“هل سبق لكَ أن رأيت وغدًا بهذا القدر من الوقاحة؟”
خرجت الكلمات القاسية من فمه دون وعي. سحق ديكلان الرسالة في يده و ابتسم بابتسامة شرسة.
لم يكن مجرد خبر اعتقال رسوله المباشر بتهمة إهانة الإمبراطور أمرًا سخيفًا فحسب، بل إن رد يورغن دريك كان يفوق الخيال.
مهما كان حاكمًا لإمبراطورية الشمال، كيف يجرؤ على إرسال مثل هذه الرسالة إلى ملك دولة أخرى؟
“لن يعيش لفترة طويلة. يا له من وغد متغطرس.”
رمى ديكلان الرسالة في المدفأة و تنهّد بعمق، محاولًا تهدئة ما بداخله من غليان.
لم يذكر رسول عائلة دريك تفاصيل ما حدث بالضبط مع الرسول الذي أرسله اليهم.
كانت مجرد إشعار من طرف واحد بأنه تمّ اعتقاله في الحال لأنه تجرأ على إهانة جلالة الإمبراطور، وأن جلالته سيقرر العقوبة بنفسه.
صرّ ديكلان على أسنانه من وقاحة و غطرسة دوق دريك. و ارتفعت في قلبه رغبة مشتعلة في الانتقام، متعهدًا برد هذا الإذلال يومًا ما.
لكن الأمر العاجل في الوقت الراهن كان إرسال رسالة إلى الإمبراطور لشرح الموقف و طلب المغفرة و الرحمة، بالإضافة إلى الاستعداد للرحلة إلى العاصمة.
إذا كان يورغن دريك ينوي مقابلة الإمبراطور شخصيًا للإبلاغ عن جريمة الرسول، فإن ديكلان أيضًا كان عليه أن يُظهر وجهه للإمبراطور ويصحح هذا الأمر.
” هذا ليس وقت البقاء بعيدًا عن العرش لفترة طويلة… كم هو مزعج.”
مرر ديكلان يده بخشونة عبر شعره الأشقر و أمسك بالكأس على الطاولة. و عندما شرب النبيذ العطري دفعة واحدة، بدا و كأنه هدأ قليلاً من داخله المشتعل.
كان الوضع الحالي في رونغرين معقدًا. رغم أنه اعتلى العرش بعد وفاة والده، إلا أن ديكلان لم يتمكّن بعد من إحكام السيطرة بشكل صحيح على النبلاء.
وكان سبب ذلك هو الوجود القوي لفصيل دوق إيفانوود، الذي كان ينظر إلى ديكلان بعين غير محبذة. كانت عائلة إيفانوود مرتبطة بالعائلة المالكة عن طريق الزواج و لديها أعلى حقوق الخلافة بعد العائلة المالكة.
و لكبح جماح عائلة إيفانوود، التي كانت كالذئاب التي قد تكشر عن أنيابها في أي لحظة، كان على ديكلان أن يوسع و يقوّي قاعدته من النفوذ. بأي وسيلة ضرورية.
وكان الزواج السياسي هو الورقة الأسهل و الأكثر فاعليّة التي يمكن لعبها.
كان من الجيد لو كان لديه أطفال، لكن ديكلان لم يكن متزوجًا بعد. و كان عليه أن يجد عروسًا قريبًا، لكن ذلك بحد ذاته كان صداعًا سياسيًا.
‘المرشحة الأنسب لموقع الملكة ستكون الابنة الكبرى للكونت روبرن، لكن…’
و أثناء إغماضه لعينيه للحظة من شدة الصداع، شعر بشخص يقترب.
فتح ديكلان عينيه قليلاً. كانت غلينا الجميلة، التي نشأت معه رغم أنها ليست من دمه، تحدّق به بعيون قلقة.
“ماذا كُتب في رسالة دوق دريك، أخي؟ هل كان الأمر خطيرًا؟”
كان صوت غلينا المرتفع و الواضح كالعندليب يخفّف من صداعه. ابتسم ديكلان ابتسامة باهتة و أجابها.
