الفصل السادس: القبلة الأولى
…كانت تلك أول قبلة.
تفاجأت إميليا بشدة، فدفعت ديفيد محاولة الابتعاد عنه.
غير أن ديفيد أمسك بذراعها ومنعها من النهوض، ثم أغلق عينيه. ارتبكت إميليا بشدة حتى شُلّ تفكيرها تمامًا.
وفي اللحظة التالية، ضمّ ديفيد إميليا التي كانت مذهولة، ورفع جسده واقفًا.
«خُدِعت…!»
ما إن أدركت إميليا نية ديفيد الذي شتّت انتباهها بالقبلة ليستغل الفرصة للنهوض، حتى تحوّل وجهها الذي كان محمرًا إلى شاحب، ثم سرعان ما اكتسى بظلٍّ من اليأس الأزرق.
شعرت أن كل شيء قد انتهى.
كانت عيناه تتجهان نحو النافذة.
إذن فلا بد أنه رآهم… الشرطة التي كانت تلاحقهم.
وبالفعل، بدا جليًّا من تعابير وجهه المتجهمة وهو يحدق نحو الخارج أنه قد رآهم.
بتسليم تام، اتكأت إميليا على ديفيد وأدارت رأسها نحو النافذة لتتأكد بنفسها من وجود الشرطة التي يتابعها الدوق.
لكنّ من رأتهم خارج النافذة… لم يكونوا شرطة.
كان من يظهر هناك…
«ماثيو…؟»
كان ماثيو يركض نحو مقرّ القيادة لاهثًا.
«ما… ماثيو…!»
كادت إميليا أن تصرخ من فرط فرحتها.
يبدو أن قوات التحرير قد تمكنت من قمع المتسللين.
فلو كانت الهزيمة من نصيبهم، لما كان ماثيو ليركض باتجاه مقرّ القيادة بهذه الطريقة.
كان منزل ماثيو، الذي يعيش فيه متخفيًا كأحد سكان بلتايت، يقع قرب مقر القيادة في القطاع التاسع عشر. يبدو أن قوات التحرير استدعته للمساعدة في ترتيب الأوضاع بعد القضاء على التهديد.
بينما كانت إميليا تشعر بالارتياح، توقفت السيارة فجأة بسبب إشارة مرور، فسقطت مباشرة في أحضان ديفيد.
عندما ارتخت أعصابها فجأة، فقدت القوة التي كانت تستند بها عليه.
في لحظة سقوطها، كانت على يقين أنه سيدفعها بعيدًا. صحيح أنه قبلها قبل قليل لخداعها، لكنه في الموعد السابق كان قد رفضها.
برفضه الخروج معها مجددًا.
كان واضحًا أنه لا يحمل مشاعر تجاهها.
لكن، وعلى خلاف ما توقعت، لم يبعدها ديفيد عنه.
بل على العكس، احتضنها من جديد، مشددًا على ذراعيه حولها.
شعرت إميليا بالارتباك، واكتفت بالتحديق بعينيه وهي بين ذراعيه كطفلة صغيرة.
“د… دوقي؟”
عندما نادته، خفض بصره نحوها حتى تلاقت أعينهما.
ثم سألها سؤالاً غريبًا، لم تفهم مراده منه.
“هل أنت بخير؟”
“…نعم؟”
هل يعقل أنه يقصد إن كانت بخير بعد إطلاق النار؟ لا يبدو منطقيًا…
“إذا كنت تشعرين بألم في مكانٍ ما، فقولي لي.”
سألها وهو يتفحص أطرافها وكأنما يتحقق من وجود إصابات.
ارتبكت إميليا. لكن ما تأكدت منه تمامًا هو أنها شعرت بدفء في قلبها من اهتمامه المفاجئ.
وكان حضنه ناعمًا، دافئًا.
عندما التقت به أول مرة في قاعة الحفل وتجاهلها، ظنت أنه بارد ومتجهم.
بينما كانت شاردة في حضنه، أدركت فجأة أنها بقيت فيه طويلًا.
ربما انكسر حذرها دون أن تدري، بسبب إحساسها بأنها تتلقى رعاية.
“آسفة… آسفة!”
قالت إميليا وهي تنهض بسرعة وقد احمرّ وجهها خجلاً.
ابتسم ديفيد مشيرًا بأن لا بأس.
لكنها، وهي في خضم شعورها بالذنب، لم تستطع إدراك تلك الابتسامة.
«كيف لي أن أسترخي في حضن الدوق…! بلتايت نفسه، كارواين الدوق!»
بينما كانت غارقة في خجلها، أمسك ديفيد بذراعها، وأجلسها على المقعد، ثم جلس هو أيضًا. بعد ذلك، نظر إلى زجاج النافذة وبدأ في تعديل ربطة عنقه.
وخلال انشغاله بتصحيح ملابسه، بدأت إميليا تحدق في قدميها كأنما تلومهما، لتكتشف فجأة أنها لم تكن ترتدي حذاءً عندما هربت.
رفعت رأسها إلى المرآة الداخلية، فرأت شعرها المبلل غير المربوط بعد الاستحمام وقد تشابك. لحسن الحظ، كانت السماء تمطر، ما جعل شعرها يبدو وكأن المطر هو من بلّله، لا الاستحمام.
تجوّلت نظرات ديفيد نحوها عبر المرآة: من شعرها الأشقر المبلل، إلى قدميها العاريتين المغطيتين بالجروح والطين. عبس وكأن شيئًا ما أزعجه بشدة، ثم سألها:
“يبدو أنك كنتِ في عجلة من أمرك. لدرجة أنك لم تنتعلي حذاءً.”
“آه…”.
لم تستطع إميليا الإجابة.
فهي لم تكن تستطيع شرح سبب ظهورها على هذه الهيئة، وهروبها إلى سيارته.
