الحلقة الرابعة (الممثلة والمعجب)
كانت عينا إميليا معلقتين على التقويم.
لقد مرّ أسبوعان تمامًا منذ لقائها بالدوق في الحفلة.
خلال الأسبوعين الماضيين، اعتلت خشبة المسرح سبع مرات، لكنه لم يحضر أياً من تلك العروض.
كانت تنتظر حضوره.
فقد طلبت منه أن يعوّضها عن تجاوزه في الحفلة بمشاهدة أحد عروضها.
قالت له يومها:
“سيدي الدوق، أنتم تدعمون مسرح لايت، حيث أعمل، أليس كذلك؟”
“أنا لا أدعمه شخصيًا، أظن أن الشركة تقوم بذلك. ولمَ تسألين؟”
“أريدك أن تحضر أحد عروضي، وأن تنتظرني بعد انتهائها، ثم تقول لي عندما أخرج إن العرض كان رائعًا. مجرد سماعي لهذا منك سيمنحني دفعة كبيرة في مسيرتي كممثلة.”
بهذا الطلب، كانت ستبدو طموحة لا أكثر، ولن يثير هدفها الحقيقي الشكوك.
أما الغاية الحقيقية، فكانت ترتيب لقاء جديد مع الدوق.
كان عليها أن تراه مجددًا إن أرادت التقدم في خطتها. وربما تعوض عن تراجعها يوم الحفلة بأدائها على المسرح.
فأجابها:
“سأحاول أن أجد وقتًا.”
لكنه لم يأتِ حتى الآن.
قررت إميليا أن تنتظر حتى يصبح العدد سبعة عشرة.
فالدوق مشهور بذوقه الرفيع وقلة علاقاته النسائية، وإن بالغت في الإلحاح، فقد تخسره تمامًا.
واليوم هو اليوم الثامن لصعودها إلى المسرح، ويصادف تمامًا مرور أسبوعين على لقائهما.
**************
في مكان آخر…
دخل ديفيد إلى السيارة، وأغلق السائق الباب خلفه.
كان منهكًا، فاسترخى في المقعد وأطلق تنهيدة طويلة. على الرغم من أنه يوم عطلة، إلا أنه اضطر للعمل.
بينما تحركت السيارة عائدة نحو القصر، ركض بوريس، سكرتيره، خارج مبنى الشركة وهو ينادي:
“سيدي الرئيس! سيدي!”
توقف السائق فجأة حين سمع الصوت، مما جعل ديفيد ينحني للأمام بتأفف.
اقترب بوريس مسرعًا، حاملاً معه خبرًا لم يُسرّ ديفيد به على الإطلاق:
“تلقينا اتصالاً من القصر… الأميرة قد وصلت.”
“كريستينا؟”
أطلق ديفيد تنهيدة أخرى، أطول من السابقة.
يبدو أن الأميرة جاءت لتسمع جوابه أخيرًا.
فقد زارته الأسبوع الماضي أيضًا، قائلة:
“ديفيد، لقد أصبحت راشدة الآن.”
“أعلم.”
“تعلم؟! وهذا كل شيء؟!”
“ولِم لا؟”
“تزوجني.”
“…لا.”
“أ… أترفض دون أن تفكر حتى؟!”
“لا يستحق الأمر التفكير.”
“سأمنحك أسبوعًا للتفكير.”
“قلت إن الأمر لا يستحق التفكير.”
“لا أطلب منك أن تفكر، بل أن تستعد لقبول طلبي. وسأعود بعد أسبوع لسماع ردك. وأقولها مسبقًا، الرفض مرفوض.”
مرر ديفيد يده على وجهه، متأففًا من اضطراره للتعامل مع تلك الأميرة المدللة مرة أخرى.
إن التقاها اليوم، فربما ينفجر بها ويخبرها بجميع الأسباب التي تمنعه من الزواج بها.