“يقول إنه لا يحتاج إلى الفدية و لا ينوي إعادة فانيسا. هذا كل شيء. يا له من متغطرس. لم يكلف نفسه حتى عناء كتابة تحية.”
“هذا… وقح حقًا. حتى و إن كانت عائلة دريك هي الحاكمة في إمبراطورية الشمال… فأنتَ ملك رونغرين، أخي.”
تحدثت غلينا بنبرة أظهرت بوضوح ارتباكها و استيائها. رفع ديكلان زاوية فمه بسخرية و ضحك بصوت ساخر.
“لقد أعمته حماية الإمبراطور. مثل جزار وضيع.”
كان ديكلان يعلم أن دوق دريك الحالي، يورغن، قد ارتقى إلى ذلك المنصب من القاع.
و لهذا كان ينظر إليه بازدراء.
يبدو أنه لم يتخلص بعد من عاداته السوقية. همجي لا يعرف حتى آداب السلوك.
“إذاً… ماذا ستفعل الآن؟ أعلم أن الماركيز بيوشين قال بوضوح، ‘إذا سمح جلالتك، أود أن أتخذ الأميرة زوجةً لي’…”
كان هناك قلق غير مخفي خلف كلمات غلينا المستفسرة. وقد فهم ديكلان بسرعة السبب، فتحدث بلطف و ابتسامة مطمئنة.
“لا تقلقي، غلينا. لن أرسلكِ إلى الماركيز بيوشين مكان فانيسا.”
ارتجفت غلينا قليلاً من المفاجأة، ثم تمتمت على الفور بصوت خافت.
“هذا… صحيح، لستُ أميرة حقيقية في النهاية.”
كانت غلينا ابنة بالتبني جلبها الملك الراحل، و على الرغم من أنها نشأت كعضو في العائلة المالكة مثل ديكلان و فانيسا، إلّا أنها لم تكن معترفًا بها كأميرة “حقيقية”.
و كانت هذه الحقيقة دائمًا عقدة بالنسبة لغلينا. فعلى الرغم من معاملتها كأميرة، إلا أنها كانت قشرة فارغة دون دم نبيل حقيقي. و لم تكن تتلقى حتى لقب “صاحبة السمو” من الخدم، بل كانوا ينادونها فقط بـ “الآنسة غلينا”.
و لم يكن ذلك كل شيء. فقد كانت هناك بعض الوصيفات ممن يخدمن غلينا ينظرن إليها بازدراء خفي.
و كان ديكلان يعرف هذا الأمر أيضًا، لكنه… إلى حد ما، تركه عمدًا دون تدخل.
ضحك و كأنّه يتنهد ثمّ مدّ يده نحوها. و بلطف مسح خد غلينا التي ارتجفت، و نظر إلى شقيقته غير المرتبطة بالدم بمودة عميقة.
“غلينا. ألا تعلمين كم أعتز بكِ؟ لن أزوجكِ لأيّ أحد. ستبقين بجانبي مدى الحياة.”
“……”
ارتعشت رموش غلينا الطويلة و الكثيفة. ونجحت شفتاها المرتعشتان في تشكيل منحنى رقيق.
تحدثت بصوت خافت كصدى آلة وترية.
“نعم، أخي…”
تحركت يد ديكلان إلى كتف غلينا.
كان هذا النوع من التلامس، الذي بدأ منذ المراهقة، قد أصبح أكثر وضوحًا عندما بلغت غلينا سن الرشد.
كانت غلينا معتادة على لمسات ديكلان إلى درجة أنها لم تعد تحصي عدد المرات التي حدث فيها ذلك.
“نعم، فتاة طيبة. غلينا العزيزة.”
“……”
ابتسم ديكلان بلطف، فابتسمت غلينا في المقابل.
غلينا الجميلة و الرّقيقة.