«لو سألني…»
فبماذا ستجيبه؟ لا تشعر أنها قادرة على الكذب عليه.
لكن لحسن حظها، لم يطلب منها شرح ما حدث.
بل التفت إلى السائق وأصدر تعليمًا غريبًا.
“رايوت، لنذهب إلى متجر ميل.”
كان “متجر ميل” أحد أشهر محال الأحذية في بيلن.
كان السائق قد بدأ يقود باتجاه المسرح، وجهتهم الأصلية، لكنه سرعان ما غيّر الاتجاه برشاقة نحو المتجر.
سألت إميليا باندهاش:
“لماذا متجر ميل؟”
“ما رأيكِ؟”
“هل… هل تنوي شراء حذاء لي؟”
أومأ ديفيد رأسه بدلاً من الإجابة.
«لا يجوز…!»
تلك العبارة صعدت إلى حلقها وكادت أن تخرج.
من يشتري لها حذاءً… يصيبه سوء الحظ.
في تلك اللحظة، تذكّرت إميليا ذلك اليوم من خريف كانت فيه في الثانية عشرة، حين نادت عليها سكارليت بلاير باسمها بكل دفء.
في ذلك اليوم، كانت الأرصفة مغطاة بأوراق الخريف الملونة.
“إميليا؟”
أمي…؟
هل ناديتِني…؟
لطالما تمنت أن تناديها سكارليت، وأن تناديها هي بـ”أمي”.
“الحذاء لا يناسب قدميك، أليس لديكِ غيره؟”
سألتها سكارليت، لكنها لم تكن تملك غيره.
الحذاء الذي ارتدته عندما جاءت إلى قصر آل بلاير كان باليًا لا يصلح للبس.
حتى الحصول على حذاء صغير من أحد الخدم يتطلب منهم تفضلاً كبيرًا.
“لا… لا أملك.”
أجابت إميليا بخجل مكسور.
نظرت إليها سكارليت بنظرات معقدة، ثم ابتسمت بلطف وقالت:
“هيا، تعالي معي. سأشتري لكِ حذاءً يناسب قدميك.”
كانت متوجهة برفقة بيلي بلاير في نزهة، فأخذت إميليا معها في العربة.
لكن وقع حادث.
ضحّت سكارليت بنفسها لحماية إميليا… وتوفيت.
ولم يكن ذلك خطأ إميليا بالضرورة، فحتى بيلي بلاير، الذي لم يكن يبالي بها، توفي في الحادث ذاته.
لكن خدم آل بلاير لم يتركوها لحالها.
“الليدي توفيت بسببكِ.”
“لو لم تحاول حماية فتاة قذرة ابنة عاهرة، لكانت لا تزال على قيد الحياة.”
“يجب أن تمضي حياتكِ كلها في التكفير عن ذنبك تجاهها!”
كبرت إميليا وهي تحمل عبء ذلك الذنب في قلبها.
وقد جعلت من آخر ما سمعته من سكارليت وصيّتها الأخيرة.
“إميليا… أرجوكِ، اعتني بتشارلز.”
“اعتني بتشارلز.”
كانت وصيتها الأخيرة.
وعندما تذكرت صوت سكارليت، شعرت إميليا بحرقة في قلبها. لا يجب أن يشتري أحد لها حذاءً. أبدًا.
من يفعل، يُصاب بالشؤم.
لكن…
«لو أصيب كلب بلتايت بسوء… فهل يهمني؟»
راودها هذا الخاطر فجأة. لماذا كانت ستمنعه؟
ربما بسبب الاشتباك المفاجئ، أو لأن سلوك ديفيد بدا دافئًا على غير العادة، فتشوشت مشاعرها.
وبينما كانت تحاول أن تتمالك نفسها، كانت السيارة قد وصلت إلى متجر ميل.
فات الأوان لتمنعه من شراء الحذاء.
حدّقت إميليا في المتجر من خلال النافذة بدهشة.
خلع ديفيد حذاءه ووضعه قرب قدميها.
“ارتديه.”
“…”
هل يقصد أن تذهب وحدها؟
ظنّت ذلك، فوضعت قدمها داخل حذائه بصمت.
ثم التفت ديفيد إلى السائق وقال:
“هل يمكنك إعارة حذائك؟”
“هل… هل تنوي الدخول معي؟”
سألت إميليا بدهشة، وقد اتسعت عيناها.
نظر إليها ديفيد وكأنها سألت شيئًا بديهيًّا للغاية.
ظنّت إميليا أنه من غير المعقول أن يكون الدوق لطيفًا إلى درجة أن يذهب معها لشراء الحذاء، لذا شعرت بشيء من الحرج.
كان حذاء السائق واسعًا قليلًا على ديفيد.
فرغم أن ديفيد طويل القامة، يبلغ طوله 196 سنتيمترًا، ويمتلك قوامًا ممشوقًا خاليًا من الدهون بفضل ساقيه الطويلتين، إلا أن عرض كتفيه وعضلاته المتينة جعلا هيئته ضخمة، ومع ذلك، كان السائق أكثر ضخامة منه.
وبينما كانت إميليا تسير تحت المظلة إلى متجر “ميل” برفقة الدوق، تساءلت في نفسها:
هل فعلها بدافع المراعاة؟
هل تعمّد ارتداء حذاء واسع ليتيح لي ارتداء الأصغر حجمًا؟
لكن كان من الصعب تصديق أن دوقًا متغطرسًا، مشهورًا بطباعه المتسلطة والأنانية، قد يملك مثل هذه الدرجة من التعاطف.
غير أنها ما إن وصلت إلى الرواق أمام المتجر، حتى شعرت بشيء ثقيل يلقى على كتفها.
التعليقات لهذا الفصل " 6"