوة. فقط تتمنى أن ينتهي هذا الوضع قريبًا.
لكن حظّها السّيء الفطريّ لم يتركها و شأنها بهذه السهولة. اهتزّت العربة فجأة، و بدا أن السقف على وشكِ الانهيار.
“كياا!”
صرخت فانيسا بصوت عالٍ و تدحرجت بجسدها لتتفادى السقف المنهار. كانَ هناكَ حجرٌ ضخم يسحق لوحًا خشبيًا سقط من السماء.
أدرَكت أنّها كانت ستُسحق حتَّى الموت هناك، فشَحبت ملامحها تمامًا.
“كما توقعت. لا شيء يسير بسلاسة. هذا الحظّ السّيء الملعون…”
زحفت فانيسا نحو باب العربة، و الدُّموع تنهمر من عينيها. رَغم أنهَا اعتادت على هذا النحس غير الطبيعي، فإن اقتراب الموت جعلها تشعر بالغضب.
مسحتْ دموعها بِيَدين مرتعشتين، و أخذت نفسًا عميقًا، ثمّ أمسكت بمقبض الباب.
كان النصف المتبقي من السقف على وشك الانهيار أيضًا. لتجنب السحق تحت الأنقاض، لم يكن أمامها خيار سوى الخروج مِن هنا.
تشقق –
و بينما كانت الألواح الخَشبية السّميكة تتشقق و السّقف ينهار، فتحت فانيسا الباب بسرعة و قفزت إلى الخارج.
و مَا إن فعلت ذلك حتى انهار السّقف بصوت مدوٍ، و انهارت العربة .
جلست فانيسا على الأرض و ركبتاها لا تقويان على حملها، تحدّق في حطام العربة المدمرة. لو أنّها بقيت هناك، لما بقي منها حتّى العظام.
“لحسن الحظّ أنني خرجت… لقد كنتُ على وشك الموت فعلًا.”
أطلقتْ تنهدًا خفيفًا، ثم نظرت حولها بتوتّر واضح. كانت الوحوش الشيطانية و الفرسان منغمسين في معركة فوضوية.
و في وسط ذلك الصخب، كان يورغن وحده يُظهر قوة غير بشرية.
حدّقت فانيسا مذهولة في وسْم النّعمة الذي ظهر في عينيه المتألقتين. نمط هندسي يتكون من عدة خطوط متموجة مثل الأمواج. إذًا، هذا هو وسْم ڤيوس، حاكم الحكمة والجنون…
“سموكِ!”
صوت شخص ما، مملوء بالدهشة، اخترق الأجواء. فانيسا، التي تفاجأت بصوت ارتطام قوي قريب منها، التفتت في ذلك الاتجاه.
وحش شيطاني ضخم – يبدو كخليط بين نسر و ثعبان – هبط على حطام العربة المحطمة، و كَان يحدّق في فانيسا بعينيه الصفراوين اللامعتين.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"