دمية ديكلان الأبدية.
✦ ✦ ✦
تعافت فانيسا من الإنفلونزا. كعادتها، و بعناد، نجحت في النجاة.
وبفضل رأي الطبيب الملكي أن المشي الخفيف سيكون مفيدًا لتعافيها، سُمح لفانيسا أخيرًا بالخروج من الحبس. و لكن، تم تعيين حرّاس لمرافقتها ومراقبتها في الوقت نفسه.
كان هناك حارسان يرافقانها و يراقبانها في آنٍ واحد. الأولى كانت الخادمة رينيه. لم تكن خادمة عادية، بل مبارزة تعلمت السيف من والدها الفارس. و يبدو أنه في الشمال، هناك العديد من النساء مثل رينيه ممن يتعلمن فنون القتال.
و الثاني كان الفارس المتغطرس، غارسيا. كان لا يزال يتصرف بتعجرف، وكل كلمة ينطق بها كانت تحمل سخرية خفية، لكن فانيسا لم تكن تنزعج منه. ربما لأنه لم يكن من النوع الذي تكرهه.
“هل سمعتِ بالفعل أن ملك رونغرين أرسل رسالة إلى جلالة الإمبراطور يعارض فيها زواج سيدنا من سموكِ؟ يبدو أنه يعتقد أنكِ ثمينة جدًا.”
كان غارسيا يمشي على مسافة قصيرة من فانيسا أثناء نزهتهما و سخر. نظرت إليه فانيسا بعينين واسعتين، متعجبة من كيفية قراءته لنوايا ديكلان بهذه السهولة.
و عندما التقت عيناهما، أمال غارسيا رأسه كأنه يسألها عن سبب نظرتها تلك.
عبّرت فانيسا عن شكّها بنبرة هادئة.
“في هذه الحالة أليس من الطبيعي أن يظنّ الآخرون أن أخي يعتزّ بي كثيرًا لدرجة أنه يريد إعادتي حتى مقابل فدية ضخمة؟ كلماتك غير متوقعة حقًا.”
“…لا أظن أن من يعتزّ بأخته سيجعلها تتزوّج لشخص وضيع مثل ليروي تيريفرون.”
انفجرت فانيسا ضاحكة من كلمات غارسيا التي أصابت الحقيقة.
كانت ضحكة من القلب. و كأنها تقول إن ظلمة ماضيها الحزين لم تعد تثقل كاهلها.
“معكَ حق. أخي نذل لا يراني إلا أدّاة. و المضحك أنه أخفى طبيعته القذرة تمامًا حتى وفاة والدنا.”
“…ألم تكوني تعلمين أنتِ أيضًا، سموكِ؟ ما نوع الشخص الذي كان عليه ديكلان رونغرين؟”
“بالطبع لم أكن أعلم. عندما كان والدنا على قيد الحياة، كان ديكلان ألطف أخ في العالم. كان يهمس باستمرار أنه سيحميني للأبد. لكنّها كانت كلها أكاذيب.”
“… فهمت ، توجد أميرة أخرى في العائلة المالكة لرونغرين.”
“تقصد غلينا؟ ليست من العائلة المالكة. لكنها نشأت تقريبًا كأميرة.”
توقف غارسيا فجأة، و لسبب ما سأل بنظرة فاحصة.
“إذاً، ألا تعتبرينها أختك؟”
نظرت فانيسا إلى غارسيا بتعبير حائر، متعجبة من سبب سؤاله الغريب.
“بالطبع أعتبرها أختي. غلينا أختي. لكن على عكسي، هي المفضلة لدى ديكلان، و لأنها ليست أميرة حقيقية، فغالبًا لن يتم بيعها في صفقة زواج.”
بدا أن غارسيا قد شرد في التفكير للحظة، ثمّ نظر إلى فانيسا بنظرة متفاجئة قليلًا.
“…أرى. صاحبة السمو أنتِ رحيمة بشكل غير متوقع. لا تبدين شخصًا سيئًا. رغم أنكِ ما زلتِ تبعثين بعض التشاؤم.”