سأله السائق مترددًا:
“هل نذهب إلى القصر…؟”
أجاب ديفيد وهو يحدق بشعر السائق الأشقر اللامع:
“ما التاريخ اليوم، يا رايوت؟”
“إنه التاسع عشر، سيدي.”
لقد كان محظوظًا. اليوم هو موعد عرض إميليا.
رغم انشغاله طوال الفترة الماضية، كان قد حفظ هذا الموعد مسبقًا.
“لنذهب إلى مسرح لايت.”
أمر ديفيد، فانطلقت السيارة إلى هناك.
***********
على المسرح، كانت إميليا في قمة توترها. فقد علمت أن الدوق كارواين حاضر في العرض.
ولم يكن الأمر صعبًا، فما إن دخل إلى المسرح حتى بدأت الأحاديث عنه تدور في كل مكان:
“هل رأيتِ؟! الدوق هنا!”
“إنها المرة الأولى التي أراه فيها شخصيًا، كدت أفقد بصري من وسامته!”
“كيف يكون شخص ما بتلك الجاذبية؟ وسيم، غني، قوي، ذو مكانة… لا شيء ينقصه.”
“هكذا تبدو الكماليات… دوقنا، هو النور ذاته!”
كان دوق كارواين لشريحة من الناس نجمًا يحلمون بلقائه ولو مرة واحدة، ولآخرين حبيبًا مثالياً يتمنون لحظة قرب معه.
ومع كل هذا، كان من السهل رؤيته من على الخشبة، فقد جلس في المقصورة الأمامية، حيث الرؤية واضحة.
مدير المسرح أسرع بإجلاسه هناك فور وصوله.
طوال العرض، شعرت إميليا وكأن نظراته مثبتة عليها. حتى عندما لم تكن تتحدث، كانت عيناه تتابعانها.
‘لماذا ينظر إلي هكذا؟’
تزايد توترها.
************
أما ديفيد، فكان مستمتعًا.
فمشاهدة إميليا على المسرح كانت ممتعة بالفعل.
الفتاة التي كانت واثقة وجريئة يوم التقيا، بدت أكثر حياةً فوق الخشبة.
بكت وضحكت، وأظهرت مشاعرها بصدق. كانت مليئة بالشغف.
لكن خلف هذه القوة الظاهرة، عرف ديفيد أنها فتاة هشة، حتى اللمسة كانت تؤذيها.
لم يقدر أن يبعد نظره عنها.
وحين انتهى العرض، ارتسمت على شفتيه ابتسامة راضية.
غير أن سعادته لم تدم طويلًا.
فما إن غادر المقصورة ودخل الرواق حتى لمح الأميرة، تتحدث بارتباك مع إحدى معارفها، وقد بدا أنها جاءت فور أن علمت بوجوده.
‘تبا…’
فكر أنه إن خرج ليقابل إميليا، عليه أن يمر بجانب الأميرة، وستوقِفه حتمًا.
لكن حينها، سمع صوتًا من خلفه:
“سيدي الدوق؟”
التفت. كان مدير المسرح.
“هل استمتعت بالعرض؟ هل نال إعجابك؟”
كان متملقًا، ينظر إليه برجاء.
ابتسم ديفيد بلطف:
“آه، السيد نوريس. نعم، العرض كان ممتعًا جدًا.”
كان ديفيد معروفًا بعدم اهتمامه بالفنون، وقيل إن دعمه للمسرح فقط من باب تحسين صورة شركته.
لذا، اندهش مدير المسرح حين سمع المديح من لسانه، وزاد اندهاشه حين تذكّر اسمه.
اندهش لدرجة أنه تأثر فعلًا.
“سيدي الدوق؟! أن تقول إنك استمتعت، هذا شرف عظيم لنا…!”
“بالمناسبة، لدي طلب.”
“طبعًا! تفضلوا بأي شيء!”