“ماذا؟ هل لهذا السبب سألتني؟ هل كنتَ قلقًا من أن أكون شخصًا بلا قلب لا تعتبر الأخت التي نشأت معها من عائلتها؟”
“لا أثق بسلالات الدم النبيلة المزعومة. و لا يمكنني النظر إليهم بإيجابية. بالطبع، سيدنا استثناء.”
أدارت فانيسا عينيها من رده الفظ المعتاد. فقط لأن هذا هو الشمال و سيده هو يورغن، لو كان من عائلة نبيلة أخرى، لكان قد فقد معصمه أو كاحله بسبب هذه الكلمات.
“حسنًا… أظن أنني أستطيع تفهم سبب امتلاكك لمثل هذه القيم، بالنظر إلى الحياة التي عشتها.”
و خلال النزهة، و بينما تبادلا هذا الحديث العابر، كانت الخادمة رينيه تتبعهما بهدوء. كانت ترمق غارسيا بنظرات حادة و كأنها تطلب منه أن يصمت.
و كان بانتظار فانيسا عند عودتها إلى غرفتها، كعادته، يورغن بوجهه المتجهم.
نظراته، التي كانت تفحصها بعناية، كانت ثابتة بعض الشيء، لكنه بالطبع لم يقدّم أي تحية.
كلمات يورغن كانت، مرة أخرى، مجرد إشعار من طرف واحد.
“يجب أن نذهب إلى العاصمة للحصول على موافقة الإمبراطور على الزواج. سنغادر خلال أربعة أيام، ضعي ذلك في اعتباركِ.”
لم تكن الرحلة إلى العاصمة مفاجئة، إذ توقعتها فانيسا منذ أن سمعت عن خبر ديكلان.
فمن أجل مواجهة الرسالة التي أرسلها ذلك الوغد، كان على يورغن أن يقابل الإمبراطور شخصيًا. أومأت فانيسا بصمت، متجنبةً نظرات يورغن.
على الرغم من أنّها كانت ممتنةً حقًا لأنه أنقذها عندما سقطت في البحيرة في المرة الماضية، إلا أنها كانت لا تزال تخافُ منه و تشعرُ بعدمِ الارتياح تجاهه.
ومن كلماته ، بدا أن لديهِ ضغينةً ما ضدّها، لكن فانيسا لم تكن تملك أدنى فكرة عمّا يمكن أن تكون، لذا كانت تائهة تمامًا.
و بما أنّه لم يعد لديه ما يقوله، غادر يورغن الغرفة، بينما وقفت فانيسا وحدها بجوار النافذة، غارقة في التفكير. كان أفق الغرب يتحول إلى الأحمر مع غروب الشمس.
“العاصمة…”
كما يقولون، أكثر الأماكن ظلمة هو تحت المصباح، و من الأسهل الهروب من المطاردين في مدينة كبيرة و معقدة.
لذلك، ربّما تكون هذه الرحلة إلى العاصمة فرصة لفانيسا.
“قد أستطيع الهروب بعيدًا عن قبضة ذلك الرجل. ولكن…”
و ماذا سيحدث بعد أن أهرب؟
سيتوجب عليها الاختباء لفترة. لا يمكنها البقاء طويلًا في العاصمة أو أي مدينة، فربما في قرية جبلية نائية… لبضع سنوات…
لن تكون حياة سيئة. قد يكون من الجيد فقط ترك كل شيء و العيش بهدوء هكذا.
لكن حينها…
“لن أتمكن من الانتقام من ديكلان.”
الحقد الشديد و الغضب اللذان اشتعلا فجأة وأحرقا قلبها بالسواد، حتى عندما ظنت أنها نستهما.
هل يمكنها أن تعيش بسلام بينما تكبت رغبة الانتقام هذه؟
هل مِثل هذا الشّيء ممكنٌ حقًا؟
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"