“كيف يمكنني مقابلة الممثلة التي أدت اليوم؟”
*********
أثناء مرافقة مدير المسرح لديفيد إلى غرفة الكواليس، كان يتساءل من هي تلك الممثلة التي سحرت قلب هذا الدوق الجليدي؟
أراد أن يسأله، لكنه لم يجرؤ، فالدوق لم يكن ممن يُسألون بسهولة.
لكن لحسن الحظ، سيعرف الإجابة قريبًا.
قبيل وصولهم، توقف ديفيد فجأة.
رأى وجهًا مألوفًا في مجموعة من الناس يقفون قرب الكواليس.
“مارفين؟”
“ديفيد؟”
أجابه شاب بدا نبيلًا من النظرة الأولى، بمناداته باسمه.
“ما الذي تفعله هنا؟ أنت لا تحب العروض.”
“ظروف معينة. وأنت؟”
“جئت لأقابل حبيبتي.”
قال مارفين، وهو يرفع باقة من الورود بفخر.
“أخبرتك سابقًا أنني أواعد ممثلة من مسرح لايت، أليس كذلك؟”
ظهر على وجه ديفيد تعبير يدل على أنه يسمع هذا الكلام لأول مرة.
فضربه مارفن بخفة على صدره بحزمة الورود التي كان يحملها، معاتبًا إياه:
“أنا أخبرتك بوضوح، لكنك من لم يتذكر. دائمًا تتذكر فقط ما ترغب في تذكره، فماذا عسانا نفعل بك؟”
في تلك اللحظة، ثبت ديفيد نظره على باقة الورد التي كان مارفن يلوح بها.
وفي اللحظة التالية، انتزع ديفيد باقة الورد من يد صديقه فجأة.
“سأستعيرها.”
“ماذا؟ أَه… أَه…!”
وقبل أن يدرك مارفن تمامًا أنه قد سُلب الورود، كان ديفيد قد ابتعد بخطواته الواسعة مبتعدًا بسرعة.
ركض رجل قصير ممتلئ خلفه وهو يلهث محاولًا اللحاق به.
تجمد مارفن لحظة وهو يحدق بذلك الرجل، ثم صرخ باتجاه ظهر صديقه الذي كان يبتعد أكثر فأكثر:
“أيها اللص… أيها النبيل اللعين!”
لكن صديقه لم يرد إلا بالتلويح بحزمة الورود، التي “استعارها”، فوق رأسه.
سادت الصمت فجأة في غرفة استراحة ممثلي مسرح “لايت”.
فقد دخل الدوق إلى الغرفة.
في البداية، صُدم الممثلون من ظهوره المفاجئ، فلم يستطيعوا التفوه بكلمة. ثم، عندما رأوا باقة الورود الحمراء في يده، عجزوا عن فتح أفواههم من جديد.
(لمن ينوي إعطاء هذه الورود…؟)
كانت “رايتشل دونا”، بطلة عرض اليوم، متوترة على وجه الخصوص.
ارتجف فمها غير المتناظر قليلاً من شدة الترقب.
لكن ديفيد، الذي التقت عينيه بعيني رايتشل، ألقى نظرة سريعة على بقية الممثلين بهدوء، ثم بدأ يسير مبتسمًا ابتسامة خفيفة، وكأنه وجد من كان يبحث عنه.
عبر الغرفة حتى وقف أخيرًا أمام “إميليا”.
كانت إميليا قد بدأت للتو بإعادة ربط شعرها بسرعة استعدادًا للخروج للبحث عنه، لكنها فوجئت به أمامها.
(لماذا هذا الرجل في غرفة الاستراحة…؟)
ناولها ديفيد باقة الورود الحمراء، وقد ارتبكت.
“أتيت لأعطيكِ هذه، آنسة برايت.”
“يا سمو الدوق؟”
“لقد أصبحت من معجبيكِ.”
ثم ابتسم لها ابتسامة كانت أجمل من الورود نفسها.
التعليقات لهذا الفصل " 4"